الدولة الحديثة مؤسسة علمانية، بنيتها ليست مصممة إلا لتُدار هكذا، ومحاولات تغيير ذلك عبر "أسلمتها"، ستسقط في قولبة الإسلام في إطار أيديولوجي يحفظ العلمانية ويغّير رايتها فقط، وذلك لأن علمانية الدولة كامنة فيها وليست دخيلة عليها، والحلول المُتاحة ليست أسلمتها، ولكن أنسنتها، فما يمكن أن يتغيّر في الدولة هو مدى إنسانية أو لاإنسانية أدائها، ولكن ليس علمانيتها. والحلول المتاحة تُصبح إذن: 1- تفكيك الدولة، حل ممتاز ولكن صعب، يُمكن تحقيق قدر منه في لحظات التحول كالثورات، مثلاً في نطاق جغرافي معين تنسحب منه الدولة أو في مجالٍ ما تُضرب فيه قوتها أثناء الموجة الثورية (مثلاً ميدان التحرير بعد الثورة كنطاق جغرافي صغير، ضُرب فيه نفوذ الدولة بشكل ما)، ولكن يعيب هذا الطرح أن الدولة في الواقع ستظل نافذة لفترة، في حين هو يعمل على المدى البعيد بدون إدراك كيف يصل لهدفه يوماً بيوم. 2- تضييق الحيز التنفيذي الذي تملكه الدولة قدر الإمكان، وأنسنة النزعة العلمانية فيها (Humanizing Secularism) (وهذا ممكن، وقد يكون بداية لخلخلتها على المدى البعيد، والنموذج الهندي قريب إلى ذلك، فالدولة الهندية ليست نافذة على الأرض كمثيلاتها، والدولة كمؤسسة علمانية وإنسانية بشكل يضاهي غيره) 3- تحوّل الدولة لكيان تنسيقي لا تنفيذي (Coordination not Execution)، كما في عصور سابقة، وكما مع المجتمعات التي لم تستطع الدولة التغوّل فيها، وهذا قد يتم بالتوازي مع الحل الثاني وهو تضييق حيزها وأنسنتها (الديمقراطية التشاركية ربما قريبة لهذا، دور الدولة في مناطق كالصعيد مثلاً ليس تنفيذي بالكامل، فهي مجرد طرف يملك القوة مع القوى الشعبية كالقبائل، وبالتالي فهي تنسق مع المجتمع وليست نافذة فيه كما العاصمة) 4- ترك الدولة كما هي وإدراتها بشكل علماني (يبقى الحال على ما هو عليه، وعلى ما وصلت له الدولة من نفوذ وما احتفظ به المجتمع من حرية، فيستغل المجتمع حيزه بالكامل، وتؤنسن علمانية الدولة) (النموذج التركي شبيه بهذا، فهو يؤنسن العلمانية من جهة ويفعّل المجتمع في حيزه الذي لم تتغول فيه الدولة من جهة). 5 - سيطرة التيار الإسلامي، أو غيره من تيارات تمثل مرجعيات حضارية شرقية (كالهندوسية والكونفوشيوسية)، على الدولة الحديثة، وهذا سقوط لا مفر في قوالبها الضرورية لإدارتها، وبالتالي تحول تلقائي لمشروع أيديولوجي شامل (Ideological Totalitarianism)، أياً كانت رايته، وهذا النمط ليس فقط ينتصر للدولة على الإنسان، بل هو يدمر الفكرة الحضارية الإسلامية أو غيرها بقولبتها أيديولوجياً واختزالها في مؤسسة، ويكرّس نزعة الدولة اللاإنسانية (فالنماذج الإيرانية والسوفيتية والصينية والنازية والأتاتوركية تجليّ لتلك الشمولية الأيديولوجية). لا يوجد دولة علمانية ودولة إسلامية، ولكن دولة أيديولوجية ودولة إنسانية، فالحل يكمن في الأنسنة وليس الأسلمة، والله أعلم.