هل تسمح سلطات قطر لقناة مصرية تبث من الدوحة وتستضيف إخوة أمير قطر الذين يعيشون فى المنفى؟ هل التضحية بمدير عام الجزيرة لإنقاذ سمعة الجزيرة بعد كشف علاقته بالمخابرات الأمريكية؟ قرار وقف بث قناة الجزيرة مباشر مصر من القاهرة أثار موجة من الحوار الساخن على الساحتين الإعلامية والسياسية وانقسم المتحاورون الى ثلاثة فرق وكل فريق يضم عدداً من خبراء الاعلام وبعض القوى السياسية فريق رحب بحماس للقرار وفريق رفض القرار بحماس أشد وفريق ثالث رفض القرار من ناحية المبدأ وأبدى ملاحظات جوهرية على أداء قناة الجزيرة مباشر مصر خاصة، وأداء قنوات الجزيرة عامة. الفريق الأول: يضم هذا الفريق (المتحمس لقرار الإغلاق) القوى السياسية المتوجة من صعود قوى الاسلام السياسى لانه يرى أن قنوات الجزيرة عامة تناصر قوى الاسلام السياسى وتتبنى توجهاتهم الفكرية وتستغل تأثير قناة الجزيرة وثقة الجماهير فيها للترويج لهذه القوى مما يعطى هذه القوى (قوى الاسلام السياسي) ميزة كبرى فى هذه الفترة الحساسة التى تسبق الانتخابات التشريعية وبناء مؤسسات الدولة بما فيها الاساس الأهم وهو الدستور. ويساند هذه القوى السياسية فى موقفها المرحب بمنع بث القناة من القاهرة عدد من الاعلاميين معللين هذا الترحيب بأن قنوات الجزيرة لها أهداف مشبوهة وأن قناة الجزيرة مباشر مصر تتدخل بطريقة فجة فى الشأن الداخلى المصري. وأنها أى هذه القناة تعمل دون ترخيص رسمي. الفريق الثاني: ويضم القوى السياسية ذات التوجه الاسلامى (والرافض بقوة للقرار) يؤكد أن قناة الجزيرة ساندت ثورة يناير بقوة ووفرت للثورة صوتاً إعلامياً قوياً رغم قرار النظام السابق بإغلاق مكتبها بالقاهرة وأنها تحملت عبئاً ثقيلاً نظير مساندتها للثورة، ووقف بث القناة من القاهرة يعتبر تنكراً لهذا الموقف. وتؤكد هذه القوى أن موقف قناة الجزيرة مباشر مصر موقف محايد بين كل القوى السياسية فى مصر وأن دورها الآن دور مهم لأن الثورة لا تزال بحاجة الى صوت حر مستقل يساندها لتحقيق أهدافها. ويستقطب هذا الاتجاه عدداً كبيراً من خبراء الاعلام والمعنيين بحرية التعبير وهؤلاء يرفضون بقوة من حيث المبدأ أى قرار إدارى يمس حرية التعبير ويرى هؤلاء أن حجة الجهات الرسمية التى بررت قرار وقف البث بأن القناة لم تحصل على التراخيص الرسمية التى تسمح لها بالعمل هذه الحجة هى استنساخ سخيف للحجج التى كان يبرر بها نظام الرئيس المخلوع قمعه لحرية التعبير، وأن هذا الاسلوب الذى يعتمد على مبررات واهية يجب أن يتوقف بعد سقوط رأس النظام وإصرار الثورة على وضع مبدأ «حماية حرية التعبير» على قمة أهدافها ويواجه هؤلاء السلطات الرسمية بمنطق يصعب نقضه وهو إذا كان الامر يتعلق بترخيص فلماذا سمح لهذه القناة بالبث لعدة شهور؟ ولماذا لم تمنح التراخيص المطلوبة وقد تقدمت الى السلطات المختصة بكل الأوراق التى تطلبها السلطات فى مثل هذه الحالات؟! الفريق الثالث: يتشكل فى غالبيته من خبراء إعلام ومثقفين يعرف عنهم الحرص الشديد على حرية التعبير والرفض الحاسم لأى قرار أو تصرف من أى جهة ينتقص من حرية التعبير ورصيدهم من المواقف السياسية المحترمة كبير وتاريخهم فى النضال من أجل الدفاع عن حرية التعبير لا يتطرق اليه الشك، كما أن رؤيتهم السياسية رؤية تنطلق من الدفاع عن المصالح الوطنية المصرية والمصالح القومية العربية العليا فى مواجهة أية قوة تحاول المساس بهذه المصالح المصرية والقومية على