حققت حركة النهضة، ذات الجذور الإسلامية السياسية، فوزاً ملموساً في أول انتخابات تونسية عامة بعد إطاحة نظام بن علي. لم تستطع النهضة الحصول على الأغلبية المطلقة في البرلمان التأسيسي التونسي، بالرغم من أنها حازت تأييد نصف الناخبين، ولكن كتلتها البرلمانية هي الأكبر. وكما أي حزب سياسي حديث، واتباعاً لقواعد العمل السياسي التعددي المتعارف عليها، لم تلجأ النهضة إلى المغالبة أو التفرد، بل فاوضت الحزبين التاليين في الحجم من أجل تشكيل النظام السياسي الجديد. أعطيت النهضة رئاسة حكومة إئتلافية، بينما احتل مقعدي رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان زعيما الحزبين الآخرين، اللذين لا يمكن اتهامهما بالإسلامية. ولكن أحداً من القوى الأخرى لا يبدو في مزاج منح النظام السياسي الجديد، الذي تقوده النهضة، فرصة الحكم، حتى للفترة الانتقالية القصيرة نسبياً. قوى سياسية تونسية، توصف أحياناً بالليبرالية أو العلمانية، ومرة أخرى بالبورقيبية، تحرض ضد الحكومة يميناً وشمالاً، وتدفع بفئات المجتمع التونسي المختلفة، التي عانت طويلاً خلال الحكم السابق وضاعف من معاناتها الاضطراب الاقتصادي والأمني الذي نجم عن الثورة والتغيير السياسي، إلى سلسلة من الاضرابات والتظاهرات والتحركات، التي لا هدف لها سوى تعطيل الشأن العام. ولا يخلو الأمر من تحريض سفراء الدول الغربية ضد الحكومة وسياساتها. في مصر، حيث تعيش البلاد منذ انتصار الثورة المصرية مناخاً من الاستقطاب السياسي بين القوى الإسلامية وغير الإسلامية، حقق الإسلاميون فوزاً ساحقاً في الانتخابات البرلمانية، منحهم، ما بين إخوان مسلمين وسلفيين ووسطيين، ما يزيد عن 70 بالمائة من مقاعد مجلس الشعب (البرلمان المصري). وإن أخذنا نتائج الاستفتاء على التعديل الدستوري في آذار/مارس 2001، أسابيع قليلة بعد سقوط نظام مبارك، وانتخابات الاتحادات الطلابية والنقابات المهنية التي أجريت خلال العام الماضي، فالواضح أن الصوت الانتخابي إسلامي التوجه، أو المؤيد للقوى الإسلامي بصورة عامة، يتجاوز السبعين بالمائة بالفعل. بمعنى أن نتائج الانتخابات البرلمانية لم تكن استثناء. هذا، بالطبع، ليس تقسيماً صلباً للخارطة السياسية المصرية؛ فالتيار الإسلامي السياسي هو ظاهرة جديدة نسبياً في الحياة السياسية المصرية، بل أن بعض قواه، مثل الأحزاب سلفية التوجه، هي ظاهرة جديدة كلية، لا يتجاوز عمرها الشهور المعدودة. والشعب المصري، عدداً ومزاجاً وتوجهاً، أكبر بكثير من القوى السياسية الحزبية مجتمعة، ناهيك عن الإسلاميين. بمعنى أن ما يصدق من حسابات سياسية اليوم قد لا يصدق بالضرورة بعد عام أو أعوام قليلة، وأن الأغلبية الإسلامية الكبيرة قد تنقلب إلى أغلبية بسيطة، أو حتى أقلية في جولات انتخابية قادمة. المصريون لم يمنحوا، ولن يمنحوا، قوة سياسية ما ثقة مطلقة؛ وفوق أن الساحة السياسية المصرية أقرب إلى السيولة منها إلى التشكل الصلب، فإن الرأي العام يعيش مناخاً مزدوجاً من الرقابة والترقب. بيد أن هذه الحالة السياسية الانتقالية لا يجب أن تصادر حق الإسلاميين في تقلد المواقع التي يمنحها الفوز الانتخابي والأكثرية البرلمانية. ما يجري، في الحقيقة، وبدرجة أشد وأكثر حدة من الوضع التونسي، أن القوى السياسية غير الإسلامية (ليبراليون، علمانيون، قوميون، وطنيون مصريون، عسكريون، وأي شيء آخر) تتجاهل حق الأغلبية الانتخابية وتعمل بكل