في بيت صغير ذو متاع قليل؛ سكن في قلب الزوجة الصغيرة حب كبير, كانت هذه الزوجة سعيدة بحبيبها الفارس الشجاع النبيل, وكان حُسنها هدية لعينيه, وكان مَرحها وسرورها هدية لقلبه الكبير. طالما أحببت تلك القصة و تغنيت بها, وطالما تعجبت من هذا الحب الذي ملأ البيت رغم قلة ذات اليد, ورغم الفقر الذي اختاره صاحبه, وانشغل بدعوته. الذي نعرفه ونكاد نجعله من المسلمات هو المثل القائل: "إذا دخل الفقر من الباب.. هرب الحب من الشباك"، وهو مثل تناقضه قصص كثيرة مرت بنا وشهدناها, وقد يختلف مقياس الفقر في زماننا هذا عنه في زمان النبوة؛ وقد اختلف بينهما العرف والمجتمع والعادات والتقاليد وحتى الاحتياجات وما نسميها بالضرورات. أي فقر ما أعنيه وأقصده؟ بالطبع لن أقصد ذلك الفقر الذي رضي به صاحبه و استساغه.. ولن أعني الفقر الذي رافق قلة الحيلة؛ أو عدم الرغبة في السباحة ضد تياره.. ولست أعني الفقر الذي يفرضه البخل على أهل بيت صاحبه.. والذي أشير إليه وأريده هو الفقر العارض الذي كتبه الله على عبده المؤمن ابتلاء له, وقد يكون ناتجا عن مصيبة حلت في ماله فافتقر بعد غنى, وربما يكون ناتجا عن مصاريف استجدت دون ازدياد في موارده, وفي كلتا الحالتين نجد: - أن الزوج يعمل بجد ويبحث عن حلول لتلك المشكلة, أو أنه بالفعل غير قادر على العمل والجد فيه. - وأنه عزيز كريم يعز نفسه ويجنب عائلته الهوان ويعز عليه ما آل إليه الحال. - وأنه طيب ودود محب متفان. هنا تظهر البراعة وتزدان عند الزوجة المحبة أيضا.. تزوجت إحدى صديقاتي من مهندس يعمل في وظيفة حكومية, وكان راتبه من الوظيفة يكفي ليعيشا معا عيشة لا بأس بها، وقد اضطر للعمل في وظيفة مسائية لتأمين أجرة المنزل وسداد تكاليف الزواج, وبعد سنوات ضاقت بهم الحال مجددا عندما كبر الصغار وبدأت أبواب المصروفات تفغر فاها في وجوههم, وهنا بدأت صديقتي بعرض ما تصنعه علينا وكانت تعمل في الخياطة والحياكة وتتقن ما تصنعه وتتفنن فيه, وسارت بهم الحياة مع وجود أولاد يعرفون معنى التدبير ويأنفون من النظر إلى ما في أيدي غيرهم, وكنت أرقب القصة عن كثب من خلال زياراتي لمنزلها ومن خلال تدريسي لأولادها في المدرسة. وأخرى افتقر زوجها بعد غنى, وأفلس، بل غدا مدينا بملايين كثيرة بعد تعرضه لمصائب عدة، وكانت موظفة, ولم تفارقه ولم تتذمر بل عملت في منزلها وأنفقت جميع مالها وسُر هو بوجودها سندا له وانتعشت بها روحه وعمل بجد ووقف مجددا على قدميه وسدد جزءا لا يستهان به من ديونه حتى تاريخ كتابتي لهذه السطور. وفي كلتا الحالتين كان الحب والشفقة والرحمة هما المتحكمان في الأمر, وبهما استطاعت الأسرتان الصمود, والذي أعرفه عنهما أيضا أن كلا الرجلين كانا من أهل الكرم وكانا على علاقة طيبة بزوجتيهما منذ البداية, وهنا يكمن السر. فكيف يُدفع الفقر؟! .. وكيف تخف وطأته؟! يُدفع بالعمل والمثابرة كما أسلفت.. ويدفع بالانشغال بأهداف كبيرة.. ويدفع وبالرضا والعطف والإحسان.. في بيت النبوة وضع الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الحجرين وربطهما على بطنه جوعا, ولم يوقد في ذلك البيت نار لثلاثة شهور متتالية, ومات النبي - صلى الله عليه و سلم - ودرعه مرهونة, ولم يمت الحب أبدا, والسر هو الهدف الكبير الذي عاش من أجله أهل ذلك البيت, وهو الذي جعل من الفاقة أمرا لا يكاد يُذكر. وهو الذي يمكن أن يمنح أُسرنا الدفء عندما يحتويها برد الفقر وثلجه القارس.. إحدى معارفي عاشت عمرها مع زوج يعمل في وظيفة حكومية، وقد أنجبت أربعة أولاد وبنتا واحدة وقد رضيت بقدرها وانشغلت بأولادها ومنزلها وأثمر اهتمامها عن أربعة مهندسين وعن محبة عجيبة تربط بينهم, وعن همة صنعت لهم جميعا فسحة طيبة من رغد العيش عندما كبروا. وماذا بعد الفقر؟! سيكون بعد الصبر على العسر كل اليسر, وهو وعد من الله حق, لكن لنكن سعداء حتى في فترة العسر هذه, ولنحسن التوكل. في إحدى القصص التي وصلتني عبر البريد الالكتروني قام أحد الأساتذة الجامعيين بتقديم القهوة لتلامذته القدامى في أكواب مختلفة، وعندما أسرع الجميع نحو الفناجين الغالية والجميلة؛ أخبرهم بحكمته التي ينظر فيها إلى الحياة وكأنها القهوة, والأكواب هي المستوى المادي والاجتماعي فيها, وأن ما نريده جميعا هو القهوة, وهي متوفرة بأي كوب وبنفس الطعم, والقضية أننا ننظر إلى أكواب غيرنا وننسى أن طعم قهوتهم يشبه طعم قهوتنا, وقد لا نستسيغ قهوتنا بالفعل لظننا هذا. إذن.. هو الهدف والطموح بداية.. والعمل والجد والإصرار بعده.. والتوكل على الله والرضا بقدره ثالثا.. والإيمان بأن الدنيا هي طريق نقطعه لا مكان نسكن إليه ونرضى به.