السواء. وقد بادر بعض رموز هذا التيار من الاعلاميين المثقفين بتسجيل مواقفهم التى تؤكد الانحياز المطلق لحرية التعبير مع الاخذ فى الاعتبار ان لحرية التعبير معايير يجب الالتزام بها مع إبداء ملاحظات جوهرية على الأداء المهنى لقنوات الجزيرة عامة وقناة الجزيرة مباشر مصر خاصة. ومن أبرز من كتب فى هذا الاتجاه الروائى المبدع بهاء طاهر فى جريدة «الأهرام» والاعلامى المتميز حمدى قنديل فى «المصرى اليوم». ويلفت الانتباه فى هذا السياق خبر عبر به المهندس نجيب ساويرس عن موقف عملى قصد به تعزيز الملاحظات التى أبداها خبراء الاعلام على أداء قناة الجزيرة وهذا الخبر يذكر أن المهندس نجيب ساويرس ينوى إطلاق فضائية من عاصمة قطر «الدوحة» تحمل شعار «مباشر الدوحة» وتكون مهمتها طرح القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية لإمارة قطر بصراحة؟! والخبر بطبيعة الحال أراد به المهندس نجيب ساويرس ان يكشف حقيقة ادعاء الحياد والاستقلال الذى تدعى قنوات الجزيرة انها تلتزم به. رؤية لحل موضوعي نحتاج لنصل الى رؤية لحل موضوعى أن نتعرض للحجج التى يستند اليها الفرقاء الثلاثة، فلكل منهم حجج تبدو وجيهة ومنطقية وأود قبل الحديث المفصل ان اؤكد اننى لست بعيداً عن موقف الفريق الثالث غير أننى أتصور ان الموقف الايجابى يحتم ألا نكتفى بإدانة أو تأييد بل يتطلب تقديم اجتهاد لحل المشكلة. أولاً: المدقق فى مواقف الفرقاء الثلاثة يكتشف ان الجميع يؤكدون على الأهمية القصوى لضمان «حرية التعبير» بغير قيود إدارية تستخدمها الحكومات ونظم الحكم لتقييد هذه الحرية. «حرية التعبير» اذا هدف لا خلاف عليها الخلاف ينشأ عند التطبيق العملى لمبدأ «حرية التعبير». وأعتقد ان أحداً لا يختلف على ان «حرية التعبير» ترتكز على اسس يجب ان تراعى بدقة من المسئولين عن الوسيلة الاعلامية التى تحرص فعلاً على حرية التعبير، ومن هذه الاسس أن تكون الوسيلة الاعلامية التى تتيح للمواطنين حرية التعبير وسيلة «مستقلة» استقلالاً حقيقياً وألا تخضع بأى صورة من الصور لسلطة سياسية أو قوى اقتصادية لها اهداف خاصة تريد تمريرها بذكاء من خلال مظاهر «حرية التعبير». والسؤال المنطقى فى حال قنوات الجزيرة هو «هل تتمتع هذه القنوات فعلاً «باستقلال» حقيقي؟! هذا السؤال أجبت عنه منذ عدة سنوات فى كتاب لى عن الفضائيات العربية. وخلاصة الاجابة ان قنوات الجزيرة تخضع خضوعاً مطلقاً لتوجيهات سياسية صارمة من منشئها وصاحبها الشيخ حمد بن جبر بن جاسم رئيس وزراء قطر الحالى وتوجد آلاف الشواهد التى تؤكد هذه التبعية المطلقة كما ان «التوجيهات» الامريكية تلقى عناية خاصة من مسئولى هذه القنوات وتشاء المصادفة اليوم ان نقرأ فى الصحف ان مدير عام قنوات الجزيرة السيد وضاح خنفر استقال من منصبه بعد أن تم نشر وثائق تثبت انه يتحرك «بتوجيهات» من المخابرات العسكرية الامريكية. وبغض النظر عن صحة هذه الوثائق أم لا فالأمر المؤكد ان مالكى هذه القنوات لديهم أجندتهم السياسية الخاصة التى لا تتوافق بالضرورة مع المصالح الوطنية المصرية. اذا الاستنتاج الطبيعى فى هذه الحالة يؤكد ان قنوات الجزيرة لا تتمتع بالاستقلال والحياد الذى يضمن التزامها «بحرية التعبير» بطريقة موضوعية وحقيقية. يضاف الى ذلك تبنى المسئولين التنفيذيين عن قنوات الجزيرة اتجاهات فكرية تجنح الى مناهج إسلامية متشددة، وأن هؤلاء المسئولين لا يترددون فى فرض رؤاهم وتوجهاتهم إلى الحد