بدأت امس جولة مفاوضات جديدة بين إيران والدول الست الكبرى حول ملفها النووي في موسكو، وسط توقعات متراوحة بين حدوث اختراق جدي وفشل يفتح الباب أمام تصعيد أكثر في هذا الملف الحساس. ولما كان الملف النووي الإيراني يختصر بداخله مطالب أعمق للطرفين تتجاوز كثيراً التفاصيل التقنية الموضوعة على طاولة التفاوض، تتخطى معاني جولة موسكو التفاوضية مجرد مفاوضات صعبة حول ملف شائك بين دولة عالمثالثية طموحة والدول الست الكبرى (أعضاء مجلس الأمن الدائمين زائدا ألمانيا). ترتبط جولة موسكو بمسار تقني - قانوني - سياسي - إقليمي فريد من نوعه، وبالتالي ما يجري في موسكو اليوم يؤثر ويتأثر - في آنٍ معاً- بالتوازنات في الشرق الأوسط برمته. تحاول السطور القادمة الإجابة عن سؤال مركزي: كيف تبدو احتمالات جولة الأمس في موسكو: اختراق أم فشل؟، عبر استعراض مواقف الأطراف في الجولتين السابقتين في اسطنبول وبغداد، ومن ثم الدخول في محاولة تقدير نتيجة الجولة الحالية من المفاوضات في العاصمة الروسية. تأتي جولة موسكو التفاوضية اليوم بعد جولتين سابقتين للتفاوض: واحدة في اسطنبول تمت في شهر أبريل/نيسان والأخرى في بغداد جرت شهر مايو/أيار، وفي توقيت بالغ الحساسية للطرفين الغربي والإيراني. يبدو السياق الأساسي لدخول الأطراف المتفاوضة غرف التفاوض المغلقة متمثلاً في تقدير إيراني مفاده أن انتصار أوباما في الانتخابات الرئاسية القادمة في نوفمبر/تشرين الثاني سيحسن مواقعه السياسية في الداخل أمام خصومه المطالبين بضربات عسكرية لإيران، ويجعله بالتالي أكثر تحررا من الضغوط في المفاوضات الحقيقية القادمة مع إيران في وقت لاحق. وتظهر خطورة الأمر، مع النفوذ الصهيوني المتزايد في الغرب، لأن إيران بالرغم من ابتعادها سنوات عن امتلاك رؤوس نووية، إلا أن إسرائيل ربما تعتقد أن نقطة اللاعودة في الملف النووي الإيراني قد حانت، فتقوم بضربة عسكرية لتوريط واشنطن فيها. كما أن الاتحاد الأوروبي الذي يعاني تفاقم أزمته النقدية مع اليونان وغيرها من الدول الأضعف اقتصادياً داخل منطقة اليورو، سيتحسب من خطواته عدة مرات قبل الانخراط الجدي في فرض عقوبات على إيران (حدد موعدها الأول من يوليو/تموز 2012)، من المحتمل جداً أن تزيد من أزمته. ويتأسس على هذا الاعتقاد فرضية مفادها أن طهران راغبة في منع المفاوضات من الفشل، كي لا تفتح الباب أكثر أمام اللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة الأميركية للضغط على أوباما، وكي تنفس الضغوط الاقتصادية الخانقة عليها. بالمقابل ترغب واشنطن في الإبقاء على باب المفاوضات مع إيران مفتوحاً، لتعزيز قدرات أوباما في الصمود أمام الضغوط الصهيونية وتعزيز وضعه الانتخابي، مع الحرص على انتزاع تنازلات تفاوضية صغيرة من إيران لتسويقها للناخب الأميركي، على خلفية أن الإطار القانوني وتوازنات القوى الإقليمية معطوفة على الخطوات التقنية التي قطعتها إيران بالفعل في ملفها النووي لا تسمح باقتناص تنازلات جوهرية من إيران. ارتفع التفاؤل بنجاح المفاوضات والمسار السياسي لحل الأزمة بعد جولة مفاوضات اسطنبول التي جرت في شهر أبريل/نيسان، ربما كان الاختراق الجدي في هذه الجولة من المفاوضات متمثلاً في نقطة البداية التي انطلقت منها، أي