يبدو المشهد السياسي شديد التعقيد، لكنه على تعقيده يحمل حدودا ونمطا واضحا لهؤلاء الذين ينظرون اليه من أعلى، وهو ما سنحاول ان نفعله في هذا المقال، حيث سنبتعد عن التفاصيل الدقيقه في محاولة لكي نعرف أين نحن الآن، وإلى أين نحن متجهون، وماذا يحدث في مصر. كانت مصر تعيش عصرا طويلا من الديكتاتورية والاستبداد، ثم قامت ثورة شعبية لأجل الإطاحة بهذا العصر هادفة للتحول إلى دولة ديموقراطية يعيش فيها الناس في حرية وعدالة اجتماعية وكرامة انسانية. لكن ولظروف الثورة المصرية، لم يحدث هذا التحول سريعا، وهو ما أدى لدخولنا مرحلة انتقالية بين عصر الديكتاتورية والحرية. واذا نظرنا للحالة المصرية من هذا المنطلق، سنستطيع أن نتفهم ملامح المشهد العامة التي تنصهر فيها التفاصيل المكونة لها. ففي أي دولة تمر بهذه المرحلة الانتقالية، يحدث دائما هذا الصراع الوجودي بين القوى المدنية والمؤسسة العسكرية، حيث تصبح السيطرة المدنية على الدولة علامة اكتمال التحول ونجاحه. ويعرف صامويل هنتنجتون السيطرة المدنية في كتابه: «الجندي والدولة» على أنها «الخضوع السليم من العسكري المتخصص والمهني لمحددات السياسة التي تصوغها السلطة المدنية». الصراع في العلاقات المدنية العسكرية يحدث التصارع بين القوى المدنية والمؤسسة العسكرية حول خمس نقاط أو محاور رئيسة: أولا: رسم السياسات العامة، حيث يحاول العسكر دائما أن يسيطروا على عملية رسم السياسة العامة للدولة سواء الاقتصادية أو السياسية أو العلاقات الخارجية، رسميا أو فعليا. وقد رأينا ذلك في الحالة المصرية، على سبيل المثال، في موافقة المجلس العسكري على ميزانية حكومة الجنزوري قبل بضعة أيام من تولي الرئيس الجديد– المنتخب– لسلطاته، وهو ما يعني تكبيله بميزانية، لم يشارك في وضعها، بل قام برسمها من هو من المفترض أن يرحل فور تولي الرئيس الجديد للحكم. ثانيا: تعيين النخبة الحاكمة من كبار موظفي الدولة، وهي منطقة صراع مهمه في الحالة المصرية في ظل انتشار المئات وربما الآلاف من العسكريين في صلب الجهاز الإداري للدولة. ثالثا: الأمن الداخلي، وهو يعني تحديدا من الذي يسيطر على مسألة تدخل القوات المسلحة في عمليات فرض الأمن داخليا، وهو أمر تبرز أهميته حينما تحدث حالات الانفلات الأمني، وهو أمر ليس عن الحالة المصرية ببعيد. رابعا: الأمن القومي. فالقرار النهائي في وضع سياسات الأمن القومي يجب أن تكون في يد مدنيين في مستوياته العليا، وهو أمر يعرفه الغرب جيدا حيث يكثر انتشار المدنيين في دراسات الاستراتيجية والأمن القومي (معظم مستشاري الأمن القومي الأمريكي مدنيين)، وهو أمر نجد أن العسكر في الحالة المصرية قد وضعوا أمامه عقبه قوية في ظل وجود مجلس دفاع وطني يسيطر عليه 11 من العسكريين في مقابل 6 من المدنيين. والمعروف أن وجود فرد واحد من العسكريين قد يعدل بضعة مدنيين في أي مستوي قيادي. خامسا: التحكم بالمؤسسة العسكرية. فإعطاء المؤسسة العسكرية مساحة من الاستقلالية في أمورها الفنية لا يجب أن يتعدى إلى جعلها دولة داخل الدولة، بل إن التوجه الحديث في الاستراتيجية العسكرية هو جعل القرار النهائي في مستوى العمليات– وليس فقط التوجيه الاستراتيجي العسكري- في يد مدنيين، وهو ما ظهرت صحته في ظل تأثير العمليات العسكرية الجزئية في الحياة السياسية. ومن ثم يظهر التساؤل واضحا في الحالة المصرية، كيف يمكن تحقيق السيطرة المدنية في ظل استقلال المؤسسة العسكرية بنفسها وجعلها دولة فوق الدولة؟ عوامل القوة والضعف يطفو الآن التساؤل المنطقي حول العوامل المؤثرة في قوة وضعف كل فريق في هذا الصراع، وسوف نبدأ بالعوامل الخارجة عن إرادة العسكر: اولا: الدعم الجماهيري. فحصول القوى المدنية على الدعم الجماهيري، يجعل لها نقطة قوة لا تقارن، حيث تبطل حجة العسكريين للتدخل في الشئون المدنية، وهو ما يحاول العسكر في الحالة المصرية ان يقتنصوه وشواهده كثيرة آخرها توزيع ملايين من الشنط الرمضانية على الفقراء ومحاولة المجلس العسكري خلق كيانات مشكوك في شرعيتها كالبرلمان (وقد تم حله بالفعل) أو اللجنة التأسيسية (تحت نظر القضاء بالفعل)، بل وربما يمتد لمنصب الرئاسة إذا ما اضطروا لذلك. ثانيا: توافق القوي المدنية. فاصطفاف القوى المدنية بمواجهة العسكر يجعل من العسير عليهم التدخل في الشئون السياسية، وهو ما لا نجده على الإطلاق في الحالة المصرية، حيث ارتأى فصيل سياسي أن الجنة تحت أقدام العسكري وهو ما يصطلي بناره الآن. ورأيناه أيضا حينما يهرع الجميع عند خلافهم مع بعضهم البعض للعسكر، بل ويذهب البعض إلى آخر المدى في دعوته الصريحة للعسكر للانقلاب على السلطات المنتخبه، وما نبأ التأسيسية عنا ببعيد. ثالثا: التهديدات الداخلية. فانتشار حالة الانفلات الامني يخلق مبررا لتدخل العسكر في الشئون الداخلية بحجة الحفاظ على الأمن. وفي الحالة المصرية، نجد أن العكس تماما يحدث نفس الأثر، فترك الانفلات الأمني وعدم مواجهته بالرغم من تواجد العسكر في الداخل المدني، يجلب أيضا نفس الحجة لاستمرار التدخل. رابعا: التهديدات الخارجية. وهي الحجة الأكبر للعسكر في كل زمان ومكان. فمن غرائب التاريخ أنه، على سبيل المثال، أثناء الثورة الفرنسية، قام رجال الصحف الموالون للملك بشن حملة تخويف ضد الثورة الناشئة بذريعة وجود جيوش أجنبية ستنقض على فرنسا وتذبح شعبها، وهو أمر شاهدناه أثناء الثورة المصرية– كحديث البوارج الأمريكية المنتظرة بجانب قناة السويس– وشاهدناه بعدها أيضا في ظل حوادث الحدود المتكررة والمفتعلة. خامسا: القوى الخارجية. فالدور الذي تلعبه القوى الخارجية في الشأن الداخلي يعزز دائما فرص تدخل العسكر في الشئون المدنية، وهو ما نراه في الحالة المصرية. فالولايات المتحدهالامريكية لها مصالح وأهداف يجعلها تتدخل حتى وإن لم تكن لها القدرة كاملة، ولا ننسى أن 85 بالمائة من واردات السلاح المصري تأتي من امريكا (تقرير CSIS يونية 2010). العوامل المتعلقه بالعسكر اولا: العقيدة الرئيسة للجيش، :فالعقيدة الوطنية للجيش ودفاعه عن أمن الوطن ككل- وليس الدفاع عن عرق أو مذهب معين– يجعل له قدرة أكبر للتدخل في الشئون المدنية، والجيش المصري– برغم أي اختلاف مع المؤسسة العسكرية – يحمل عقيدة قتالية وطنية، حيث يتكون من جميع أطياف الشعب وتنوعاته. ثانيا: التماسك الداخلي، فالتماسك التنظيمي هو أحد أهم نقاط قوة العسكر في الصراع. وحتى الآن لم تظهر أي شقوق داخل الجيش في الحالة المصرية، وحادثة ضباط 8 أبريل 2011 تدل على هذا، حيث تم احتواء الموقف وتداركه. ثالثا: الاستقلال الاقتصادي، وهو عامل مهم في استقلال قرار العسكر عموما، وفي سياق الصراع خصوصا، تملك المؤسسة العسكرية في مصر من الاقتصاد المدني المستقل ما يبلغ حوالي 30 بالمائة من الناتج الاقتصاد القومي. اقتراحات عامة لمعالجة الموقف في ضوء ما سبق، نخلص إلى ان المشهد الحالي يظهر صراعا القوى المدنية مع العسكر على السيطرة على الدولة في مصر، ومن ثم فالدخول في أي صراعات داخلية بين القوى المدنية أو محاولة إحدى هذه القوى الانفراد بالسيطرة هو أمر مفسد لا محالة لموقف القوى المدنية على العموم، وهو ما يجلب الخراب والفشل التام للثورة المصرية. لهذا نخلص إلى مجموعة من الاقتراحات العامة، نساهم بها في رؤية هذا المشهد المعقد، وهي على عموميتها كافية– فيما نرى– في حدود هذا المعالجة، حيث قدم الكثيرون العديد من الاقتراحات الأكثر تفصيلا، والتي نرجو أن ينتبه لها السادة صناع القرار وقادة القوى السياسية وشباب الثورة. 1. العمل على تحقيق جبهة وطنية مدنية توحد جهود كافة القوى السياسية من أجل تصدير موقف موحد في مواجهة محاولات التغول والهيمنه من قبل العسكر. 2. الإسراع في عمليات إنعاش اقتصادي وتحسن معيشي في المجتمع المصري، يشعر المواطن البسيط بالثقة في قيادة المدنيين للدولة ويكسب شرعية جديدة للحكم المدني. 3. التمسك المطلق بكتابة الدستور خارج وصاية العسكر والتأكيد فيه على الطبيعة المدنية لإدارة الدولة. 4. الإسراع في عمليات التطهير لكافة كيانات الدولة سواء في السلطة التنفيذية أو القضائية.