طفل يبكي ويستعطف الطبيب من أجل إنهاء عملية الغسيل الكلوي سريعاً، لكي يذهب مع أصدقائه لقضاء يوم ممتع في نزهة تستغرق حوالي 4 ساعات ولكن الطبيب يحذره بشدة من بذل أي مجهود قد يؤثر على صحته، فبحسرة وحزن شديد يقول «محمود محمد» البالغ من العمر 12 عاماً للطبيب «نحن نعيش يوماً ونموت آخر» فدعنا نقضي بضع ساعات في اليوم الذي نحيا فيه في سعادة لننسي ألمنا، فالطبيب يوافق علي الفور والدموع تنهر من عينيه إشفاقاً وعطفاً علي الطفل المسكين الذي حرم من طفولته مبكراً، وفي اليوم التالي يعود الطفل إلي المستشفي في حالة إعياء شديدة بعد اليوم الذي خرج للتنزه فيه، وعلي الفور الطبيب يبدأ في إجراء عملية الغسيل الكلوي له من أجل أن يعود للحياة مرة أخري. أب يتوسل لطبيب آخر لإجراء عملية لنقل كليته لابنه الشاب البالغ من العمر 21 عاماً لأنه لا يتحمل ألم فلذة كبده كل يوم، فيفضل أن يتنازل عن عضو من جسده لكي يحيا ابنه حياة طبيعية كباقي الشباب. هذه حكايات بسيطة لمعاناة أسر ومرضي الغسيل الكلوي الذين يتألمون يومياً ولا يستمع أحد إلي آهاتهم، فهم يعيشون في جحيم، لا هم أحياء يعيشون حياة طبيعية مثل باقي البشر ولا هم أموات. وانطلاقاً من هذه القصص التي تقشعر لها الأبدان، سنفتح ملف مرضي الفشل الكلوي، ونتعرف علي معاناتهم عن قرب وأبرز مشكلاتهم، وكانت المفاجأة المفجعة هي عدم وجود إحصائية دقيقة عن أعداد مرضي الغسيل الكلوي، فبحسب التقارير الصادرة عن وزارة الصحة يصل أعدادهم إلي 60 ألف مصاب، أغلبهم دون سن ال50، تنفق الدولة علي 30 ألفاً منهم سنوياً حوالي 900 مليون جنيه، ولكن رغم هذا الإنفاق الكبير، إلا أن نسبة الوفيات وصلت إلي 25% سنوياً، وهو يرجعه بعض الأطباء إلي تردي مستوي الخدمات في وحدات الغسيل بالمستشفيات الحكومية والخاصة علي حد سواء والتي يصل عددها إلي 460 وحدة تستقبل آلاف المصابين يومياً. وفي تقرير آخر صادر عن الجمعية المصرية لأصدقاء مرضي الكلي بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، أفاد بأن عدد المرضي المصابين يبلغ 114 ألفاً و287 مريضاً يترددون على 309 مراكز حكومية وخاصة. وليست الكارثة في الإحصائيات فقط، بل تمتد إلي الإهمال الذي أصبح يهدد حياة آلاف من المرضي، ويتسبب في إصابتهم بالفيروسات الكبدية أو مرض نقص المناعة «الإيدز»، فبحسب تقرير صادر عن الجمعية المصرية لأصدقاء مرضي الكلي فإن أكثر من 80% من المراكز الحكومية والخاصة تستخدم محلول «الاسيتيت»، التي حذرت العديد من الدراسات من استخدامه، بسبب أضراره البالغة الخطورة والتي تتمثل في ضعف عضلة القلب وهبوط في ضغط الدم، فضلاً عن أن الفلاتر المستخدمة في عمليات الغسيل تخالف المواصفات والشروط الصحية لتشغيلها، فحوالي 48% فقط من وحدات الغسيل الكلوي هي التي تستخدم فلاتر مطابقة للمواصفات ذات الحجم المضغوط 834 ملل، أما باقي الفلاتر يتراوح حجمها ما بين 3.1 مم إلي 8.6 مم، مما يتسبب ذلك في نقل الدم الملوث للمريض علاوة علي الأمراض الأخري. حكايات مؤلمة «حسبنا الله ونعم الوكيل» دعاء ردده «عادل هاني» 45 عاماً والدموع تنهمر من عينيه ليبرز معاناته وألمه الشديد، حيث أصبح يحمل مرضاً آخر وهو الالتهاب الكبدي الوبائي فيرس «سي»، فضلاً عن مرضه بالفشل الكلوي. وحكي « هاني» أنه تردد علي معهد «تيودور بلهارس» بعدما أصيب