بعد التسخين الصهيوني العنيف داخل الولاياتالمتحدة الأميركية ضد إيران، فضلاً عن توقف المفاوضات بين الطرفين لمدة خمسة عشر شهراً؛ وبالتالي كان عقد جولة المحادثات في اسطنبول يمثل في حد ذاته نجاحاً. كان سلوك الأطراف في اسطنبول واضحاً ومتشابهاً مع سلوكهم المتوقع اليوم في موسكو، الرغبة في كسب المزيد من الوقت ومنع إسرائيل من توجيه ضربة عسكرية لمنشآت إيران النووية. كان الدافع وراء المرونة الغربية رغبة أوباما في منع أسعار النفط من الارتفاع ما يهدد سياسته الاقتصادية في هذا التوقيت الانتخابي الحساس، أما أوروبا فقد شاركت أوباما رغبته في منع أسعار النفط من الارتفاع، لأن ذلك سيعرقل مساعيها للتعافي من أزمتها المالية. من ناحيتها زادت إيران في فترة توقف المفاوضات (خمسة عشر شهراً تفصل جولة اسطنبول عن سابقاتها) مخزونها من اليورانيوم المتدني التخصيب، ورفعت نسبة تخصيبه إلى مستوى عشرين بالمئة، وانتهت من تجهيز منشآة فردو تحت الأرض. اعتقد الغرب أن إيران تأتي إلى المفاوضات خائفة من العقوبات الاقتصادية ومن احتمال ضربة عسكرية، لكن طهران اعتقدت بالمقابل أنها في الموقع التفاوضي الأفضل. ظهرت الفجوة التفاوضية تلك في جولة بغداد مايو/أيار، وهو ما بدد أجواء التفاؤل التي أطلقتها جولة اسطنبول. وأظهر السلوك الغربي، الأميركي والأوروبي، في جولة بغداد أن العقوبات الاقتصادية هي ورقة التفاوض الأساسية للغرب في مواجهة إيران؛ لكن من دون تقديم «جوائز تفاوضية» سوى رفع هذه العقوبات، وهو ثمن يقع في مستوى أدنى بكثير مما يدور في رأس صانع القرار النووي الإيراني. عرضت الدول الست الكبرى على إيران في جولة بغداد التوقف عن تخصيب اليورانيوم حتى درجة 20% ونقل مخزونها من اليورانيوم المخصب لهذه الدرجة خارج الأراضي الإيرانية، وإيقاف العمل في منشأة فردو، وبالمقابل تحصل إيران على تعاون تقني نووي مع الغرب، وكذلك على قضبان الوقود النووي المخصصة للأغراض الطبية، فضلاً عن قطع غيار لطائراتها المدنية والتي تعاني منذ فرض حظر توريدها لإيران عام 1979. يبدو واضحاً أن إيران تعتبر أن مستوى التخصيب عند نسبة 20% يشكل ضغطاً على المفاوض الغربي، لكنه في العمق ليس خطاً أحمراً إيرانياً. ومرد ذلك ان التخصيب إلى مستوى فوق 90% هو الذي يؤهل لامتلاك رؤوس نووية، وأن المعارف التقنية اللازمة للوصول إلى تلك النسبة هي ذات المعارف اللازمة للوصول إلى مستوى 5%، لكن مع زيادة عدد أجهزة الطرد المركزي. وبالتالي تستطيع إيران بالفعل التنازل عن التخصيب إلى مستوى 20%، لكن بشرط مواصلة التخصيب حتى إلى مستوى 5% والاستمرار في امتلاك المعارف النووية، أو بكلمات أخرى انتزاع حقها في التخصيب للأغراض السلمية. ويتعزز هذا الاستنتاج بملاحظة أن القرارات الدولية التي صدرت بحق إيران (قرارات مجلس الأمن 1737 و1747 و1803 و1929) تطالبها بالتوقف تماماً عن التخصيب، في حين يمنحها توقيعها على اتفاقية «حظر انتشار الأسلحة النووية» ذلك الحق بوضوح كامل. ولذلك لم يرق ما عرض في جولة بغداد لاعتباره أساساً للتفاوض من المنظور الإيراني، إذ استثمرت إيران «رأسمال» سياسيا في ملفها النووي يفوق بأشواط كثيرة ما عرض عليها في جولة بغداد. تكتسب جولة موسكو اليوم أهمية جديدة على هذه