يقول أرسطو في كتابه: «علم الأخلاق».. السلطان.. محك الإنسان..ذلك أن شر الناس هو ذلك الذي يضر نفسه والناس، وأن الرجل الأكمل ليس هو الذي يستخدم فضيلته لنفسه بل هو ذاك الذي يفيض بها على غيره، لأن هذا أمر شاق دائما حينئذ لا يمكن أن يعتبر العدل مجرد جزء من الفضيلة بل هو الفضيلة ذاتها، وإن الظلم الذي هو ضده ليس جزءا من الرذيلة.. بل هو الرذيلة بتمامها. في غضون عام 1946 ارتفعت هامة العدل في مصر.. هامة رفيعة عالية القدر واضحة الجبين فقد أنشئ مجلس الدولة المصري، هذا الصرح الشامخ للعدل في مصر وأصبحت رسالته - كما نري - هي في عبارة وجيزة: «أن ينزع مسلاخ الظلم من الادارة وأن يسبغ عليها إهاب الفضيلة». وذلك بعد أن وأد الجاهلون والمستبدون محاولة انشائه في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بمقتضى الأمر الصادر من الباب العالي في 23 ابريل 1879. أصبح مجلس الدولة حقيقة واقعة، بل حقيقة رائعة على حد تعبير العلامة الدكتور عبد الرزاق السنهوري ثاني رئيس للمجلس الموقر. وبهذه - المثابة - فقد اعلنت الدولة المصرية - في حقبة من الزمن - أنها تقف بجانب الحق والقانون، وأنها لا تظلم ولا تتعثر واشرأبت قامة المجلس وزكا عوده، واستوى بشراً سوياً. روعته في رسالته.. ورسالته في أن الأفراد والجماعات رأوا فيه غوثاً للملهوف ولياذاً للعائذين، ومعقلاً للحريات. يعمل في صمت وسكون يعاون الادارة ويفتح لها الأبواب الموصدة، وينير امامها الطريق القويم المستقيم، فهو الصديق الناصح، فلا أحب الى نفسه من أن يجنب صديقه مزالق الخطأ، ومهما لقى في عمله من نصب ومهما اصابه من عنت فهو لا يحفل بما يعترضه من الصعاب. وإذا كان القضاء في كل امة هو قدس الأقداس، اذ أن العدل هو اساس الملك، فالويل كل الويل لأمة لا توقر قضاءها، أو تعتدي على حرمة قضاتها. ومجلس الدولة - منذ انشائه - يقوم على رسالة بالغة الخطر، فهو الى جوار كونه ساعد الدولة في الفتيا والتشريع ومستشارها الناصح الأمين في المسائل الدولية والدستورية والقانونية يقوم بمهمة القضاء الاداري لإنصاف الشعب من حكامه، إن تحيفوه أو انحرفوا عن محجة الصواب واندفعوا في بحر الظلمات فشدتهم الشهوات الى قاع اليم فغرقوا في ظلماته. «أرسطو» في كتابه «ديموندو de mundo» يريد أن يشرب القاضي الشاب منذ حداثة عهده حب العدل وأن يسلك سبيله، ولا يكفي لذلك أن يقتصر على ما تعلمه في المدارس بل لابد له من تطبيقات يلتمسها في دور القضاء. وبنصب وبفهم حقيقي للأمور بذل مجلس الدولة قصاراه بالضرب على أيدي الطغاة والفاسدين ممن أرادوا أن يفتئتوا على كرامة المواطنين وحرياتهم بأن وضعوا معوقات تتمثل في تقييد حق التقاضي بوسيلة أو بأخرى بما يؤدي الى مصادرته كلياً، أو جزئيا، بصدور بعض القوانين او التشريعات المتضمنة النص على حظر الطعن على القرارات أو الأوامر، أو أن يأتي هذا التقييد أو الحظر نتيجة لما يسمى «بنظرية أعمال السيادة» أو نظرية «الظروف الاستثنائية» والتي بمقتضى كل منهما يتم حظر اللجوء الى القضاء بصدور - هاتيك - القرارات والأوامر الصادرة من جهة الدولة استناداً الى أي من هاتين النظريتين أو كليهما. ومن هنا جاءت أحكام مجلس الدولة تترى في التأكيد على أن لكل مواطن الحق في التقاضي.. هذا المبدأ الضارب في القدم قدم التاريخ نفسه - إذ عرفه الفراعنة القدماء واتخذوا