أبجديات جيل جديد من الفكر الإداري الإستراتيجي طَرَفان أو أكثر.. قضية.. حوار.. توفيق.. تسوية.. صفقة.. لا غالب ولا مغلوب.. التسامح، هذه المفردات وغيرها، تُشكِّل عناصر أساسية في عملية التفاوض بشكل عامّ، والإداريّ منه بشكل خاصّ، فالتفاوض مهارة اجتماعية إدارية نفسية مُتقدِّمة، فائقة التأثير والنتائج، لا يستطيع المدير في المؤسَّسة العربية المعاصِرة، على اختلاف اختصاصاتها وتخصصاتها، أن يجتاز اختبار القيادة والإدارة دون أن يمتلك استراتيجياتها وتقنياتها، فالتفاوض هو الوسيلة الحضارية، الأصيلة لا البديلة، وهو القوة الناعمة، وقوة المنطق الأكثر قدرة على حلّ أصعب المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية، في عالم يتصف بالتداخل والتعارض إلى حدّ بعيد. فما هو التفاوض؟ ما هي استراتيجيات التفاوض؟ ما هي مواصفات عملية التفاوض الناجحة؟ ومَن هو الأقدر على التفاوض؟ وكيف يكون المدير مفاوِضاً ناجحاً؟ الوعْي بمفهوم التفاوض من بين عديد من التعريفات الخاصّة التي طرحها المستطلعون حول مفهوم التفاوض وفَهْمهم وممارستهم له، أجمَعوا على أن التفاوض: مهارة إدارية، بها تحسَم الخلافات أو الاختلافات أو التمايزات، أو تُعزَّز فُرَص التفاهم وتعميق التعاون، بالحوار بين طَرَفيْن أو أكثر، حول مسألة أو موضوع أو قضية تقع في دائرة مصالح الطَّرَفيْن، ولهما مصلحة مشتركة في التوافق عليها، ولا يمكن لطَرَف أن ينفرد بتصرفه فيها دون الآخَر. استراتيجيات التفاوض سلطان سيف الشامسي مدير إدارة العلاقات العامّة بالإنابة ببلدية العين، يميِّز التفاوض الإداريّ عن الاقتصاديّ أو السياسيّ أو الاجتماعيّ؛ لكون كل منها له خصوصيته، وإن اتفقت مناهج وأصول التفاوض وتقنياته بعمومه وإطلاقه، فلا يُعتبَر حصراً لاستراتيجيات التفاوض؛ فالإدارة عِلْم وفَنّ متطوِّر. ولا يتردَّد الشامسي في قوله: "إن مهارات التفاوض، إلى جانب مهارات إدارية أخرى، كانت هي الدافع المباشِر وراء توجُّه العلاقات العامّة ببلدية العين، نحو العمل الإداريّ الأكثر تخصصية، بوصفها نشاطاً إدارياً؛ لحاجتها الماسّة إلى فضائل التفاوض في إدارة علاقات البلدية المتعاظِمة مع سائر مجتمَع المنطقة الشرقية من إمارة أبو ظبي، وما قد ينشأ عن ذلك من اختلافات أو رغبة في تعزيز التعاون". الدكتور سعيد البنا، أستاذ مساعد الإدارة الاستراتيجية في كلية الاقتصاد والإدارة في جامعة الإمارات، يرى أن "الأمر الواقع" و"التسويف" و"المفاجأة"، هي أهم استراتيجيات التفاوض، ويقصد بالمفاجأة التحوُّل المفاجِئ في أسلوب الحديث وطريقته بلا مُبرِّر ظاهر؛ أملاً في تحقيق مكتسَبات التفاوض، بينما يُقصَد بالأمر الواقع أن تدفع الخَصْم للتسليم بالوضع القائم لموضوع التفاوض، بحسب تعقيب البنا. مروة محجوب عثمان، موظَّفة استقبال في كلية الخوارزميّ الدولية/ فرع العين، تَعتبِر أنّ "التدرُّج" و"المروَاغة" هي استراتيجيات تفاوض