تتوارد وتتوالى تأكيدات الإخوان آخرها (من قِبَل فضيلة المرشد) وبعض تصريحات مشايخ السلفيين الضمنية منذ زمن (ولا عجب إن حسم حزب النور موقفه ليصل لهذا قريبا) بخصوص عدم دعم مرشح إسلامي للرئاسة! والحقيقة هذه المواقف تثير الاستغراب أولا. وحين أسمعها تبالغ في رد فعل الغرب على هكذا مرشح أشعر بزكام شديد من رائحة قلة الوعي أوقلة الاستقامة، خصوصا أني منذ سنين أتواجد في الغرب ودوائره الأكاديمية والبحثية القريبة من دائرة اتخاذ القرار الاستراتيجي، فوقع الصدمة علي يكون أكبر من غيري بلاشك، فاعذروني. - منذ أعلن الدكتور عبد المنعم أبوالفتوج الترشح للرئاسة بعد استفتاء مارس 2011، كان لي موقف مبني على قراءة استراتيحية ترى أن مشكلة الثورة ليست في مرشح معين للرئاسة يأتي لينقذها من فوق جواده؛ لكن مشكلتها تنحية وصاية العسكر عبر نضال ثوري وسياسي. لهذا فمصر تحتاج لمشروع ثوري لا رئاسي– خصوصا أن نظام الوصاية سيحرص على جعل الرئيس القادم طرطورا: دستوريا (بالأخذ من صلاحياته)، وسياسيا (بتفاهم العسكر مع القوى السياسية على مرشح بعينه في أكبر تهديد للديمقراطية وفرص تنحية العسكر). كنت أرى كذلك أن مصر تحتاج لمشروع مقاصدي ثوري يتحرك مع بقية القوى الوطنية نحوالأهداف الوطنية الجامعة في الحرية والعدل الاجتماعي والاستقلال السياسي والاقتصادي، ويؤكد على الهوية الحضارية ومباديء الشريعة، لكنه يتيح للشريعة أن تكون استدعاء مجتمعيا لا تنزيلا سلطويا، ويميّز بين القراءة البشرية للشريعة وبين الجوانب القطعية بها، ويميز بين ما تدخل فيه الشريعة اختصاصا وماتحيله الشريعة لغيرها من دوائر التجربة والخبرة الإنسانية (دائرة الإمامة مقابل دائرة الافتاء والتشريع كما يعبر الأصوليون)، ويقلل من سلطة الدولة المركزية وتدخلها في الفضاء المجتمعي، ولايرى وضع أي قيد علمائي سلطوي على مؤسسات الدولة المدنية، ويفصل بين مساحات العمل الدعوي والخيري والحزبي. وكنت أرى في الدكتور أبو الفتوح—مثلا— أبرز شخصية تصلح رمزا لمثل هذا المشروع السياسي والشعبي مع آخرين. وهذا المشروع المقاصدي الثوري يختلف في المضمون والخطاب والتوجهات والاستراتيجيات عن الحملة الرئاسية. أقول هذا حتى لايفهم من كلامي أن نقدي لموقف الإخوان والسلفيين مرتكزا على دعم لأبي الفتوح أوحتى الشيخ حازم (الذي أويده ثائرا لا مرشحا) في الرئاسة. لكنني لو وجدت نفسي أمام استحقاق الرئاسة فإني سأعطي صوتي لأبي الفتوح بلا ريب، بصرف النظر عن الإنجاز الثوري الذي تحقق أوسيتحقق. بيد أن هذا شأن شخصي وموضوع آخر. ولكي نُفَصّل ماهية المشكلة تحديدا نقول: أولا - هناك مشكلة جوهرية هي تصدي قيادات الإخوان ومشايخ السلفية المستمر لقضايا التنافس الحزبي وتفصيلات الملفات السياسية السلطوية، التي لايمكن أن يُقبل في أي ديمقراطية تدخل جماعة دعوية (الإخوان بالطبع أبلغ كثيرا في هذا الملف من مشايخ السلفية). هذا خطر وخطل: سياسيا وإسلاميا، ويطعن في ديمقراطية العملية السياسية. وحبذا لو التزم الإخوان بما أعلنوه مسبقا بخصوص الفصل بين الجماعة والحزب. ولا أرى نمط إعطاء وعود والتزامات سياسية لاجتياز بعض الضغوط المرحلية (كما حدث في إعلان الإخوان لنسبة التنافس على مقاعد مجلس الشعب، والتي قفزت من 35 لأكثر من 75 بالمائة ثم التخلي عنها سريعا بعد انقضاء الضغط) أمرا مستقيما أخلاقيا وسياسيا. والأليق للجماعة الإخوانية ومشايخ الدعوة السلفية ألا ينشغلوا بهذا الملف الرئاسي من بابه فهو من اختصاص الحزبين. وفي سياق المناقشة السياسية لفرضية خوف الغرب والأمريكي والإسرائيلي من المرشح الإسلامي، فالقرار الغربي والإسرائيلي يكون مبنيا في طرفه الغالب على القراءة الاستراتيجية والواقعية السياسية. وما يشغله في منطقتنا ومصر تحديدا ملفان: أولهما الترتيب الاستراتيجي للمنطقة، بما يتضمن علاقة مصر مع الأمريكي والإسرائيلي، والخريطة السياسية العربية وبقاء المنافذ الجيواستراتيجية مستباحة أمريكيا، وثانيهما السياسات الاقتصادية العليا بخصوص البترول