القرآن المجيد كتاب الله المخرج من الفتن، المزيل للشبهات، المنير، المشرق، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا تزيغ به الأهواء، فيه خبر من قبلنا ونبأ من بعدنا وحكم ما بيننا، هُوَ الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ولو رددنا إليه أي أمر من أمورنا أو أي شأن من شئوننا لهدانا للتي هِيَ أقوم ولقاد خطانا إلى التي هِيَ أهدى وأسلم. ولا شك أنّ بعضنا يرجع إلى القرآن المجيد، ثمّ قد لا يجد فيه ضالَّته وقد يتوهم بأنّ القرآن المجيد ليس فيه مَا يبحث عنه ولم يتطرق أو يتعرض إلى مَا هُوَ معنيٌّ به، وليس ذلك صحيحا؛ لأنّ القرآن المجيد لا يقصر عن الإجابة عن سؤال سائل عرف كيف يقرؤه ويثوّره ويتحاور معه. ولذلك فقد رأيت أن أقدّم لنفسي وللقراء هذه التجربة في حواري مع القرآن، ومساءلته والبحث فيه!! مَا الَّذِي يراه القرآن في ثورة المظلومين على الظالمين من حكامهم إذا تسلَّطوا عليهم فضربوا أبشارهم، واستباحوا أموالهم، وقيدوا حريّاتهم، وأفسدوا حياتهم، واستبدوا بشؤنهم، يحاسبون مَن يخالفوهم ويفتكون بمن يعارضهم وينتهكون حريّة من يعاديهم، لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمّة، وهم في الوقت نفسه لم يطبقوا شريعة الله –تعالى- ولم يستنّوا بسنّة نبيه -صلى الله عليه وآله وسلّم- ولكنهم كما يرى بعضٌ أوجدوا حالة من السكون أو مَا يسميه البعض بالاستقرار، وحققوا بعض المكاسب في مجال بعض قشور مظاهر الحياة، وبعض مَا يطلق عليه مشروعات التنمية وما إليها، فهل تجوز الثورة عليهم والعمل على تغييرهم بقوة؟ وما قد يستتبع ذلك من إراقة دماء وتهديد استقرار وما إلى ذلك؟ مسلمتان للإصلاح والتغيير المسلمة الأولى وجوب أن يعلم كل إنسان أنّ الملك لله ابتداءً وصيرورة وانتهاءً وعاقبة، وأنّ الله جلّ شأنه هُوَ مالك الملك يؤتي الملك مَن يشاء وينزع الملك ممن يشاء، فإذا عُلِم هذا فذلك يعني أن ليس لأحد أن يبادر ربه، ويحاول أن يستحوذ على الملك فيأخذه لنفسه وينزعه من غيره أو يتصرّف في هذا المجال وكأنّه مجال حر لا تدخل لله -تعالى- فيه، لأنّ الملك ملكه أولاً وأخيرًا والبشر مستخلفون فيه!! ليس لهم الخروج عن شرائعه وما رسم لهم في ذلك كلّه. المسلّمة الثانية أنّ الله – تعالى– مَا خلق السموات والأرض إلا بالحق، وأنّ كل مَا جاوز الحق فمآله إلى السقوط وإلى الاندثار، وأنّ العاقبة للمتقين وأنّ الأرض لله يوريثها من يشاء من عباده، وأنّ حكمته قد اقتضت أنّ الأرض يرثها عباده الصالحون في نهاية المطاف. انطلاقًا من هاتين المسلمتين على الإنسان المسلم أن يبدأ بتأسيس «نظريّته في عمليّة الإصلاح والتغيير السياسيّ عند الانحراف». فيعلم أنّ لله –تعالى- في هذا الكون سننًا وقوانين لا تتبدل ولا تتغير، وهذه السنن والقوانين بناها الخالق العظيم بعلمه. وتلك السنن اقتضت مشروعين يتصارعان منذ خلق الله –تعالى– آدم ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، ولكن إبليس استكبر وعصى ورفض السجود لآدم، ثم سأل الله –جل شأنه– أن ينظره إلى يوم الدين. ثم أدخل آدم الجنة، وبمقتضى الوعد الإلهيّ لإبليس بالإنظار، أعطاه فرصة دخوله وراءهما فوسوس لهما بعد أن عرف أنّ الله –تعالى- قد