لا غِنى للمفاوِضين عنها. فالتدرُّج كما تراه عثمان "تناول الموضوع محل التفاوض جزئيةً جزئيةً، وخُطْوةً خُطْوةً؛ ليسهُل الوصول إلى حلول أشمل وأعمق"، غير أن أخطر آفات التفاوض -كما تحذِّر عثمان- أن يتحوَّل التفاوض إلى غاية، ويدخل ضمن عملية قد تؤول بالتفاوض إلى أن يصبح جزءاً من المشكلة لا الحلّ. إضافة إلى عدم رغبة أو جدّية أحد الأطراف باللجوء إلى التفاوض. سالم خلفان عبيد الظاهريّ، مساعد مدير إدارة العضوية في غرفة تجارة وصناعة أبو ظبي/ فرع العين يُضيف إلى استراتيجيات التفاوض: "ردّ الفعل السلبيّ" و"الكرّ والفرّ". ويُقصَد بردّ الفعل السلبيّ أن المبالغة في توصيف موضوع ما أو التركيز عليه، قد يؤدِّي إلى نتائج عكسية. ويؤكد الظاهريّ على أهمية إدارة الحوار والمناورة في التفاوض: متى تتكلَّم؟ متى تسكت؟ متى تُنصِت؟ متى تردّ؟ متى تهاجم؟ متى تسأل؟ كيف تسأل؟ متى تجيب؟.. فلا يكفي أن تكون صاحب قضية عادلة بل لا بُدّ أن تحسِن فَهْمها والدفاع عنها. مواصفات التفاوض الناجح أحمد عبد القادر، مدير شؤون الطلاب في كلية الخوارزميّ الدولية، يعتقد أن: "التفاوض خيار أصيل في رفع التعارض ودفع الخلاف في حسم الخلافات الإنسانية"، لذلك، فإن الشرط الأساسيّ لنجاح التفاوض، هو رغبة الأطراف في الوصول إلى حلّ، أو تسوية Settlement مع تقرير كلٍّ طرف سقفاً أعلى وأدنى لما يسعى لإدراكه في المفاوَضات، والابتعاد قدر الإمكان عن منطق "الصفقة" Deal إلى منطق "العلاقة" Relation. الزميلتان شمة سالم الدرمكي ومريم راشد الحساني، إداريتا العضوية في غرفة تجارة وصناعة أبو ظبي/ فرع العين، اللتان تَعتبِران أن التفاوض وسيلة حضارية راقية في العلاقات الإنسانية تنسجم مع روح الحكمة التي تَسود المجتمَعات الخليجية العربية، ولا يُعبِّر عن مصلحة في دَرْأ الصِّدام فقط، وإنما هو تعبير عن الرغبة في تعزيز عُرَى التعاون، أيضاً، اتفقتا على أن أهمّ شروط نجاح عملية التفاوض هو التسامح، وتفهّم حاجات الطَّرَف المقابل. إضافة إلى ذلك، تشدِّد الحساني والدرمكي على ضرورة تفويض فريق التفاوض الصلاحيات المناسبة، ومَنْحه القدرة على اتخاذ القرار المناسب في اللحظة الحاسمة، على اعتبار أن هذا الفريق يتمتع بثقة الإدارة، وتحذِّران المفاوِضين من التبرير والدفاع لمجرد التبرير. الدكتور البنا، يرى أن دراسة مواطن قوتك وتعظيمها، وتَلمُّس بواطن ضَعْف خَصْمك وتعميقها، ودراسة جوانب ضعفك وتهميشها، وتعرُّف نقاط قوة خَصْمك وتقزيمها، هو شرط أساسيّ لنجاح عملية التفاوض. ومن المهمّ -حسب البنا- الإجابة عن: ماذا نريد؟ وكيف يمكن تحقيق ما نريد؟ ومن ناحية ثانية، يرى البنا: أن الثقة في عملية التفاوض، بوصفها وسيلة قادرة على حلّ الخلافات عوضاً عن الصدام والمواجَهة، وإعطاء التفاوض الوقت الكافي والمناسِب لحجم القضية هو أحد المعايير والشروط الموضوعية لنجاح عملية التفاوض، فلنجاح التفاوض لا بُدّ من الإيمان به، والاقتناع بقدرته على علاج ما استحكم من خلافات، وقدرته على تعميق أواصر التعاون والالتقاء بين الفُرَقاء. أما سلطان الشامسي، فيشير إلى بعض مواصفات التفاوض الناجح، فيقول: إن تفكيك المشكلة موضوع التفاوض وتحليلها إلى عناصرها الأولية يتيح للمفاوِضين الاستبصار بكل حيثيات الموقِف، وتقديره بشكل مناسب، من غير تهوين ولا تهويل، وعليه، يحدِّد المفاوِضون كمّية المعلومات المطلوبة ونوعيتها، وكيفية استخدامها، ومتى يمكن استخدامها. سالم الظاهري، يَعتبِر "المحاكاة"، أسلوباً ضرورياً لنجاح عملية التفاوض، أيْ أن يقوم فريق التفاوض بمحاكاة لنموذج مفاوَضات مُتوقَّع للمفاوَضات التي سيجريها مع الخَصْم، إذْ سيكون من الفائدة العظمى إجراء هذه المحاكاة مع خَصْم مُفترَض أمام جمهور مُعيَّن، تحمل هذه المحاكاة الظروف نفسها المتوقَّعة لجلسة التفاوض، وإجراء الحوارات المناسبة، وتوقُّع مبادَرات الخَصْم ووضع ردود عليها، لغايات التدريب من ناحية، وللتعرف على إمكانيات وقدرات ومُؤهِّلات وكفاءة المفاوِضين. ومن مواصفات عملية التفاوض المثمرة، التركيز على المصالح لا المواقف، فأيّ عملية تفاوض لا تحددها مشاعرنا واتجاهاتنا نحو الطَّرَف الآخَر، فالغاية النهائية هي الأهمّ، وهي تحقيق المكتسَبات، والحفاظ على المصالح، بعيداً عن عواطف ومشاعر الحبّ والكره أو الفرح والحزن، أو أي مشاعر ونقيضها. ومن المهمّ لنجاح العملية التفاوضية، في أي مجال كانت، الاهتمام باختيار المكان المناسب والعناية بالإضاءة والتهوية والألوان المستخدَمة في مكان التفاوض وأثاثه، وترتيبه وتنظيمه؛ لكون ذلك من العوامل النفسية الواجب الاحتراز لها. المفاوِض الناجح وكما هو الحال في عملية التفاوض، فإنه كذلك مع المفاوِض أو فريق التفاوض، إذْ ليس من المعقول الفصل بين التفاوض والمفاوِض، فلا بُدّ من تحديد مواصفات ومُؤهِّلات فريق التفاوض، بشكل عامّ، ومواصفات ومُؤهِّلات المدير بوصفه مفاوِضاً، بشكل خاصّ. وفي تحديد مواصفات المفاوِض الناجح، يرى سلطان الشامسي أنه لا بُدّ أن يتمتع المدير المفاوِض بثقافة موسوعية إدارية، وبمهارات الاتصال، والحسّ الاجتماعيّ؛ فالمعرفة قوة، والإلمام بهذه الشروط يُساهم في الإحاطة الشاملة بموضوع التفاوض، والقدرة على التفاعل معه. الدكتور البنا، يشير إلى ضرورة تمتع فريق التفاوض بالذكاء العاطفيّ، فالذكاء العاطفيّ يزود المدير المفاوِض بالقدرة على التعامل الإيجابيّ مع نفسه والآخَرين، من خلال حُسْن تعامله مع عواطفه؛ فيحقِّق قدراً من الرضا لنفسه وللآخَرين، ويتكون الذكاء العاطفيّ من: الوعي بالذات، وضبط الذات، والتعاطف، والمهارة الاجتماعية. فالمفاوِض يجب ألا ينطلق من عدائية وانتقامية حتى لو كانت الخلافات مريرة، وهنا فإن للتسامح وللتفكير الإيجابيّ أهمية خاصّة في شخصية المدير المفاوِض. الزميلتان الدرمكي والحساني، تُضيفان: إحدى أهمّ مواصفات المدير المفاوِض، الشخصية