بمرض الفشل الكلوى المزمن قبل ستة أشهر، واكتشف بعد عدة جلسات أنه مصاب بالفيرس بسبب إهمال الممرضات وعدم التعقيم الدائم للحجرة الغسيل، علاوة علي الأجهزة التي لا يتم تنظيفها باستمرار. وقال المريض إن أجهزة الغسيل بالمعهد متهالكة للغاية، وكثيراً ما تتكرر أعطالها بشكل يومى، وهو ما يتسبب فى تأجيل بعض الجلسات؛ مما يؤثر علينا صحياً، والأخطر من ذلك أن هذه الأجهزة قد تتعطل فى منتصف الجلسة مما يتسبب فى إحداث مضاعفات خطيرة لكثير من المرضى. وحكاية «هاني» نقطة في بحر معاناة مرضي الفشل الكلوي التي لا تنتهي، فصرخاتهم لم تهز أرجاء المكان وتؤلم المواطنين الذين يشعرون بمعاناتهم، ولكن هذه الصرخات وإن وصلت للمسئولين فهم دائماً لا يعبأون بها، ويتبعون المثال الشعبي الشهير «ودن من طين وأخري من عجين»، ولرصد هذه المعاناة عن قرب قامت «الوفد» بجولة ميدانية في معهد «تيودور بلهارس» لمعرفة شكاوي المرضي علي أرض الواقع، ورصد مظاهر الإهمال التي تنتشر في المعهد. بداية، منذ دخولنا إلي المعهد الذي يرجع تأسيسه إلي عام 1981، لفت نظري بقع وتشققات متواجدة علي الحوائط والأسقف التي أتلفتها الرطوبة، أما عن الأقسام فحدث ولا حرج، فالقاذورات تنتشر علي الأرضيات والقطط تستقبل الزائرين عند دخولهم غرف المرضي، فضلاً عن اختطافها في بعض الأحيان الوجبات الغذائية، وعيادات الكشف تستقبل المرضي في التاسعة صباحاً وتغلق أبوابها في وجوههم عند الثانية ظهراً، غير مكترسة بتوسلاتهم ولا آلامهم ولا المسافات الطويلة التي يقطعها معظمهم للوصول إلي المكان، أما بالنسبة للدور الرابع والمخصص لإجراء عمليات الغسيل الكلوي للمرضي فهو عبارة عن كومة من الرماد، والحوائط المحطمة، فضلاً عن القمامة المنتشرة، فالمعهد أجرى مناقصة لبناء وتطوير هذا الدور، ورست على أحد المقاولين، وتعثر بعد ذلك البناء، بسبب أمر الرقابة الإدارية بوقفه، لوجود مخالفات في المستخلصات التابعة للمقاول، مما دفع المقاول للهرب. ومن المشاهد التي تكشف حجم الإهمال قيام عامل بالتجول بدراجته في الأدوار والمصاعد بمنتهي السهولة ولا أحد يعقب علي فعلته، وعندما سألت أحد أفراد الأمن ويدعي «س. م» أكد أن الإهمال بالمعهد وصل إلي ذروته فلا أحد يحاسب أي مقصر، مشيراً إلي أن التجاوزات كثيرة، حيث تأتي الممرضات متأخرات يومياً عن موعدهن وينصرفن مبكراً ولا يحاسبهن أحد، فضلاً عن التعطل المستمر للمصاعد وعدم اهتمام مهندسي الصيانة أو الإدارة بتصليحها. واستطرد حديثه قائلاً: «لنا الله» فحياتي يومياً في خطر بسبب الاعتداءات المتكررة من بعض البلطجية، ورغم قرب قسم الشرطة من المعهد، إلا أننا دائماً نفضل عدم الخبرة بالواقعة، لأنه لا يعبأ باستغاثاتنا ويصلون بعد فوات الأوان، ولفت إلي أنهم يحمون الأطباء بسواعدهم. وتدخل موظف آخر في الحديث، يدعي « م. ع» قائلاً: 50% من أجهزة الغسيل معطلة والإدارة تعلم ذلك جيداً ولكن لا تهتم بإصلاحها، وأكد أن المعهد عبارة عن إمبراطورية يتحكم بها العاملون في كل شيء ولا يستطيع أحد محاسبتهم، فأكثر من 99% من أبنائهم يعملون بالمكان رغم أن معظمهم لا تنطبق الشروط عليهم ولكن الواسطة والمجاملات لها الكلمة العليا قبل كل شىء. ومن شكاوي الموظفين والعمال إلي مشاكل المرضي، فيقول «أحمد فوزي» 44 عاماً إنه يأتي ثلاث مرات في الأسبوع من المنوفية