أوسياسات الاستثمار واستمرارية الخضوع لإملاءات مؤسسات النظام الاقتصادي الدولي. فلو أتى "مرشح إسلامي" لكنه متفاهم مع الغرب في هذين الملفين، ويقبل بأداة ضمانتها في مصر (الوصاية العسكرية)، فإنه يبقى مرحبا به حتى لو كان محافظا متشددا في سياساته الاجتماعية. بل كم شهد تاريخنا الحديث أن دفع هذا النمط الإسلامي سياسيا (لأنه الأقرب لمزاج الشارع والأقدر على صياغة شرعية دينية تعزز الوضعية السياسية) تكرر كثيرا بل كان في مرحلة ما هو الأصل، خصوصا في عقدي الخمسينات والستينات (نظرية "تعبئة الإسلام" mobilizing Islam) لوزير خارجية الولاياتالمتحدة جون فوستر دالاس، والتي حاولت تطبيقها لخدمة سياسة الأحلاف)، ودعم نظام السادات منذ النصف الثاني للسبعينات، والجهاد الأفغاني، والرعاية الأزلية للدولة السعودية منذ نشأتها، ومشروع الإسلام المعتدل أو المعدل بعد 2003، لاستبدال النظم المستبدة الفاسدة–عدا حكام الخليج طبعا– بأنظمة إسلامية تتصالح أو تتماهى مع المصالح الأمريكية، وكان في خاطر الأمريكي حينها النموذج الأردوغاني الذي كان صقور المحافظين الجدد مثل ديك تشيني وولفوينز دائمي الإشادة به. لهذا أستغرب حقيقة أن تتداول الأحزاب الإسلامية الإخوانية والسلفية موضوعة رفض المرشح الإسلامي من منطلق إخافة الغرب؛ إذ أنهم قد بذلوا جهودا جبارة بخصوص طمأنه الغربي (حتى أن الأمريكي يضغط على متخذ القرار الإسرائيلي منذ شهور في محاولة لطمأنتها تجاه الإخوان والسلفيين)! أما بخصوص سياسات العدل الاجتماعي والاستقلال الاقتصادي، فالحزبان الإسلاميان الكبيران بطبيعة سياستهما الاقتصادية—وبالدفع الذاتي—لا يمثلان خطرا في هذا الملف!! أما بخصوص قبول الوصاية العسكرية، فالغرب—والأمريكي خصوصا—مطمئن منذ أشهر لقبول هذه الأحزاب درجة معتبرة من الوصاية (نموذج هجين بين التركي والباكستاني). إذن، يحق لي ولمثلي الاستغراب، إذ أن وجه التخوف من اعتراض الغرب على المرشح الإسلامي (أوالنظام الإسلامي بشكل عام) قد تم تخفيفه كثيرا—أو بمعنى أدق ارتبط تخفيف القلق الغربي بتصور هذه الأحزاب وأدائها القاصرين في مسائل الاستقلال والعدل الاجتماعي والوصاية العسكرية، ولايعتمد على "إسلامية" المرشح—أي استعلانه بالشعار الإسلامي—من عدمه. (لاشك أن الإسلامية الحقة هي الانحياز التام للحرية والاستقلال والعدل الاجتماعي ورفض الوصاية بالطبع). أقول أن اختيار الأحزاب الإسلامية لمرشح إسلامي هو أمر يستقيم مع الأجندة السياسية المنطقية، وأنني حين أسمع حديث هذه الأحزاب عن عدم الدفع بمرشح إسلامي خوضا من الضغط الدولي والزلزال الإقليمي فإن قفصا من الفئران (يلعب في عبّي)..! الغرب وإسرائيل غير معنيين بهذه المساحة كأهداف وجودية أوحيوية، ربما يهتمون بها أحيانا كأهداف شكلية وتحسينية؛ لكن يتم التضحية بها سريعا إذا تهددت المصالح الحيوية. كإطلالة عامة على هذا المأزق، لا تبدو مشكلة الثورة الآن واقعة في المربع السياسي، بل في بناء حالة ثورية معززة بتوافق وطني (يأتي بالقبول الطوعي للضغط الشعبي والداخلي على القوى السياسية والبرلمانية) على: تنحية العسكر عن التدخل في الشأن السياسي، وتحريم أي توافق مع العسكر على مرشح رئاسي بعينه أوعلى وضعية خاصة ومجلس أمن قومي سيادي، وتحريم أي لقاءات خاصة أوتوافقية لأي فصيل مصري مع دولة أجنبية على شروط سياسية ووجهات اقتصادية بعينها. كانت هذه القوى تستعلن برفضها مثل هذه اللقاءات أيام مبارك (وهومعروف بتبعيته شبه التامة للأمريكي) إلا بحضور الخارجية المصرية، فماذا حدث مؤخرا؟ وهل الثورة المصرية تزيد من تجردنا الوطني والاستقامة السياسية أم توهنهما؟!! أما كيفية إدارة الحالة السياسية (المنتخبة والشعبية) بعد ذلك لملفات الاستقلال السياسي والاقتصادي والعدل الاجتماعي والصراع حولها مع الغرب وإسرائيل فتلك مسألة أخرى، فهناك مساحات واسعة وفرص استراتيجية أكثر اتساعا للجمع بين المبدئية والمرحلية. لكن لايمكن البدء في أي استراتيجية استقلالية دون تنحية العسكر أول الأمر.