الذى يضيقون فيه على أى اعلامى لا يتفق معهم فى توجهاتهم والكثير من برامجهم خاصة برامج السيد أحمد منصور تكشف عن موقف مسبق من اتجاهات سياسية فى مصر يعمل جاهداً على الترويج لها. هذه الشواهد والقرائن كلها تنزع صفة «الحياد والاستقلال» عن قنوات الجزيرة وبالتالى فهذه القنوات رغم انها أدت دوراً مهماً فى تحريك المياه الراكدة فى الاعلام العربى إلا انها تفتقد الى أحد أهم الاسس التى يجب ان تتوفر فى قنوات تحترم بحق «حرية التعبير» كما ينبغى ان تكون. ثانياً: لست مع القائلين بأن تناول الجزيرة مباشر مصر يعتبر تدخلا مرفوضاً فى الشئون الداخلية المصرية. ولأننى من المؤمنين بالفكر القومى العربى فإننى أرى ان من حق أى مواطن فى أى قطر عربى ان يناقش القضايا الداخلية فى أى قطر عربى آخر. وحتى يستقيم هذا المنطق فلابد ان تتوفر البيئة والظروف التى تسمح بتطبيق هذا المبدأ على باقى البلاد العربية أو على الاقل على «إمارة قطر» فهل يمكن مثلاً ان توافق قطر على إطلاق فضائية من الدوحة تتناول قضايا قطرية داخلية مهمة وليس مجرد قضايا هامشية؟! هل يمكن مثلاً أن يوافق المسئولون فى قطر على أن تتناول مثل هذه القناة الافتراضية قضية انقلاب الامير الحالى على والده؟ أو انقلاب والده منذ سنوات على أخيه؟! وهل تقبل باستضافة أخوة امير قطر الشيخ عبد العزيز مثلاً ليتحدث عن شئون داخلية قطرية؟ وهل يمكن لمثل هذه القناة ان تناقش توزيع الثروة خاصة إيرادات الغاز والبترول فى قطر؟ أعتقد ان هذا مطلب يستحيل ان تقبل السلطات فى قطر تنفيذه المنطق السليم اذا يجعل استباحة دولة واحدة لمناقشة شئون داخلية فى دولة اخرى أمراً غير مقبول فى مثل هذه الظروف. الحل.. ونصل الى الحل المقترح وهو حل يعتمد على موقف المسئولين فى قطر فإذا كان المسئولون فى قطر يرون فعلاً انهم يطلقون قناة الجزيرة مباشر مصر لوجه الله ولرغبة صادقة فى ان يكون للشعب المصرى نافذة اعلامية حرة ومستقلة تعبر بصدق وأمانة عن مختلف التوجهات الفكرية والسياسية فى مصر وتعنى بتقديم رسائل إعلامية تساهم فى التنمية البشرية والاقتصادية وفى التنوير، اذا كان هذا هو الهدف فإننى أتقدم باقتراح لإعادة بث الجزيرة مباشر مصر بأسلوب يضمن بقاء «اسم الجزيرة» بل ويضيف إليها قيمة أدبية كبرى وفى نفس الوقت يضمن لهذه القناة الالتزام بالمعايير والاسس التى تجعل من هذه القناة بحق وسيلة لتقديم خدمة إعلامية مستقلة وحرة للشعب المصري. باختصار تحتاج الفكرة الى ان ترصد إدارة القنوات فى قطر الميزانية اللازمة لتشغيل هذه القناة باعتبار ما ستنفقه «هدية» لشعب مصر وتبتعد الجهات المسئولة فى قطر تماماً عن ممارسة أى تصرف له علاقة بإدارة هذه القناة أو بتوجهاتها وتقوم جهة مصرية محايدة باختيار «مجلس أمناء» يتولى رسم السياسة التى ستلتزم بها هذه القناة ويباشر التنفيذ فى جميع مراحله. وأقترح ان يتولى «المجلس القومى لحقوق الانسان» فى مصر اختيار أعضاء المجلس. بهذا نستطيع ان ندافع بقوة عن إعادة إطلاق الجزيرة مباشر وان نقدم جزيل الشكر للمسئولين فى قطر على «هديتهم الثمينة» والمقدرة لشعب مصر. أما إذا رفض المسئولون القطريون ذلك وأصروا على ان تعود الجزيرة مباشر مصر للبث من القاهرة بنفس القيادة العليا القطرية ونفس الكوادر فلن يستطيع هؤلاء المسئولون الدفاع المقنع عن توجهات قناتهم التى تثير شكوكاً كثيرة ومشروعة لدى عدد كبير من الاعلاميين والمثقفين والسياسيين فى مصر.