لا أحب استخدام لغة التخوين والاتهام تجاه ما نراه ونسمعه ونقرأه الآن حول الإساءة لمؤسسة الرئاسة التي تجسد هيبة الوطن وكرامة الشعب الذي انتخبها واختارها. فهناك فارق كبير بين ثقافة النقد والمحاسبة وبين ثقافة الهدم والعداء واللدد. فالأولى حق وواجب، والثانية عجز وقصور وكراهية مسمومة للحاضر والمستقبل. والأمر يزداد دهشة وريبة حين يكون الرئيس المنتخب— أياً كان خلافنا معه في الرأي—هو أول رئيس بعد ثورة ازاحت طاغية، أفسد وضيّع ما وسعه الفساد والتضييع. وهو أول رئيس مدني قادم من أواسط الناس بالاختيار الحر المباشر. وهو ما كان يفترض أن تكون الأمور عكس ما نراه ونسمعه ونقرأه. ولدي عدة نقاط ملاحظة مني حول المشهد الحالي: - رأينا فى الثورات السابقة فى التاريخ أن الانتقال من الحالة الثورية إلى حالة الاستقرار السياسي والدستوري والمؤسسي لم يتم بين يوم وليلة. بل مر بفترات تطور لم تسلم من التهديد والخطورة على الثورة وأهدافها. وأقرب نموذج إلى تلك الحالة هي ثورات أوروبا الشرقية، وعمليات التحول الديمقراطي في أمريكا اللاتينية التى كانت حافلة بشتى صنوف المغامرات السياسية المثيرة، وبأنواع عديدة من الطغيان والاستبداد والفساد. ولا يفترض بالطبع أن يقوم الجهاز الادارى العتيق (للدولة العميقة) بكل ما كان يتمتع به أفراده من نفوذ وثراء وهيمنة واستكبار. لا يفترض فيه أن يسلم بهزيمته وحرمانه من كل ذلك بسهولة. رأينا ذلك في التاريخ واستوعبناه. ورأيناه ولا نزال نراه في وطننا الحبيب. والدهر آخره شبه بأوله***ناس كناس وأيام كأيام وأتصور أن المعركة ليست سهلة وليست قصيرة. وعلى السيد الرئيس وفريق العمل حوله أن يدركوا جيدا هذا الأمر. وأن يستعدوا له، وأن يتحصنوا بهذا الشعب الكريم. كما فعل محمد علي في تحصنه بالمصريين البسطاء من الفلاحين والأجراء أمام دولة المماليك العميقة التي رفضت الانضواء معه في مشروعه، بل وأخذت في تعويقه، مما دفعه لارتكاب خطئه التاريخي الشهير معهم فى مذبحة المماليك بالقلعة. المصريون بطبعهم الحضارى الطويل يحترمون كثيرا «فكرة الشرعية». ويمتلكون جهازا بيروقراطيا عتيدا قادرا على صون (الدولة) وحمايتها. وهناك إن شاء الله تيار دافق من التطور النوعي فى هذه الروافد يعد بالكثير في اتجاه تاسيس دولة المواطنة والقانون والرفاه. - يقوم الرئيس محمد مرسي بواجباته في ظروف تاريخية غير عادية. ليس فقط بسبب الهدم المنظم الذى مارسه النظام طيلة الأعوام السابقة فترك خلفه بقايا متهالكة من كل شىء. لكن لأسباب أخرى كثيرة أهمها عدم الاستقرار السياسي والدستوري سواء فيما يتعلق بالتفاعل الاجتماعي بين مكونات وأفكار لم تعتد على ممارسة الاختلاف والتنوع فيما بينها، أو فيما يتعلق بنقل السلطة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى المؤسسات المدنية المنتخبة، ونحن نعلم أن عملية الانتقال هذه ليست يسيرة، فترك السلطة من قبضة اليد عادة ما يداخله تباطؤ وتشكك، أغلبه غير مفهوم وغير مبرر. ثم هناك ميراث من الشك التاريخي غير العلمى وغير العادل حول التيار الفكري والسياسي القادم منه السيد الرئيس. وهو ما تداخل فيه القلق الصحي المطلوب والمهم مع نزعات الحقد السياسي والأيديولوجي الكريهة إلى