الاجتهاد السياسي هو اجتهاد مصدره الرئيس هو الواقع المعيش، وهدفه الأساس مواجهة مشكلاته ومعضلاتها. وكما هو معلوم، فإن الاجتهاد يكون في المسائل الخلافية، فلا اجتهاد مع النصوص القطعية، إلا إذا كان الأمر محاولة استجلاء معانيها وتوضيحها. وأقول هنا الاجتهاد السياسي، ولم أقل الاجتهاد الفقهي. فهناك اجتهاد في مسائل الفقه ونصوصه الظنيه التي قام حولها وبها أغلب المذاهب الفقهية، وأغلب اجتهادات المدارس الفقهية وطبقاتها حول تلك النصوص الجزئية. وهنا فإن اجتهادات العلماء الكبار في الفقه وقضايا العبادات والمعاملات تلزمنا نحن الموجودين في ذلك العصر، فمذهب الشافعي أو أبو حنيفة أو مالك أوغيرهم هي مذاهب معتبرة في قضايا الفقه ويمكنني تقليدهم كمعاصر اليوم في مسائل العبادات أو الأحوال الشخصية أو الجرائم والجنايات وغيرها. أما الاجتهاد السياسي الذي قدمه لنا علماؤنا القدامي في مسائل النظم السياسية والإدارة وقضاياها وأيضا عن سياسة الحروب وإدارتها فهي لا تلزمني كمجتهد في السياسة في هذا العصر، لماذا؟ لأن العصر اختلف تماما عن العصر الذي اجتهدوا هم له، فمثلا أغلب الكتابات السياسية القديمة تأتي بعنوان "الأحكام السلطانية والولايات الدينية"، وأشهر كتابين بهذا الاسم هما للماوردي الشافعي ولأبي يعلي الحنبلي، وكلاهما ينتمي للقرن الخامس الهجري. كما يدخل أيضا في هذا المعني كتب الاقتصاد السياسي لهذا العصر، والذي يعتبر كتاب الخراج لأبي يوسف هو عنوانها الرئيس والأبرز، فهو كتبه للخليفة العباسي هارون الرشيد، وهناك عدد من كتب الخراج كتبت بعده منها كتاب طالعته لابن رجب الحنبلي، وهما يتحدثان عن الخراج والعشور والجوالي. وهناك كتاب مثير للانتباه بعنوان "مختصر سياسة الحروب" لأحد قادة المأمون في الدولة العباسية اسمه الهرثمي. بالطبع هناك في قضايا النظم السياسية والإدارية وفي قضايا النظام الاقتصادي وترتيبه وإدارته وفي مسائل الحروب وتكتيكاتها، يبقي لمن سبقنا من علمائنا الأقدمين أهمية في أنه يجب علينا مطالعة هذا الكتب والتعرف عليها والتعمق في مسائلها وتقريبها للأجيال الحديثة للقول إن عالم الإسلام كان لديه حضارته ونموذجه ومؤسساته، وأن الأمور لم تكن تسير بلا خطة ولا سياسة. أما في مسائل الواقع المعاصر والاجتهاد السياسي أو الإداري أو العسكري بشأنها فإننا لا بد وأن نمزج بين القيم التي طرحتها علينا الاجتهادات القديمة وأن نضيف عليها علوم عصرنا في السياسة والإدارة والحرب والسلام والمعاهدات وغيرها. أهمية الإشارة إلي مفهوم الاجتهاد السياسي والإداري والعسكري أن الاجتهاد السياسي ينطلق من أرضية تعتمد علي قراءة الواقع، وأن الخلاف في هذه القراءة بين المجتهدين لا توجب أن يعقبها أية أحكام شرعية، كما هو الحال في المسائل الإيمانية والعقدية، أي لا نصدر أحكاما على المختلفين معنا في فهم الواقع عبر الاجتهاد السياسي. وهنا فإن من يرى أن التصويت لرئيس محدد يراه هو الأصلح في الفترة القادمة، هذا اجتهاده أو اجتهاد جماعته ولا يوجب ذلك أية إحكام من التبديع أو التفسيق أو التكفير أو غيرها، فهذه مسائل سياسية وهي خلافية بطبيعتها، ويتسع الخلاف فيها بين المجتهدين وغيرهم من الافراد العاديين. كما أن الاختلاف حول ترشيحات اللجنة التي ستعد الدستور هو من الاختلاف السياسي الذي لا يوجب تدابرا ولا تقاطعا ولا هجرا بين المختلفين، ويدخل في ذلك طبيعة النظام السياسي القادم، وهل هو رئاسي أم برلماني. إذن التمييز بين مناطات الاختلاف وقضاياه ومناهجه وحدوده ، يحمي مسيرة الأمة نحو إنجاز مشروع نهضتها. ----------------------------------- (عن صفحة الدكتور كمال حبيب بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ونشرت أيضا تزامنا بصحيفة الرحمة)