لإجراء جلسات الغسيل وتكبد تكاليف المواصلات والعلاج، ولكنه تعب كثيراً من هذه المعاناة ويتمني أن يموت لكي يرتاح، مؤكداً أنه قام برهن بيته لأحد التجار نظير مبلغ يستطيع أن يشتري به تكاليف الدواء الذي يقوم بشرائه شهرياً. ويحكي «مصطفي محمد» 35 عاماً: «أنه يقوم بشراء كيسين من الدم شهرياً ثمن الواحد حوالي 150 جنيهاً، علاوة علي تكاليف العلاج والمواصلات التي تقدر بحوالي 800 جنيه، مستطرداً حديثه والدموع في عينيه: «أجيب منين كل هذه المصاريف فأنا موظف بسيط ودخلي لا يتعد 1200 جنيه و70% من راتبي يتم صرفه علي مرضي، ولولا خوفي علي أولادي لانتحرت من زمان. ويتابع «محسن سليمان» مريض يعالج علي نفقة الدولة: «لا سبيل أمامي إلا اللجوء للمستشفيات الحكومية والعلاج علي نفقة الدولة، فثمن الجلسة الواحدة في المراكز الخاصة يصل إلي 170 جنيهاً، علاوة علي مصاريف الانتقال والعلاج والتي لا أستطيع تحمل تكلفتها، مؤكداً أنه عاني كثيراً إلي أن تم إصدار قرار لعلاجه. ومن جانبها، تتحدث فوزية محمد عن معاناتها بسبب مرض ابنتها البالغة من العمر 13 عاماً قائلة: «أعرف تماماً أن مرض الفشل الكلوي ابتلاء من الله عز وجل ولابد من قبوله، ولكن لا أستطيع تحمل معاناة ابنتي الصغيرة فهي تتألم يومياً أمامي، وأقف عاجزة لا أستطيع أن أفعل لها شيئاً، مشيرةً إلي أن ابنتها ترفض كل مرة الذهاب إلي المستشفي لإجراء عملية الغسيل ولكنها تأخذها رغماً عنها، وعندما ترفض الجلوس علي الجهاز تكتفها وتضعها بالقوة، وتابعت: الطبيب أشفق علي ابنتي وأعطي لها علاجاً للاكتئاب بعدما ساءت حالتها النفسية والجسدية. نقضي معظم عمرنا علي أجهزة الغسيل، فيوماً نموت وآخر نعيشه، بهذه الكلمات تحدث «الحاج» علي إسماعيل» 65 عاماً عن معاناته قائلاً: «نقضي حوالي أربع ساعات في غرفة الغسيل لعمل الجلسات، وباقي ساعات اليوم تكون ما بين مضاعفات صحية وحالة من الإعياء لا تمكننا في ممارسة حياتنا بشكل طبيعي. مأساة بمجرد أن يعلم المريض أنه مصاب بالفشل الكلوي يعاني من أزمة نفسية حادة حتي يتأقلم مع هذه المأساة التي فرضها الواقع المؤلم المليء بالتلوث والأمراض عليه، فبعد علمه مباشراً يتوجه إلي أقرب مركز أو مستشفي من أجل إجراء عملية الغسيل والتي تتم عن طريق الشرايين والأوردة المتواجدة بالرقبة، حيث يتم تركيب «كُلونة» للمريض وتظل برقبته إلي أن يقوم بإجراء عملية توصيل شريان بوريد في الذراع والتي يقدر ثمنها حوالي 4 آلاف جنيه، من أجل أن تتم عملية الغسيل عن طريق الذراع وبعد مضاعفات، يكون جاهزاً لإجراء عملية الغسيل عن طريق الذراع بعد 45 يوماً، وهنا تبدأ رحلته مع الغسيل بشكل طبيعي حيث يتم توصيل أنبوب بذراع المريض لسحب الدم بفلتر ذي شعيرات دموية يستخلص الشوائب، ثم يعود من جديد إلي ذراع المريض عبر أنبوب آخر. وأثناء هذه العملية التي تضعف من طاقة المريض وتقلل نسبة الحديد في جسده، في المراكز الحكومية ومعهد تيودور بلهارس خاصةً لا يتم تقديم أي مشروبات للمريض أو وجبة غذائية، فبعض المرضي يحرصون علي عدم تكبد المزيد من المصاريف ولا يقومون بشراء بعض الأطعمة او العصائر مما يجعلهم يشعرون بمضاعفات بعد الجلسة وبعضهم يصاب بحالة إعياء شديدة. الحقونا صرخات المرضي صداها ينتشر في كل مكان، بسبب الإهمال المنتشر في المستشفيات والمراكز الحكومية، والذي