حد لم تراعى فيه مصلحة الوطن ومستقبل الأجيال القادمة. يمثل الجهاز القضائى فى مصر احد أهم أركان الدولة. وهو جهاز عريق وعظيم ولديه ذخيرة لا تنفذ من الخبرات والتجارب القانونية في كل مجالات المعاملات القضائية، بما يؤسس لقاعدة أساسية وراسخة في الفكر القانوني وبما يجعلنا نطمئن كثيرا إلى فكرة «القضاء العادل» التي تحصن الدولة وتحفظها. على أن توزيع السلطات بين الهيئات الثلاث «التشريعية» و«التنفيذية» و«القضائية» وتحديد اختصاص كل بجلاء ووضوح يمنع تجاوز الحدود بينها مع أهمية فتح قنوات معينة لتحقيق «المراجعة والتوازن» بين مختلف السلطات. أتصور أن أقل الهيئات تاثرا بالفساد العريض العميق الذي نفذه النظام السابق على قدم وساق كانت الهيئة القضائية التي حافظت بقدر المستطاع على قدر غير قليل من الاستقلالية والتمايز. لكننا اندهشنا وتألمنا من تصريحات السيد المستشار رئيس نادى القضاة، ليس من جانبها الفقهي والقانوني والذي استدعى كثيرا من الاختلاف حوله، ولكن من لغة الخطاب التي يخاطب بها رأس الدولة المصرية ورمزها الأعلى. وقد رأينا كيف كان القضاء في تركيا أحد الأدوات الشرسة في الصراع السياسي الذي لم يكن في حقيقته صراعا بين المفيد والأكثر فائدة، بل كان صراعا تكتنفه معطيات معقدة هي أبعد ما تكون عن واقعنا وأحوالنا. على أننا نتطلع للوصول لصيغة استقلال تامة وكاملة لهذة السلطة الأقوى والأقدر في تحقيق الاستقرار الإدارى والسياسي والاجتماعي. - لم تسلم بعض النخب المصرية من تحيزات تغلبت فيها الأيديولوجىة الضيقة على الوطنية الرحبة. وهو موقف لن ينساه التاريخ بسهولة. ونتابع الآن الحالة الاعلامية التي تكونت برؤوس أموال هائلة في وقت وجيز. ووضح من مادة موضوعاتها واختياراتها أنها في حالة عداء عنيد مع «الدولة الجديدة» التي أنتجتها الثورة. ووضح من خلال الإلحاح والتمادي في التطاول على فكرة «السيادة» التى يمثلها «مقام الرئاسة» أن الإحساس الوطني لديهم بدا مجروحا ومعيبا. ظهر ذلك بوضوح فى هجومهم على قامات إعلامية وثقافية وأدبية كبيرة، لا لشىء إلا أنها انحازت لفكرة «الدولة المستقرة» من خلال تأييدهم ودعمهم لرئيس الدولة المنتخب بإرادة الشعب. وقد حكى لي أحد الأدباء الكبار عن الضغط الرهيب الذي يمارس عليه ليتحول فى موقفه، ويهاجم «رئيس الدولة» حاطا من قدره وقدرته على تحمل مسؤلياته. وهو ما تأباه عليه أخلاقه ووطنيته وحبه لبلاده. أخيرا، يحدونى الأمل الكبير واليقين العميق بأن وطننا سيتجاوز حالته الراهنة القلقة متقدما للأمام باتجاه المستقبل حيث المؤسسات المستقرة المنتخبة من الشعب، وحيث الإدارات الأكفأ والأقدر، وحيث الأحزاب الأقوى والأكثر تحملا وحلما وتحقيقا لآمال شعبنا الحبيب، وحيث التعبير عن الاختلاف الحيوي المشروع في المجتمع، وحيث جيش عظيم بقواته المسلحة التي تحمل مهمة واحدة، وواحدة فقط، كما قال المشير أحمد اسماعيل (رحمه الله): «أن تؤمر بالقتال فتقاتل». إذ ساءه كثيرا حين تسلم مهامه قبل حرب اكتوبر المجيدة، انشغال أبنائه في القوات المسلحة، بما يصرفهم عن هدفهم الأسمى، وحيث الإعلام مهني أمين، يصون شرف الكلمة وسلامتها، ويعكس الضمير الهادئ اليقظ لهذا الشعب العظيم وأمانيه في الحياة الكريمة.