الوسائل للقفز عليه. انعكس هذا التجاهل بداية في عملية تشكيل اللجان المتخصصة لمجلس الشعب، حيث يبدو أن حالة من عدم التصديق تتخلل جلسات المجلس بعد أن انتخب الإخواني محمد الكتاتني رئيساً له؛ وكأن وصول هذا الإسلامي المهذب، الكفؤ، والنائب السابق لعدة دورات، إلى مقعد رئاسة البرلمان ما كان يجب أن يحدث، وأن وقوعه لا يعني بالضرورة أن يستمر. وما كاد لقاء غرفتي البرلمان المصري أن يعقد وتبدأ خطوات تشكيل الجمعية التأسيسية، المناط بها وضع مسودة الدستور المصري الجديد، حتى اندلعت أزمة بالغة التعقيد، لم تجد الطبقة السياسية المصرية حلاً لها بعد. باعتبار أكثريتهم البرلمانية تصرف الإسلاميون ببعض الطيش عندما سعوا إلى أن تنعكس هذه الأكثرية على تشكيل الجمعية التأسيسية، متغافلين عن حقيقة أن لجنة لكتابة الدستور يجب أن تكون أوسع تمثيلاً وتعددية وانعكاساً للأطياف الوطنية من الأغلبية السياسية المؤقتة. ولكن موقف الأطراف الأخرى لا يقل طيشاً. فما إن تشكلت الجمعية التأسيسية بأغلبية إسلامية، حتى بدأت انسحابات ممثلي القوى والشخصيات الليبرالية من عضويتها؛ وفشلت كل جهود تعديل بنية الجمعية والتوصل إلى حل وسط. وبالرغم من أن المحكمة الإدارية، في إجراء تشوب دستوريته الشكوك، تعهدت حل الجمعية التأسيسية الأولى، فإن العمل من أجل إعادة تشكيل الجمعية لم يزل متعثراً. المشكلة الرئيسية خلف هذا التعثر تتعلق بما تعنيه الأكثرية النيابية، وكيف يمكن تقدير حق هذه الأكثرية ومدى تجليها في تشكيل الجمعية وآلية عملها. ولا يقل التأزم المحيط بانتخابات الرئاسة عن أزمتي البرلمان والجمعية التأسيسية. فبالرغم من وجود ثلاثة مرشحين إسلاميين في سباق الرئاسة، يتوقع أن يتقاسموا الأصوات المتعاطفة مع الاتجاه الإسلامي، فإن ثمة شعوراً بالخطر الداهم يسيطر على الدوائر السياسية الليبرالية المصرية، ينعكس في خطاب 'سعي الإسلاميين للهيمنة على نظام الحكم والحياة السياسية.' والمدهش أن شخصيات عرفت بارتباطها بالثورة ومعارضتها للنظام السابق، أخذت تحرض المجلس العسكري، ومرشحين رئاسيين يمثلون قوى ودوائر النظام السابق، على التصعيد والتدخل لحسم التدافع السياسي ضد القوى الإسلامية، لاسيما الإخوان المسلمين. الحقيقة، بالطبع، أنه فيما عدا رئاسة البرلمان، الذي يواجه امتعاضاً شعبياً متزايداً، نظراً لقدرته المحدودة على الفعل والسلطات الضئيلة التي يتمتع بها في ظل النظام الدستوري الحالي، فإن الإسلاميين لم 'يسيطروا' على أي شيء آخر بعد. فبالرغم من مطالب الأكثرية البرلمانية، والعجز الذي تظهره حكومة د. الجنزوري، والمخاوف التي تولدها سياستها المالية، فإن المجلس العسكري، القائم مقام رئيس الجمهورية، يرفض إقالة الحكومة ومنح الأكثرية حق تشكيل حكومة جديدة. وبالنظر إلى حدة التنافس على موقع الرئاسة، فإن أحداً لا يعرف على وجه اليقين من سيكون الرئيس القادم. إلى اللحظة، ليس ثمة من مؤشر على أن تولي الإسلاميين للسلطة التنفيذية ينظر إليه بعطف، أو حتى بعين القبول، من المجلس العسكري والطبقة السياسية المصرية. ولد التيار الإسلامي السياسي في المجال العربي في نهاية العشرينات من القرن الماضي بفعل متغيرات سياسية واجتماعية كبرى، أخذت تعصف بالمجالين العربي والإسلامي منذ منتصف القرن التاسع عشر. وقد جاءت ولادة التيار الإسلامي السياسي بعد سنوات قليلة من ولادة النظام السياسي الحديث في المنطقة، متجلياً في