له إلهاً أسموه «إله الحق». جاءت أحكام مجلس الدولة الرفيعة الجليلة لتؤكد الآتي: أولاً: مبدأ المساواة امام القانون إذ طبقت محكمة القضاء الاداري مبدأ المساواة أمام القانون في العديد من أحكامها ومنها الدعوى رقم 2 لسنة 4 ق جلسة 6-2-1951 وتجمل وقائعها في أن: أحد المواطنين طعن أمامها على قيام المجلس البلدي بنقل المصباح المقام أمام منزله ناعياً.. على هذا القرار مخالفته للقانون على سند من القول بأن منزله يقع داخل كردون المدينة وفي مدخلها وهو يدفع على هذا المصباح عوائد، كما أن نقله قد ادى بالمنطقة الواقع بها منزله الى أن يكتنفها الظلام الشديد، قضت المحكمة بإلغاء القرار المطعون فيه بنقل المصباح وقالت في أسباب حكمها: إن الأسباب التي تذرع بها المجلس البلدي في نقل المصباح لا تؤدي الى النتيجة التي ذهب إليها وأن المجالس البلدية يجب أن تراعي المساواة في توزيع الخدمات أمام الناس. كما تبنت محكمة القضاء الإداري مؤيدة من المحكمة الإدارية العليا بذات الاتجاه الذي كفل مبدأ المساواة امام القانون فذهبت الى أن تقرير أي استثناء او تمييز لأحد دون أحد يتعارض مع مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص الذي أوجبه الدستور. كما أكدت كذلك حق المواطنين جميعاً في عدم التمييز بين المواطنين في الحصول على التعليم العالي لما أن هذا التمييز فضلاً عن إخلاله بمبدأ المساواة فإنه يهدر مبدأ تكافؤ الفرص بين الشباب. ثانياً: أكد مجلس الدولة على حق المساواة أمام الوظائف والتكليف والتعبئة العامة. ثالثا: حماية مجلس الدولة لحق الحرية الشخصية التي هي ملاك الحياة الانسانية كلها لا تخلقها الشرائع بل تنظمها ولا توجدها القوانين بل توفق بين شتى مناحيها. وتتمثل حماية مجلس الدولة في ذلك في الأحكام والفتاوى الصادرة عنه بشأن الحرية المدنية للفرد وحرية الاقامة في المكان الذي يحدده الشخص، وعدم جواز ابعاده عنه، وكذا حرية الشخص في التنقل وحريته في السفر والترحال، وحقه في الأمن والامان، وأسبغ مجلس الدولة الحماية على الحرية الشخصية التي - توصدها - الدولة بالاغلال والمتمثلة في قرارات الاعتقال ووضع الموانع أمام حق التقاضي. رابعاً: كفل مجلس الدولة - منذ ولادته - حق الحرية البدنية وحرية الملبس للمواطنين وطالما لا يتعارض ذلك مع العرف والتقاليد والآداب العامة. خامساً: صان مجلس الدولة حرية الاقامة باعتبارها أحد صور الحرية الشخصية التي كفلها الدستور - لكل مصري في الجهة التي يبتغيها. سادساً: قرر مجلس الدولة لكل المواطنين حرية السفر من مكان الى آخر باعتبار أن هذا الحق المقرر هو فرع من الحرية الشخصية للفرد لا يجوز الحد منه أو انتقاصه الا لمصلحة عامة في حدود القانون واللوائح. سابعاً: تصدي مجلس الدولة لقرارات الاعتقال مراقباً إياها،مفنداً جدواها مع بيان مدى مشروعيتها وتعويض المعتقلين عنها سواء من الناحية المادية أو الادبية. ثامنا: كما قنن مجلس الدولة الحق في الجنسية والنسب - للمصريين - بحسبانها رابطة سياسية وقانونية بين المواطن والدولة. تاسعاً: دافع مجلس الدولة عن حرية العقيدة وحرية الرأي بأحكام مقننة من المحكمة الادارية العليا، ناهيك عن حق حرية الصحافة والنشر وحرية التعبير الفني.. حتي غداً بأحكامه التي صارت نبراساً - هو «حامي حمي الحريات في مصر». رئيس محكمة الاستئناف العالي الأسبق