القادرة على التأثير، واختراق السدود، وامتلاك تقنيات الإقناع؛ إذْ تلعب تقنيات الإقناع دوراً مهماً في حَسْم التفاوض، ولا بُدّ أن يكون مُلماً بمهارات الحوار، واستيعاب واحتواء الخُصُوم، وتفكيك الأزمات، وإبداع الحلول، والتفرُّد بالبدء والمبادرة. أما أحمد عبد القادر، فيرى أن المفاوِض لا بُدّ أن يكون قادراً على قراءة الإيماءات، والاستجابة للتلميحات، وعلى معرفة جيِّدة بلغة الجسد، سريع البديهة، وأن يتمتع بأدب الخلاف، وشرف الخصومة. مروة محجوب، ترى أن مبدأ اعرِف وافْهَم خَصْمك، وتفهَّم احتياجاته، ودوافعه، من القدرات التي يجب أن يتمتع بها فريق التفاوض، إضافة إلى ذلك، فإن قوة المنطق، يجب أن تكون حُجّة المفاوِضين، ولا بُدّ أن يكون المفاوِض فصيحاً بليغاً قادراً على التعبير عن نفسه، وتضيف عثمان: أهمّ ما يجب أن يتمتَّع به المفاوِض، هو التوصيف الدقيق لمحلّ التفاوض، إضافة إلى الوضوح والشفافية. من ناحيته، يَعتبِر الظاهري أن بُعد النظر، والقدرة على التنبؤ، والسيطرة على الأحداث، والقدرة على وضع السيناريوهات المحتمَلة والممكِنة للموقف موضِع التفاوض من مواصفات المدير المفاوِض. وفي هذا السياق، يمكن الاستعانة بالمنهج الجدليّ، الذي يمنح فريق التفاوض القدرة على توليد العديد من القضايا والردود المقابِلة والمناقِضة وربما المبطِلة لحُجَج خَصْمك، وإلى جانب ذلك، فلا بُدّ من التحلِّي بالصبر وطول النَّفَس لتحرِم خَصْمك من استهدافك باستراتيجياته. وفي هذا الإطار، أيضاً، فإن المدير المفاوِض يتعامل مع سيكولوجية التفاوض والمفاوِض الخَصْم، بذكاء ودهاء مناسبيْن، فكمْ مِن عملية تفاوض ميدانها السيكولوجية، وصراعها على سيكولوجية المفاوِض المقابل، وكم عملية تفاوض، حسمَتْ نتائجَها، نفسيةُ الخَصْم!. التفاوض.. أولاً اقتربنا من مهارة التفاوض، وتعرَّفنا على استراتيجياته، وشروط نجاح عملية التفاوض، ومعايير المدير المفاوِض أو فريق التفاوض، بوصفه الأقدر على إدارة المفاوَضات، والتفاوض ما هو إلا خيار ضمن خيارات أمام المؤسَّسة أو الأفراد أو الدول في التعامل مع قضاياها كافّة، فإلى جانب التفاوض أو بديلاً عنه، هناك الصِّدام أو التحكيم، مثلاً. وكل خيار من هذه الخيارات والبدائل له ثمنه وتكلفته. ومع ذلك، فإن التفاوض هو عنوان المستقبل في مجالات، وعلى مستويات شتى، بوصفه الخيار الأكثر ملاءَمة، في التعاطي مع إشكاليات وإرهاصات زمن مُتغيِّر ومُتسارِع، لا مكان فيه لمزيد من التعقيدات والصراعات الجانبية، التي تستنزِف الطاقات، وتُبدِّد الجهود. أكثر من ذلك، وفي سبيل تعميم ثقافة التفاوض ليس في المجال الإداريّ فحسب، وإنما في المجالات كافّة، ليس المهمّ، أن تكون مفاوِضاً جديراً، وإنما الأكثر أهمية هو: أن تعرِف مَن تفاوض، وأن تعرِف الوقت المناسب للتفاوض، وما هو الهدف المناسِب للتفاوض، والأسلوب المناسِب للتفاوض، فهذا هو الأهمّ، وهذه هي الجدارة.