مؤسسة الدولة الحديثة وحدودها وطبقتها الحاكمة. وبالرغم من التباينات القليلة بين دولة وأخرى، سواء في طبيعة نظام الحكم أو في علاقة نظام الحكم بالقوى الإسلامية، لم يسمح للإسلاميين الاندماج في الساحة السياسية، أو في التنافس من أجل الوصول إلى الحكم والسلطة. وفي أغلب البلدان العربية، نظر إلى القوى الإسلامية باعتبارها منظمات سياسية غير شرعية. وسرعان ما لجأت جماعات إسلامية إلى العنف المضاد، وإلى تبني خطاب إسلامي راديكالي، لا يقل نفياً عن خطاب نزع الشرعية الذي أسس لعنف الدولة وسياسات القمع التي تبنتها. وعلى مدى عدة عقود، تحولت البلدان العربية، أو أغلبها، إلى ساحات صراع بالغ الدموية والعنف بين الأنظمة الحاكمة وقطاعات واسعة من شعبها، خسرت خلاله جيلاً أو جيلين من بعض أفضل شبانها، بين نفي وتحطيم كلي في المعتقلات والسجون وقتل. مع بداية التسعينات، كان المناخ العالمي يتغير، القوى الإسلامية تتغير، والأنظمة العربية تتغير هي الأخرى. شهد العالم موجة جديدة من التحول الديمقراطي في دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية، وتحولت الديمقراطية إلى حلم الخلاص الأرضي للشعوب. ولأن الأنظمة العربية كانت فقدت الكثير من رصيد الشرعية بفعل الإخفاق في برامج التنمية والعلاقات مع الخارج، فقد أصبحت أكثر تغولاً وسيطرة. ولأن حراكاً سياسياً أخذ في التصاعد في مختلف البلاد العربية، بدأت القوى الإسلامية تبني جسوراً مع القوى السياسية الأخرى، مما دفعها في النهاية إلى بلورة تصور ديمقراطي تعددي للحكم والحياة السياسية. وربما كانت الوثيقتان اللتان أصدرتهما جماعة الإخوان المسلمين في منتصف التسعينات حول مسألتي الديمقراطية والمرأة واحدة من أهم التطورات في تاريخ الإخوان. عدد من تنظيمات الإخوان المسلمين كان قد انخرط بالفعل، وبدون عميق نظر في الدلالات الإيديولوجية، في العمل السياسي التعددي في الدول العربية التي عرفت آنذاك هامشاً من التعددية السياسية، ولكن التحول الذي ستشهده رؤية القطاع الأكبر من التيار الإسلامي السياسي منذ منتصف التسعينات كان انعكاساً لانعطاف إيديولوجي وسابق تصميم وتصور. فيما يتعلق بالإخوان المسلمين، على وجه الخصوص، أشر هذا التحول لاعتناق النهج الديمقراطي التعددي، ولفكرة التداول السلمي على السلطة، للمرة الأولى منذ تأسيس الجماعة في 1928. وليس ثمة شك أن الإنجاز الأكبر لحركة الثورة العربية، سواء في البلاد العربية التي تغيرت بالفعل، مثل تونس ومصر واليمن وليبيا، والمغرب، إلى حد ما، وتلك التي تنتظر التغيير، مثل سورية والبحرين والأردن، أنها وفرت أرضية ومناخاً لاندماج التيار الإسلامي السياسي وأنصاره، الذين يمثلون أغلبيات متفاوتة، في الحياة السياسية العربية، على أسس ديمقراطية وتعددية. ما نشهده الآن، وبالرغم من الاستقطاب السياسي الحاد، فرصة غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الأولى لتبلور إجماع وطني على قيم سياسية كبرى، تؤسس لعقلنة الدولة الحديثة ووضع حدود قاطعة لنزوعها الأصيل للسيطرة والتحكم المركزي. تحرر القوى والأحزاب العربية الليبرالية من تصورها الإقصائي للحياة السياسية، وتبنيها مقاربة عقلانية لشرعية القوى الإسلامية السياسية، سيجعل رحلة البحث العربي عن الإجماع والاستقرار أقصر وأقل تكلفة. الذهاب لخيار مختلف لا يعني أن الرحلة لن تصل إلى نهايتها. كل ما في الأمر أن الأعباء ستكون أثقل.