الخلفية، حيث يلتقي «التقنيون» من الطرفين اليوم في مهمة عنوانها منع المفاوضات من الفشل، عبر تركيز التفاوض على مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة 20%. على ذلك لا يتوقع أحد من جولة موسكو اليوم رفعاً كاملاً للعقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، ولا إغلاقاً إيرانياً بالمقابل لمنشآة فردو الواقعة قرب مدينة قم، والأكثر تحصيناً بين كل المنشآت النووية الإيرانية. الأرجح أن التفاوض اليوم سيستمر متمحوراً على مخزون إيران من اليورانيوم ورجوع إيران المحتمل عن نسبة التخصيب البالغة 20%، مع فارق جوهري أساسي يتمثل في طبيعة «الجوائز التفاوضية» التي سيضعها الغرب على طاولة التفاوض. ويبدو لافتاً أن وزيرة الخارجية الأميركية كلينتون أعلنت قبل يومين أن واشنطن ستدخل مفاوضات اليوم في موسكو بأوراق تفاوضية قوامها التالي: أولاً التأكيد على حق إيران في تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية، ثانياً التعاون مع إيران في الأزمات الإقليمية، وثالثاً رفع جزئي للعقوبات المفروضة على إيران في مقابل شفافية الأخيرة في برنامجها النووي. عند تقليب النظر في ما ستضعه كلينتون اليوم على مائدة التفاوض يتضح أن «الجوائز التفاوضية» سترقى إلى مستوى اهتمام المفاوض الإيراني، وخصوصاً الجائزتين الاولى والثانية. تعني الجائزة الأولى تكليلاً لمساعي إيران بالاعتراف بحقها في التخصيب على العكس من المنطق الداخلي لقرارات مجلس الأمن المشار إليها أعلاه، في حين تدشن الثانية اعترافاً ضمنياً أميركياً بإيران كقوة إقليمية، وهي جائزة إيران الحقيقية من ملفها النووي. لا يتوقع أحد ان تحل أزمة الملف النووي الإيراني، لاعتبارات التوقيت الحساس، ومناخ عدم الثقة المتراكم بين الطرفين، فضلاً عن تفاصيل الخطوات المتقابلة التي يجب على كل طرف الالتزام بها مقابل الآخر وبالتزامن. لكن بالمقابل لا يريد أحد من المتفاوضين اليوم فشلاً للمفاوضات، لأن الفشل سيعبد الطريق مجدداً أمام التصعيد، وهو ما لا يخدم مصلحة الاطراف المتفاوضة وإنما مصلحة إسرائيل. الأرجح أن جولة المفاوضات في موسكو ستعيد الأجواء التفاؤلية التي سادت في اسطنبول، عبر البحث المفصل في تفاصيل نقل مخزون اليورانيوم اليوم؛ والإعلان غداً عن جولة لاحقة من التفاوض في مكان جديد، ما يعطي وقتاً إضافياً ثميناً للأطراف المتفاوضة كل لأغراضه الخاصة - مع إبقاء باب التصعيد موصداً. تذكر عزيزي القارئ وأنت تشاهد مساء اليوم الأخبار المتلفزة، التي ستظهر فيها الأطراف المتفاوضة وهي تبتسم أن الوقت يعمل في مصلحة الأطراف المفاوضة، على العكس من إسرائيل، فلا تتوقع فشلاً مدوياً أو نجاحاً ساحقاً. لا تغرق في التفاصيل التقنية التي ستزدحم بها شاشات التلفزة، فما يدور التفاوض عليه في العمق ليس التفاصيل التقنية للملف وكميات اليورانيوم ونسبة تخصيبه فكلها على مائدة التفاوض لتقطيع الوقت. عليك أن تعرف أن ما يدور التفاوض عليه في العمق هو موقع إيران في ترتيبات الشرق الأوسط الجديد، وليس أقل من ذلك!. ----------------------------------------------------------------------------- د. مصطفى اللباد رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية بالقاهرة.