قد يكلفهم حياتهم، يقول «محمد سويلم» دكتور أمراض الكلي:» في بعض الأحيان يحدث انسداد في مواسير سحب المياه بالماكينات أثناء عملية الغسيل مما يعرض الكثير من المرضي للموت بسبب الإهمال وضعف الإمكانيات، مشيراً إلي أنه يصرف لمرضي التأمين الصحي نصف العلاج المقرر لهم، أما بالنسبة للمرضي الذين يتم علاجهم علي نفقة الدولة لا يصرف لهم علاجاً، فالقرار يقتصر فقط علي ثمن الجلسات دون الدواء. وأكد «سويلم» أن هناك العديد من مراكز الغسيل يمتلكها تجار، مهندسون، يستغلون وضع المرضى من أجل جني المزيد من الأموال، مشيراً إلي أن هذه بيزنس والدولة تعلم جيداً أصحابه ولكن لا يتم اتخاذ أي إجراء ضدهم. وتختلف إحصائيات المرض فى مصر عن باقى دول العالم حيث تصل نسبة الإصابة به في مصر فى الأشخاص دون سن الخمسين سنة 90% وهى دلالة واضحة علي تردي الرعاية الصحية فيما تنحصر الإصابة به في الدول الأوروبية بين سن 70 و80 عاماً. وتبلغ نسبة الإناث المصابات بالمرض 55% مقابل 45% للذكور وتنحصر أسباب الإصابة بالمرض في ارتفاع ضغط الدم وهو المسئول عن 36% من إجمالي الإصابات مقابل 13.5% لمرضي السكر ونحو 80% للالتهابات الصناعية بالكلي و6% لانسداد المسالك البولية فيما لا يعرف أسباب إصابة نسبة ال 15% المتبقية. حكم لا ينفذ نص الدستور في المادة 18 على حق كل مواطن فى الحصول على رعاية صحية متكاملة، وفقاً لمعايير الجودة، وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى لا تقل عن 3٪ من الناتج القومى للصحة علي أن تتصاعد تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية، وتلزم الدولة بإقامة نظام تأمين صحى شامل لجميع المصريين ليغطى جميع الأمراض، وبذلك يكون الدستور قد ألزم الدولة بعلاج المواطنين غير القادرين بالمجان، وعدم التخلى عنهم. ورغم ذلك فإن ميزانية وزارة الصحة التى تصل إلى 2٫5 مليار جنيه لا تكفى لعلاج جميع المرضى على نفقة الدولة. أحكام تنتصر للمرضي حكمت محكمة الاسكندرية لصالح 300 مريض بالفشل الكلوي بأحقيتهم في كل منهم في صرف 600 جنيه عن كل جلسة كمصروفات انتقال للمرضي، ورغم الحكم لصالح مرضي الفشل الكلوي، إلا أن وزير الصحة الدكتور «أحمد عماد» يمتنع عن تنفيذ الحكم ولم يتم صرف هذه المبالغ حتي الآن للمرضي. كما حكمت محكمة القضاء الإداري بالقاهرة لصالح «عادل حسين عبده» بصرف 300 جنيه عن كل جلسة للمريض، حيث قدم المدعو شرحاً لدعواه علي أنه من المشتركين في نظام التأمين الصحي، وبعدما أحيل إلي المعاش أصيب بمرض الفشل الكلوي وتم تحويله بواسطة فرع الهيئة العامة للتأمين الصحي إلي مستشفي مركز السيدة زينب لإجراء عملية الغسيل ثلاث مرات أسبوعياً، وأنه يتكلف حوالي 300 جنيه مصاريف مواصلات في كل جلسه فضلاً عن مصاريف العلاج، واعتمد المدعو علي المادة «80» من قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 سنة 1975، والتي تنص علي أن الجهة المختصة والتي تتمثل في وزارة المالية تتحمل صرف تعريض الأجر ومصاريف انتقال المريض بوسائل الانتقال الخاصة من محل إقامته إلي مكان العلاج بناءً علي قرار الطبيب المختص. برواز حاولت «الوفد» إجراء مقابلة مع «إيمان منتصر» مديرة معهد تيودور بلهارس» للرد علي مظاهر الإهمال الموجودة بالمعهد، ولكنها تهربت من الإجابة وقالت «حددوا موعداً بعد ثلاثة شهور».