ولن تنطفئ شعلة الحرية المقدسة، نفديها بالنفس والروح إذا ضن الشجاع بها «والجود بالنفس أسمي غاية الجود». قامت ثورة الشعب صباح ذلك اليوم الأسعد وتحديداً يوم الثلاثاء، وأصبح فيه عقد الزمن وكان 25 يناير 2011م والذي سميت الثورة زمناً به، وكان معه - حسب مقياس الزمن - الموافق 21 صفر 1432ه، و17 طوبة 1827ق. ونستطيع أن نقول عنه بلغة الشاعر الفصيحة: يوم أغر يكفيك منه أنه «يوم كأن الدهر فيه تجمعًا» ثورة جاءت في موعدها مع القدر، ولم تخطر ببال أحد، ومن هنا كانت جاذبيتها عظيمة وقادرة ومثالية وولدت في أهم ميادين العاصمة، وروتها دماء شهداء الميدان، ومن هنا كانت لنا وللتاريخ وللعالم أجمعين «قبلة يحج إليها كل عشاق الحرية». سوف تدخل ثورة شباب وشعب مصر ثورة 25 يناير 2011 التاريخ السياسي والبشري من أوسع أبوابه، وسوف يدرسها علماء التاريخ علي جسر الزمن كثورة التهب فيها الشعب بنار ومرارة حكامه، فهب ضد الظلم والظالمين وديكتاتورية الحكام.. وكان النشيد الخالد الصادر من فم الشاب التونسي الثائر أبو القاسم الشابي: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر وهكذا كان عنوان الثورة تحت راية عالية كتبت كلماتها بدماء الشهداء.. «إنها - لعمري - إرادة الحياة».. وإنه صدي لثورة مصرية شعبية قامت - أيضاً - علي ضفاف النيل عام 1919 بقيادة زغلول الوفد وزعيم الأمة «سعد باشا زغلول» وكان الهتاف الصادر من الصدور والقلوب: «نموت.. نموت.. وتحيا مصر». هذه الثورة «الينايرية» - نسب إلي يناير - رأينا كيف كانت قبساً علوياً في السماء إلي سكان الأرض.. ثم بدأت تمشي في خُيلاء.. قوية.. هادرة واستطاعت في أيام معدودات أن تهز بنيان الحكم المتداعي وتسقط رئيسه الخيالي كالظل.. واليوم نراه رهين محبسه.. يدعي ويتداعي بمرض غير مرئي علي سرير العار بعدما كان «جبارًا شقياً». لقد انتصرت الثورة في أكثر من موقع، أولها وأهمها عودة المصري إلي «روحه» أي «عودة الروح للإنسان المصري بعد طول غربة».. عاد إليه كبرياؤه، وقد رأينا ذلك في تلك الفرحة الغامرة علي كل الوجوه وهي تعبر «كوبري قصر النيل صوب ميدان الثورة - ميدان التحرير». إذن يكون التساؤل الآن هل أثمرت الثورة ثمارها المرجوة والمنتظرة من قبل الشعب الذي حمل رايتها خفاقة في ربوع البلاد، ورواها بدماء أعز الأبناء من شباب الشهداء.. نقول بصدق وبلسان الحق.. ما تمنيناه قد تحقق بعض منه ولكن تمت أشياء وغابت عنه أشياء.. ولعمري هذه عظة خالدة.. «أن البدر ينقص حين يكتمل»، وإن الشجرة المثمرة تُقذف بالحجارة، وأن النور الإنساني الذي انتظرناه سنين عدداً، خَلَّف علي «الشاطئ الآخر» ما يطلق عليه اليوم «بقايا النظام السابق والعهد البائد» يحاولون بكل الطرق اللامشروعة الوقوف في وجه «الزحف المقدس» والإعلان الحر عن قيمة إنسانية وحياتية سجلها الزمن.. فقد كثرت ما أطلقوا عليه «البلطجة» وانتشارها، وعن القانون الاعتصام والاستمساك بقانون الإفك «قانون الطوارئ».. ثم الحيرة في المسيرة الخضراء: الانتخابات القادمة فردية أم بالقائمة والقائمة نسبية أم مطلقة مفتوحة أبوابها أم مقفلة.. ثم الفلسفة الرهيبة التي ظهرت في وسائل الإعلام عن طريق البرامج التليفزيونية وكان يدلو بدلوه ويأتي آخر ويعارضه ويأتي ثالث يطمس الآراء مدعياً أنه عبقري زمانه، وأنه علي كل شيء قدير، ولا ننسي أن هؤلاء الذين كانوا يسيطرون علي مقاليد البلاد كبراؤهم جميعاً وراء الأسوار ورهن المحاكمات، تلك المحاكمات التي كشفت عن «أعتى اللصوص وأبشع المجرمين» في جرائم الأموال وجرائم النفس، تلك النخبة من بقاياهم يحاولون أن «يطفئوا الشعلة المقدسة».. ولكن لو اجتمعت الإنس والجن من المستحيل أن يقفوا ضد الزحف المقدس الجبار عالي المقام. وما بقي - اليوم - إلا أن يعرف الشعب طريقه وينعم في ظل ثمار ثورته الشعبية الجبارة وإنه أهل لذلك، يفديها بالنفس والنفيس.. وكما قال الحكيم: يجود بالنفس إذا ضنَّ البخيل بها والجود بالنفس أسمي غاية الجود وسوف نواصل المشوار في سفينة الحياة مهما كانت الأمواج، وإن شاطئ النجاة للشعب وأحلامه قد أصبح قريباً قريباً «ويرونه بعيداً ونراه قريباً». «وعش جميلاً تري الوجود جميلاً».. ونقول كما قال الثائر العربي الأصيل: «يا جبل ما يهزك ريح».. وإنا لمنتصرون.. «ونموت نموت وتحيا مصر».