الوطن العربي هو دائرة الإنتماء الخارجي الأولى لمصر، ولا يتوقع لمصر بعد الثورة أن تستعيد مكانتها ودورها دون بناء علاقات وتحالفات عربية مستقرة ومصيرية؛ فمصر لا تستمد أهميتها من التواجد في ( فراغ) الشرق الأوسط، وإنما عبقرية مكانها وزمانها أنها قلب المنطقة الأهم والأغنى في العالم، وأن لديها من الثقل الحضاري التاريخي ما يجعل لها القدرة على التأثير في دول هذه المنطقة. قامت الثورة المصرية وأسقطت حكم مبارك، وسط موقف خليجي (باستثناء قطر) غير مرحب - بل ورافض - لأسباب كثيرة، منها ما يتعلق بالطابع القبلي العائلي الذي يميز نمط أنظمة الحكم في دول الخليج (العائلة المالكة)، ومنها ما يتعلق بقلق من صوت الشعوب المرتفع في وجه رؤسائها - على حدود تلك الممالك الهادئة - وصولاً لعزلهم ومحاكمتهم، وهو ما ترسخ مع الإحتجاجات في البحرين التي وضعت الخليج في مرمى الربيع العربي. يمكننا ملاحظة هذا التحفظ الرافض، دون جهد يذكر، مثلاً: زيارة وزير الخارجية الإماراتي للرئيس المخلوع مبارك في أيامه الأخيرة رغم وضوح الموقف الغربي وقتها وثبات الموقف الشعبي، والتأكيد على دعم المملكة له. عدم الحماس لزيارة رئيس الوزراء السابق (د. عصام شرف) أبريل الماضي، وارتباك جدولها، ثم إتمامها دون أن تشمل الإمارات كما كان مقرراً. من بين عشرة مليارات وعدت بها الدول العربية مصر كمساعدات لإنعاش الإقتصاد بعد الثورة، لم تتسلم مصر فعلياً سوى نصف مليار دولار من قطر. التعنت في معاملة المصريين بالإمارت، وهو ما نشره فهمي هويدي في عدد الشروق (الأحد 4 مارس 201) ونتج عنه إنهاء عقود 35 ألف مصري وعودتهم وأسرهم إلى مصر. الهجوم الغريب والمتكرر من شخصيات رسمية سعودية وإماراتية على جماعة الإخوان المسلمين، رغم حصول حزبها على الأغلبية، وهو ما يعكس عدم الحماسة للتواصل مع الجهة التي تتسلم السلطة في مصر. بالرغم مما سبق، لا أتردد في القول أن إقامة علاقات مع دول الخليج وإزالة دواعي القلق والرفض، يمثل للحكومة المقبلة أولية في سياستها الخارجية؛ فالاعتبارات السياسية والإقتصادية والإستراتيجية والحضارية الرسالية التي من المفترض أن تتبناها السياسة الخارجية لحكومة الحرية والعدالة لا تجد تعريفاً لمصر بمعزل عن جوارها العربي، ولا تقبل قطيعة مع دولة عربية أياً كانت، ولا يتصور أن تستغني مصر عن جوارها العربي بأي حلقة انتماء أخرى، حتى الإنتماء للعالم الإسلامي نفسه لا يمكنه تجاوز هذا الجوار. يطرح البعض (مثلث القوة) - القاهرة وأنقرة وطهران - بديلاً متجاوزاً وأكثر أهمية، ولا شك أن هذا المثلث بما يملك من مؤهلات على مستويات متنوعة يمثل تحولاً استراتيجياً في توازنات المنطقة والعالم دون مبالغة، ولكنه يبقى مثلثاً ( سطحياً) دون (عمق) في بعده الثالث إذا تجاوز الخليج العربي بشعوبه، وجغرافيته، ونفطه، وعقيدته !! إسرائيل وحدها من المقبول تبنيها سياسة ( ماوراء الجبال أو البحار ...الخ) باعتبارها نبتاً شيطانياً غير مرغوب فيه من شعوب الجوار ( لذا لجأت لعلاقات مع الهند مثلاً ودول وسط وجنوب إفريقيا)، أما مصر فهي قلب هذا الجسد العربي الواحد، وحقائق التاريخ والجغرافيا والحضارة أكبر من حسابات لحظة سياسية مؤقتة. يطرح هذا الملف نفسه على طاولة التحديات التي تواجه حكومة الحرية والعدالة، ومع علمي أن (مجموعات العمل) لديها تصورات ورؤى لتجاوز هذه التحديات، لكن لا يعني هذا أن القضية بسيطة، فالعلاقات ليست صيغاً جامدة (فعل ورد فعل أو سؤال وجواب)، بقدر ما هي عملية ديناميكة تفاعلية، لا يتوقف اجتيازها بنجاح على وجود تصورات مسبقة وخطط جاهزة بقدر ما تحتاج سرعة استجابة لمتغيرات، واتخاذ مواقف وإعادة توجيه مسارات دون تجاوز الخطوط الحمراء التي رسمتها رؤية إستراتيجية (رسالية مرة أخرى) ثابتة. أعتقد أنه من الضروري أن تحكم توجهات الحرية والعدالة في علاقاتها مع دول الخليج محددات هامة: تعريف العلاقة مع دول الخليج باعتبارها أولوية استراتيجية، لا يمكن تجاوزها بعلاقات مها بلغت أهميتها. الفصل بين مواقف خليجية سابقة تجاه جماعة الإخوان، ك ( تنظيم ) معارض و ( محظور )، وبين أولويات حكومة تتحمل مسؤلية مصر - وربما المنطقة- في لحظة فارقة. أن يمضي ملف الشراكة مع تركيا باعتباره مكملاً ومتمماً لمصالح الدول العربية، وليس بيدلاً عنها. عدم التسرع في علاقات مع إيران أثناء فترة عدم الثقة التي تهيمن على حكومات الخليج تجاه مصر الثورة، خاصة مع المواقف الإيراني اللأخلاقي من الثورة السورية، وأن تنمو هذه العلاقات بالتوازي مع مساعي مصرية تركية لحل الخلافات الإيرانية الخليجية.