عاش المصريون الأيام القليلة السابقة الذكرى الستين لثورة تموز/يوليو 1952 في حالة من الترقب. هذه هي المرة الأولى التي ستحيي فيها البلاد ذكرى انقلاب الضباط الشبان، الذي سرعان ما تحول إلى منعطف ثوري كبير، ومصر يرأسها رئيس لم يأت لموقعه من صفوف الضباط. ولكن هناك ما هو أكثر مدعاة للترقب: أن الجمهورية التي ولدت من انقلاب تموز/يوليو، يقودها اليوم رئيس إخواني، رئيس يفترض أنه ينتمي إلى هامش الحكم لا إلى طبقته المسيطرة منذ عقود. فما الذي يمكن أن يقوله رئيس من الإخوان المسلمين في ثورة عبد الناصر؟ هل سيحيي الرئيس ذكراها أصلاً؟ وكيف ستلعب الذكرى دورها في هذا الصراع المحتدم على مستقبل مصر وروحها بين الرئيس وقيادة الجيش؟ أليس هذا هو الجيش نفسه الذي أوجد الجمهورية، التي بات يتربع على قمتها د. محمد مرسي؟ إحدى الإجابات قدمها صحافي يعتبر نفسه من الخصوم 'المدنيين' للإخوان المسلمين ومن حماة ميراث ثورة تموز/يوليو 1952. في حديث له، استعاد الصحافي المصري لغة الماضي البعيد، ووصف الإخوان وأنصار ثورة تموز/يوليو بالمعسكرين المتناقضين، معسكر الرجعية والتخلف والعداء لمصر عبد الناصر، ومعسكر التقدم والاستقلال و'المدنية' (هذا المصطلح المبتذل، بالغ الرواج في مصر اليوم). ولكن الحق أن وجهة النظر هذه، وإن استبطنها قطاع واسع ممن يتظللون بميراث ثورة 1952، لم تكن وجهة النظر الوحيدة في الساحة المصرية، التي تحتدم بالجدل والتناقضات والاستقطاب السياسي. عدد من عقلاء المصريين، بما في ذلك بعض من أبرز الشخصيات العامة لمصر ما بعد ثورة كانون ثاني/يناير، انتظر الذكرى مؤملاً أن يستطيع الرئيس المصري (الإخواني) اتخاذ موقف يساهم في توحيد الشعب ورص صفوفه، من خلال مصالحة الذاكرة المصرية مع نفسها. وهذا ما وقع بالفعل. في ليلة الذكرى الستين، ألقى الرئيس مرسي واحداً من أفضل خطاباته منذ تولى مسؤولياته قبل أسابيع قليلة، بل خطابه الأفضل على الإطلاق. ما لا يجب إغفاله أن محمد مرسي يقدم الشاهد تلو الآخر على أنه زعيم وطني مصري بامتياز، وأنه، وبالرغم من كونه مرشح الرئاسة الوحيد الذي لم يسع للمنصب، وإنما قبل خوض غمار معركة الرئاسة باعتبارها واجباً، ارتفع سريعاً إلى مستوى المسؤولية التي ألقتها على كاهله الظروف. عشية صدور قرار المجلس الاعلى للقوات المسلحة بحل مجلس الشعب المنتخب، وقف محمد مرسي، المرشح للرئاسة حينها، ليتحدث إلى الشعب في واحد من أكثر المواقف حرجاً بصلابة وشجاعة غير مسبوقين. وبعد فوزه المدوي في الانتخابات، وبالرغم من محاولات القادة العسكريين وحلفائهم في جهاز الدولة ومؤسسة القضاء تفريغ الرئاسة من محتواها وكسر إرادة الرئيس حتى قبل توليه مهامه رسمياً، ألقى محمد مرسي خطابه الأول، وقسمه الرئاسي، من ميدان التحرير، ليعلن أن الشعب، والشعب وحده، مصدر السلطات. وفي ذكرى ثورة تموز/يوليو، تحدث مرسي إلى الشعب مرة أخرى. قال الرئيس أن ثورة تموز/يوليو كانت لحظة فاصلة في تاريخ مصر الحديث، وأنها لم تؤد إلى قيام الجمهورية وحسب، بل وشكلت خطوة كبرى في مسيرة الشعب من أجل أن يمسك مقاليد أموره ويتحكم بمقدرات بلاده. تحدث الرئيس عن إنجازات ثورة 1952 في تحقيق الجلاء واستقلال الإرادة