في دكانة صغيرة متهالكة.. تنشع الرطوبة من بين جدرانها البالية. هناك في منطقة الربع بالغورية، يجلس الحاج "عبدالعظيم محمد"، ذلك الرجل الذي ملأ الشيب رأسه.. بإدراك وإتقان وتركيز فيما يفعل يصنع واحدة من أغرب الأسلحة وأبسطها التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه رغم استخدامه في غير موضعه. الشهرة الواسعة لصناعته ارتبطت بشجرة الدر، فما تكاد تذكرها إلا وأن يتطرق الحديث إلى "القبقاب"، وكيفية استخدامه كسلاح لقتلها والتخلص منها، ليحظى ذلك الحذاء المتواضع في الشكل إلي كل هذا الصيت. ورغم عمر المحل الذي تعدى سنوات كثيرة، إلا أنه بمجرد سؤالك عن صانع "لليعد الحاج "عبدالعظيم" في منطقته "أشهر من النار علي العلم"، وذلك رغم عدم وجود لافتة على واجهة المحل توضح ماهيته، تجد "ألف من يدلك عليه". فيذكر أن عمر هذا المحل الذي ورثه عن أبيه 77 عام فيقول "الدكانة دى رخصتها من 1938، يعني من قديم الأزل"، فكل ركن في محل الرجل يؤكد لك أنه "من زمان فات"، سواء كانت هيئته أو الصناعة التى يقوم بها داخله "صناعة القباقيب". وفي دأب يصنع الحاج عبد العظيم قباقيبه منذ أكثر من 25 عاماً بمراحل ثابتة، بدايتها قص للكاوتش الذي يحصل عليه من ورش السيارات، لتمثل وجه القبقاب، ويليها تقطيع خشب الأشجار إلي مقاسات متعددة، وتدويرها علي شكل القبقاب وتسميرها، يفعل كل ذلك دون أن يرمي بالًا لرواج سلعته التي أصبحت منعدمة. وتباع قباقيب الحاج "عبدالعظيم" طوال العام بركود، لكن لها موسمها التى تزدهر فيها، وهي "رجب وشعبان ورمضان"، حيث يزيد الطلب عليها في تلك الأشهر الثلاثة ، فيتم وضعها في المساجد كصدقة، كما يشتريها منه بعض الأهالي للزكاة بها. وعن حال المهنة قديمًا، يقول أن وضعها منذ سنوات كان يختلف عن الوقت الحالى، فقد كان الاعتماد على القباقيب بشكل أساسي، بسبب بساطتها وحمايتها لمن يرتديها من السقوط، ولكن مع ظهور البلاستيك وانتشاره بأشكاله المختلفة أثر بالتاكيد على رواجه صناعته. ويتابع "الحاج عبدالعظيم" أن سعر القبقاب في الوقت الحالي سبعة جنيهات، ولكنه قابل للزيادة، ويتحدد بناء على نوع الخشب المستخدم ومدى جودته. ويذكر "الحاج عبدالعظيم" أن من أصعب الأشياء التي تمر عليه خلال صناعته للقبقاب هي حين يجد حشرات في داخل الأخشاب؛ حيث تفسد عليه بضاعته وتعطله، قائلًا أنه ذات مرة وهو يقطع الخشب وجد داخله ثعبان حي، فقام بقتله وتناثرث الدماء على وجهه. ويؤكد"الحاج عبدالعظيم" أنه لا يمكنه الاعتماد على صناعة القباقيب وحدها، وشكل أساسي؛ لأن عائدها المادي ضعيف، لذلك يلجأ إلى صناعة الأحذية جوارها كى يوفر دخل مناسب له ولأسرته. ويدرك أن مهنته تندثر وتتجه للانقراض بالفعل، فلم يعد يجيد تلك الصناعة أو يعرفها إلا عدد قليل للغاية أغلبهم من كبار السن، كما أن صناعة القباقيب أصبح لا وجود لها في المحافظات، ومن يريد اقتناء قبقاب عليه أن يذهب إلى قلب القاهرة أو شارع المعز، ولعل أبرز رواد الرجل من محافظات الوجه البحري، والصعيد، أسوان، ودمياط والسويس، ولكنه لن يتركها أو يتخلى عنها، مؤمنًا بأن الرزق على الله و حده.