أباح لهما الأكل من الجنة كلّها إلا هذه الشجرة، فظل يوسوس حتى استغل فرصة نسيان آدم عهد الله له، فأزلّ آدم وزوجه مستغلاً رغبتهما في الخلد وملك لا يبلى. بعد ذلك رحم الله –تعالى– آدم وذريته، فعلّم آدم كلمات تاب بها إلى الله –تعالى- وأناب وتذكّر عهده مع الله –جلّ شأنه- ثم اقتضت حكمة الله –تعالى- أن ينزل الجميع إلى الأرض؛ آدم وزوجه وعدوهما إبليس. وزيادة في لطفه جلّ شأنه اقتضت مشيئته أن يعزز بني آدم بالوحي وبالنبوات المتتابعة ليعينه أكثر على معرفة أحابيل الشيطان وطرائقه في الوسوسة ويجنبه أن يستغل منه غفلة مرة أخرى كما فعل مع أبويهم من قبل، فصار إبليس وحيدًا مذؤومًا مدحورًا يحمل حسده وحقده لآدم وبنيه ولا يملك إلا ذلك، وإن كان يحاول دائما أن يخيّل لبني آدم أنّه يملك شيئا من سلطان، وهو لا يملك شيئا من ذلك وسيعلنه على الملأ في يوم لا ينفع الندم فيه. فكرتان ومشروعان منذ ذلك الوقت، الأرض وما عليها ومَن عليها تسود فيها فكرتان ومشروعان، مشروع أسسه الرحمن – جلّ شأنه– يقوده أنبياؤه ورسله والصالحون من عباده لترسيخ توحيد الله –تعالى– وعمران للأرض، وتزكية للإنسان. ولا خير في فعل إنسانيّ إلاّ إذا دار حول هذه المقاصد والقيم العليا التي لا بد أن ينشغل الإنسان بها، فهي الحق وما بعد الحق إلا الضلال. والمشروع الشيطانيّ يقوده إبليس والشياطين؛ شياطين الأنس وشياطين الجن، وهو مشروع يعمل على استبدال الشرك بالتوحيد وتدنيس الإنسان، ودفعه نحو الفساد والإفساد، ودفعه إلى الاغترار بهذه الأرض وبالحياة الدنيا وإقناعه بأن مَا يفوته من الحياة الدنيا من ملذات فإنه يفوته إلى الأبد وأنه لا حياة أخرى. ويصوّر له مشروع الشيطان أنّه غير مطالب في هذه الحياة الدنيا بتزكية أو عمران أو توحيد؛ بل هُوَ مطالب أن يعبّ من الشهوات وأن يزجي أيامه وشهواته باللهو وباطل العمل. يقابل هذا الفريق فريق آخر استطاع التغلب على وساوس الشيطان، ولم ينخدع بشيء منها بقطع النظر عمّا إن كانت صدرت عن شياطين إنس أو شياطين جن، وهم الذين يشرون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله –تعالى– فباعوا أنفسهم له وجندوها لمشروع الرحمن، فكانوا حزب الله وأولياء الرحمن، لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادا، يحاربون الفساد ويرفضونه ويحاربون الشيطان، ويحولون دون انتصار مشروعه بكل مَا آتاهم الله من هداية ووسائل. السنن الإلهية اقتضت حكمة الله أن يضع سننًا وقواعد، فهناك «سنّة التدافع» التي تقوم على دفع الله الناس بعضهم ببعض، فيدفع مشروع الشيطان بمشروع الرحمن، ويهزم أعوان الشيطان بجهود وجهاد أولياء الرحمن. وستبقى الحال على مَا فصّل –عزّ وجل- وأقام ملكه عليه حتى تفنى الحياة الدنيا على انتصار شامل للمتقين وعاقبة للمؤمنين وتوريث الأرض للصالحين. وأولياء الرحمن هؤلاء من شأنهم أن يتجردوا من حظوظ نفوسهم لكي تكون نفوسهم ورغباتهم وهواهم وتطلعاتهم وأشواقهم كلها متجهة نحو الباري سبحانه وتعالى وانتصار مشروعه –جلّ شأنه- وهزيمة إبليس ودحره. الحكام المستبدون والأغنياء الباخلون والقارونيُّون الذين اتخذوا من قارون مثلاً حين فسد في الأرض، وظنّ أن كل مَا أعطاه الله –تعالى– من مال