الوطنية، في دعم حركات التحرر، وفي تحقيق قدر كبير من العدالة الاجتماعية. ولم ينس مرسي، في لفتة بالغة الأهمية، أن يستعيد مبادىء الثورة كمرجعية لوضع ميراثها في ميزان التاريخ. ثورة تموز/يوليو، قال الرئيس، أخفقت في بناء أحد أهم أهدافها: بناء حياة ديمقراطية صحيحة؛ مؤكداً، بعد ذلك، على أن تجربة التحول الديمقراطي فشلت فشلاً ذريعاً في السنوات الثلاثين الماضية، بفعل سيطرة الاستبداد والفساد. إخفاق الجمهورية الأولى في إنجاز التحول الديمقراطي، أكد مرسي، هو الدافع الأهم لاندلاع ثورة كانون ثاني/يناير 2011، الثورة التي وضعها الرئيس في سياق الانتفاضات الشعبية المصرية منذ نهاية القرن الثامن عشر، والتي دعا شعبه لأن يجعلها بداية لنهضة مصرية شاملة. ولد محمد مرسي لأسرة مصرية ريفية من محافظة الشرقية. ولا يزال عدد من أشقائه يعيش ويعمل في القرية نفسها التي تنحدر منها الأسرة. بدون التحول الهائل الذي حققته ثورة 1952 في بنية المجتمع المصري، ما كان لمحمد مرسي، ربما، أن يتخرج في كلية هندسة جامعة القاهرة، وأن يتيح له تفوقه، وتفوقه وحسب، أن يصبح معيداً في الكلية وأن يبتعث للولايات المتحدة لنيل درجة الدكتوراة. ليس هو وحسب، وليس مئات الآلاف من الشبان المصريين معه، ولكن حتى عشرات الآلاف من الشبان العرب، الذين فتحت لهم مصر عبد الناصر أبوابها ووفرت لهم فرصة التعليم الجامعي المجاني في الخمسينات والستينات، وحتى السبعينات من القرن الماضي. في أحد أهم جوانب حياته، محمد مرسي هو ابن ثورة تموز/يوليو. وكما الكثيرين من أبناء جيله، من طلاب جامعتي القاهرة والإسكندرية وأسيوط في سبعينات القرن الماضي، التحق محمد مرسي بجماعة الإخوان المسلمين، في بداية سنوات تأسيسها الثاني في مصر. كانت الجماعة آنذاك تخطو خطواتها الأولى نحو الحياة العامة والساحة السياسية، بعد أن أمضت قياداتها الأولى سنوات طويلة في سجون الجمهورية، سجون نظام تموز/يوليو 1952. بعد عودته من الولاياتالمتحدة، والتحاقه بهيئة تدريس جامعة الزقازيق، أخذ محمد مرسي في التقدم سريعاً في صفوف الإخوان المسلمين باعتباره أحد أهم قيادات مرحلة ما بعد التأسيس الثاني. نضاله في صفوف الجماعة، مسؤولاً سياسياً، نائباً برلمانياً، وعضواً في مكتب الإرشاد، أهله في النهاية لقيادة حزب الحرية والعدالة، ومن ثم خوض الانتخابات لرئاسة مصر ما بعد ثورة كانون ثاني/يناير. في جانب حياته الهام الثاني، محمد مرسي هو أيضاً ابن جماعة الإخوان المسلمين. لم تكن لحسني مبارك من علاقة بثورة تموز/يوليو أو ضباطها الأحرار، بالرغم من أنه جاء لمقعد الرئاسة، هو الآخر، من صفوف الجيش. ولكن أحداً، عندما اختاره السادات نائباً للرئيس، أو عندما أتاحت له الظروف الصعود السهل لمقعد الرئاسة، لم يطرح سؤالاً حول ما إن كانت علاقة مبارك بميراث تموز/يوليو ستشكل معضلة ما للرئيس الجديد. صعد مبارك لمقعد الرئاسة متخطياً الأحياء من قادة ثورة تموز/يوليو، وسرعان ما أوضح أن سياساته أكثر وفاء للرئيس السابق له، وليس لسياسات عبد الناصر، التي أسست لنظام الثورة وجمهوريتها. ولكن مرسي شيء آخر مختلف، مرسي هو ابن الجماعة التي خاض ضدها عبد الناصر، منذ 1954، جولتين رئيستين من