ليفنيه اعتبره مكسبًا جاءه من كده وجهده وعبقريّته، فيصيب هؤلاء الفراعين والقارونيّين وأمثالهم من الغرور والكبرياء والاعتداد بالنفس مَا ينسهيم الله –جلّ شأنه- ويجعلهم مع الشيطان دائما. وإذا قارن الشيطان إنسانًا وصادقه واستولى على عقله ولبه وقلبه فقد هلك. وهؤلاء الذين يبتلى الله بهم عباده من الذين إذا تولوا سعوا في الأرض ليفسدوا فيها وابتغوا العلو فيها وطغوا وبغوا واستبدوا وتعالوا على عباد الله، وألَّهوا أنفسهم وشياطينهم، ونسوا الله فاستدرجهم وأنساهم أنفسهم، هؤلاء لا يعني أنّهم قد خرجوا عن محيط السنن الإلهيّة ودوائرها المحيطة بكل شيء، ولكن تكون هناك سنن مسخّرة أدت إلى غفلة الناس وتجاوزهم أسباب التقوى، فحين يفعلون ذلك قد يتسلط الأشرار على الأخيار، والمشركون والكفار على المؤمنين الموحدين، وأهل التدسية على أهل التزكية ودعاة التخريب والاستكبار في الأرض وتجاهل حقوق الله فيها على أولئك الصالحين، فتحدث الفتنة؛ أي: الاختبار والابتلاء، ويفتن الناس وفق سنة أخرى هِيَ «سنة الفتنة»؛ يقول الله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة) (الأنفال: 25)؛ بل تعم كما في حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش -رضي الله تعالى عنها- قالت: (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث. سنة الفتنة تأتي مع «سنة الفتنة سنة التدافع»، فالقضاء على فتنة هؤلاء يقتضي أنَّه لا بدّ لأهل الحق من أن ينهضوا بواجباتهم ويقوموا بما عليهم، فإن لم يقم أهل الحق بما عليهم فقد يظهر الباطل ويسود، فإذا عجز المؤمنون بعد الصدق وبذل كل الجهود فإنّ لله جنودًا غيرهم. وقد يخضع أهل الباطل فسيخضعون لسنة الاستئصال والتدمير وتسليط شتى الابتلاءات عليهم، فالمقصرون ستمضي سنة الاستبدال فيهم. فمن اعتبر مقاومة من يسعون في الأرض فسادًا ويريدون علوًّا في الأرض، والذين يستذلون عباد الله ويصادرون حريّتهم ويمحقون إنسانيّتهم فتنةً فإنَّه يكون قد ابتعد عن الوعي بهذه الآيات وحُسن فهمها. لكنّ سنة التدافع هذه تقوم على وجود أقوام من المتقين يتحركون لا لمصلحتهم هم، بل لإرضاء الله لإحقاق الحق الَّذِي خلق الله به السموات والأرض، فهم يسيرون على خطى الأنبياء لا يريدون أن يخلفوا الظالمين ولا أن يسكنوا مساكنهم ولا أن يرثوا مَا تركوا من جنات وعيون؛ بل يريدون أن تعلو كلمة الله على كل كلمة، وأن يُنصَر الله ويُهزَم الشيطان لتكون كلمة الله هِيَ العليا وكلمة الشيطان وأعوانه هِيَ السفلى، ولا يهمهم أن يكون التمكين بعد ذلك لهم أو لغيرهم؛ لأنّ التمكين والحالة هكذا إنّما هُوَ تمكين لكلمة الله ولتوحيد الله جلّ شأنه وما أمر به الإنسان من التزكية، وما استخلفه من أجله ألا وهو إعمار الأرض بالحق والعدل والهدى وإعلاء كلمة الدين، دين الحق فلا تكون عمليّة الإصلاح عمليّة تغيير أشخاص بأشخاص، ولا طائفة بطائفة، بل تغيير على مستوى القيم والمفاهيم والأفكار والغايات والأهداف والمقاصد، ويكون المحور هُوَ إظهار دين الله الحق القائم على الهدى والتوحيد والتزكية والعمران والعدل والحريّة والمساواة بين البشر وإقامة شرع الله ورسالته، وهيمنة القرآن المجيد على شؤون الحياة وشجونها. ثمّ بعد ذلك