الصراع الداخلي، وجولتين مثقلتين بالموت والعذابات والمآسي الإنسانية. ما لا يذكر غالباً أن صراعات عبد الناصر من أجل توطيد سلطته لم تقتصر على الإخوان المسلمين، بالرغم من إن الإخوان تلقوا الضربات الأكثر فداحة وألماً. خاض عبد الناصر صراعاً مبكراً ضد الطبقة السياسية السابقة، وخاض صراعات متتالية ضد رفاقه في مجلس قيادة الثورة، وصراعاً آخر ضد الشيوعيين المصريين؛ كما خاض صراعاً أخيراً ومدوياً ضد قيادة الجيش الذي جاء منه ومركز القوة العسكري الذي شكلته مجموعة المشير عامر. وما لا يذكر غالباً أن عبد الناصر لم يكن ابن الجيش المصري وحسب، بل وابن جماعة الإخوان المسلمين أيضاً؛ وليس هو فقط، ولكن العدد الأكبر من أول مجلس لقيادة الثورة؛ وأن الإخوان المسلمين كانوا حلفاء الضباط الرئيسيين، بل والحليف الوحيد بين القوى السياسية المصرية في مطلع الخمسينات. كان الإخوان حلفاءا ليس فقط في تنفيذ وحماية انقلاب تموز/يوليو، ولكنهم كانوا أيضاً حلفاء، وإن بقلق، لنظام الثورة في سنتيها الأولتين. الإخوان، كما كتبت من قبل، أرادوا أو لم يريدوا، وأحببنا أو لم نحب، كانوا شركاءً أصيلين في ولادة الجمهورية المصرية. ما حدث بعد 1954 ليس سوى واحد من حلقات الصراع المتتالية التي خاضها عبد الناصر لتوطيد نظام الحكم الذي أراد ان يقوده. أما الأهم من ذلك كله في قراءة هذه الحلقة الأكثر إشكالية في تاريخ مصر الحديث، والذي كثيراً ما يتم تغييبه أو تجاهله في الجدل السياسي المصري، أن كلاً من الإخوان المسلمين وضباط ثورة تموز/يوليو ولد ونشأ وتشكلت رؤيته لمصر ومحيطها في مناخ فكري وثقافي، سادت فيه رؤية الإصلاحية العربية الإسلامية، تلاميذ الأفغاني وعبده ورضا والقاسمي والجزائري والألوسي. هؤلاء هم الذين أعطوا للجامعة الإسلامية بعدها العروبي، وهم الذين أعجبوا بتقدم الغرب وكرهوا سيطرته وتحكمه في شؤون بلادهم، وهم، بخلفياتهم الاجتماعية الوسطى، نظروا بعين الشك والريبة إلى حكم الأعيان ووصاية أبناء الطبقات العليا. حتى عندما توسل عبد الناصر للمفاهيم الاشتراكية في الستينات، حرص على أن يقول أن اشتراكية نظامه عربية الطابع؛ ولم يختلف في تصوره كثيراً عن اشتراكية السباعي، المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية، الذي طبع كتابه في اشتراكية الإسلام ووزع في مصر على نطاق واسع، بينما قادة الإخوان في مصر يقبعون في السجون. تماماً، كما وقف مرسي في مشهد انقلابي وتصالحي كبير يعطي لثورة تموز/يوليو ما لها، وهو الذي جاء لمقعد الرئاسة من صفوف الجماعة التي قضى كل مرشديها تقريباً، من المرشد الثاني إلى المرشد الحالي، سنوات طويلة ومريرة في سجون الجمهورية الأولى. ثمة ضرورة لإعادة فتح النقاش حول نظام عبد الناصر، ولما تعنيه ثورة كانون ثاني/يناير على النظام الذي أسس له انقلاب 23 تموز/يوليو 1952. وربما كان الخطاب الذي ألقاه الرئيس محمد مرسي بداية ضرورية من أجل رؤية أكثر عدلاً وإنصافاً، وأكثر تاريخية، لتاريخ الجمهورية المصرية. وحدها هذه الرؤية، لا لغة الإسفاف الدعائي والاستقطاب السياسي، يمكن أن تساعد على إخراج مصر من الأزمة التي تعيشها الآن، وأن تسهم في تحقيق وعود كانون الثاني/يناير 2011.