يكون الحكم للأكفأ والأقدر على القيام بهذه الأمور وحُسن التمكين لها، فكأن المؤمن والحالة هذه يعد نفسه ويؤهلها تأهيلاً ربّانيًّا بحيث يكون من المتقين: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور). تكريس الهزائم هناك إرهاصات قد سبقت الأحداث فيما مضى من سنين وكثيرًا من المقدمات قد أثيرت فيما مضى، وهناك دراسات وتصريحات ووقائع تكاد تكون بمثابة الأحرف المتقاطعة التي تحتاج إلى جمع وتحليل وتفكير لتصبح كلمات وأمورًا مفهومة تساعد على فهم الواقع وتساعد المتدبّر على تنزيل أحكام القرآن عليه والميز بين المختلطات فيه وما أكثرها. نقطة أخرى هي تحديد «الفتنة» بأنَّها تحدث لدى الانحراف عن كتاب الله –تعالى- وتجنب الالتزام التام به، واستبداد الإنسان بشأنه. فقد يكون الإنسان على جانب من الإيمان كبير، ولكنه قد يلبس إيمانه بظلم أو يؤمن بالله ويشرك في الوقت نفسه، وتلك أمور كان الجهابذة من أهل الإيمان يبذلون جهودًا مضنية لميز هذه الأمور وعدم السقوط فيها، لذلك فإنَّ القرآن الكريم وحده المخرج من الفتن الهادي للتي هِيَ أقوم وهو حبل الله المتين الَّذِي ندعو أمّتنا إلى التشبث به والتمسك بأهدابه، وعدم الانسياق وراء اتخاذه شواهد ومعضدات لآراء ومواقف نبنيها بتصوراتنا القاصرة ورؤانا الكليلة. لعلّنا ونحن في هذا الأمر أن نحذر تحذير شديدًا من هؤلاء الذين لا يجدون مناسبات كهذه إلا ويلقون في روع الأمّة من المخاوف وعوامل القلق وما لا قِبل لها باحتماله من إرباك وقلق، فذلك يصرخ بهيستريا شديدة بأنّ اليهود قادمون، وثان يصرخ بأنّ مخططات الكفر وراء كل شيء وأنّ كل مَا يحدث في بلداننا وتقوم به شعوبنا إنّما هُوَ من وحي تلك المخططات ونتائج تلك المؤمرات. هؤلاء لا يقلّون خطرًا عن أعدى أعداء الأمّة في هذه الظروف، وأصواتهم بقطع النظر عن نواياهم مدمرة قد تقضي على مَا بقيى من طاقات الأمّة وتعمل على تكريس هزائمها النفسيّة وإشعارها بأن الأمريكان واليهود وأعداء الإسلام هم الذين يسيّرون الكون وليس الله – تبارك وتعالى– وهم الَّذِين يملكون التحكم فيه وليس الله، والله لا يتدخل في شيء. وهذا دليل على ضعف في الوعي وهزال في الإيمان وعدم إدراك لسنن القرآن الاجتماعيّة والكونيّة ولسنن الله في كونه وهم يرون أنّ القدرة كل القدرة هِيَ في الكافر المستعمر، وأمّا الله تبارك وتعالى ففي أنظار هؤلاء قد سلّم الكون لأمريكا ولإسرائيل وتنازل عنه لهم وعن حاكميّته وسلطانه لمكرهم. فليتق الله هؤلاء ويتوقفوا عن هذا الهراء الذي يملؤون الأسماع به ليل ونهار. لذلك رحبت بالثورات الشعبيّة؛ لأنّ الإسلام أمرني أن أرفض الاستبداد بكل أشكاله، ولأنّ القرآن علمني أنّ في الاستبداد محقًا لإنسانيّة الإنسان. فإذا تبينت المعالم وترجّح لدى قادة الأمّة وقادة الرأي فيها وأهل العلم والحكمة من أبنائها أنّه لا بدّ من الثورة ضد هذا المستبد أو ذاك، فآنذاك تتخذ الثورة صفة الجهاد وتجري أحكام القرآن في الجهاد، أو التخلي عنه على الأفراد وفقًا لما وصلت الأمّة إليه من موقف تجاه ذلك المستبد. أرجو الله تعالى من الجميع أن يتدبّروا القرآن ويتأملوا الوقائع والأحداث وما له علاقة بها من بداية وصيرورة ومآلات. والله تعالى أعلم.