يأتي التفكير في مشروع عربي للدراسات الأميركية نظراً لأهمية الدور العالمي للولايات المتحدة الأميركية في شؤون العالم وثقافته واقتصاده، وانفرادها بدور القوة الأعظم الوحيدة في العالم الآن بدون منازع أو منافس بارز في المدى الزمني القريب، وذلك منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء مرحلة الحرب الباردة، وهو وضعٌ لم تتمتع به إلا القليل من القوى الكبرى في التاريخ. وتأخذ هذه الأوضاع معنى أعمق باعتبار النخبة الأميركية لذاتها وإيمانها بأن لها دوراً تاريخياً مميزاً في التاريخ البشري وأنه لا غنى للعالم عن ذلك الدور (فكرة الشعب المختار). غير أن الأهم من كل ذلك هو الدور الواسع الذي تنفرد به الولاياتالمتحدة في شؤون وقضايا ومستقبل العالم العربي والإسلامي، خصوصاً قضية فلسطين (الولاياتالمتحدة هي الحليف الاستراتيجي الأول والداعم الرئيس للكيان الصهيوني)، وقضايا التوجه المستقبلي (الجيوستراتيجي) للعالم الإسلامي، ومستقبل الاقتصاد والثروة النفطية، ونظم الحكم والثقافة والتعليم. وقد بلغ التدخل الأميركي في العالم العربي والإسلامي ذروته في أعقاب أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001م، والتي تلاها إعلان القيادة الأميركية للحرب العالمية الرابعة (على الإرهاب) بدأت باحتلال أفغانستان ثم العراق ولا يدري أحد حدودها النهائية لأنها، وبتعبير مسؤولي الإدارة الأميركية قد تستغرق عقوداً من الزمان. وعلى الصعيد الداخلي، اتخذت الحرب شكل التدمير المخطط للمؤسسات والجاليات العربية والإسلامية ودعاوى وقضايا اتهام بالإرهاب لعدد ملموس من الشخصيات والمؤسسات الخيرية والثقافية وحملة ترويع وإرهاب ضد الأفراد والمساجد والمراكز الاجتماعية. وقد تجدد التدخل الأمبركي في الشؤون العربية بل تفاقم مع اندلاع موجة الثورات العربية في السنة الماضية، وما نجم عنها من سقوط عدد من عتاة الأنظمة العربية الحليفة لواشنطن، ودخول الإدارة الأميركية على خط إدارة هذه الثورات والتلاعب بقواها وبرامجها ومساراتها بعد سقوط رؤوس الأنظمة الفاسدة، وبدء المراحل الانتقالية لهذه الثورات باتجاه تحقيق التحول الديمقراطي. وفي مقابل ذلك الوضع، نجد حالة من الهزال على مستوى معرفة العرب والمسلمين بهذه القوة ذات الدور الأهم في شؤونهم ومصالحهم ومستقبلهم؛ فهناك القليل من الدراسات الجامعية حول التاريخ أو التجربة أو الحضارة أو الفلسفة الأميركية والغربية بشكل عام. والأمر ذاته صحيح فيما يتعلق بمراكز الأبحاث المتخصصة، وإن وجدت فهي كثيراً ما ترتبط في اهتماماتها بمصادر تمويلها وما يترتب على ذلك من محدودية البرامج والغايات ومشروعات البحث. بل نجد كثيراً مما ينشر حول الشؤون الأميركية في العالم العربي والإسلامي انتقائيا وسطحياً وعشوائياً، ولا يفيد في تقديم صورة متكاملة أو متوازنة حول هذه الظواهر الهامة، ولا يقدم تفسيراً وافياً لمختلف جوانب السلوك والسياسات والتوجهات الأميركية. من ناحية أخرى، يمثل النموذج الحضاري الأميركي بمختلف تعبيراته الثقافية والاجتماعية والفنية والأدبية والاقتصادية تحدياً هاماً للإنسانية كلها بحسبانها تواجه محاولة للهيمنة الثقافية على العالم تحت مسميات القرية العالمية واقتصاد السوق والعولمة، والتي تتجاوز الثقافات التاريخية للشعوب، وقد تهدد الشخصية الحضارية المتميزة لمختلف الأمم، وذلك باتجاه فرض أحادية أو مرجعية حضارية واحدة بعد فرض قطبية عالمية واحدة. في ضوء ذلك، يمكن فهم جوهر الحملة الأميركية عالمياً على الإسلام بمختلف تعبيراته الثقافية والحضارية والاجتماعية والفكرية والسعي لطمسها جميعاً باستثناء الصورة العنفية (الإرهابية) لمنفذي هجمات أيلول (سبتمبر) 2001. ذلك أن الإسلام هو المرشح الأوفر حظاً في تحدي الهيمنة الحضارية والسياسية، والأكثر قدرة دون غيره (كرسالة ودعوة وأمة) على رفض الأشكال الاستغلالية واللاإنسانية بسبب توجهه الأصيل نحو العدل والانعتاق من الظلم والطاغوت والتحرر المستند إلى الوحي والدينونة المطلقة لله سبحانه وتعالى. كان العالم العربي والإسلامي ولا يزال، بكافة أقطاره ومكوناته وأطيافه وثقافاته وشعوبه، موضع رصد ومتابعة كثيفة من قِبل القوى الامبريالية العالمية (وخصوصاً الأنكلوسكسونية منها)، والتي انحدرت من تقاليد الاستشراق الاستعماري، مروراً بخبراء دراسات المناطق (في مرحلة الاستقلال والكولونيالية الجديدة)، إلى برامج تدريب القوات الأميركية الخاصّة على لغات وثقافات مناطق الاحتلال الجديدة، وأخيراً إعلانات وكالة المخابرات المركزية الأميركية الهادفة لتجنيد عملاء من العرب. وبالطبع، فقد أخفقت هذه الجهود دائماً في إنجاز فهم وتمثّل للثقافة العربية أوالحضارة الإسلامية أو تاريخ العالم العربي والإسلامي، كما عجزت عن تجاوز تحيزاتها المعرفية وتوجهاتها العنصرية في التعامل مع ''الآخر‘‘ العربي الإسلامي. وذلك يعود إلى خلل جوهري في الرؤية المعرفية (الامبريالية)، والتي تتسم بالماديّة والاختزال، ومعاداة التاريخ، والتمحور حول الذات، ومفارقة المطلق المقدّس، ونزع التكريم الإلهي عن الإنسان والتعامل معه بلا حرمة ولا قداسة. من أجل ذلك، لا بد من رصد واع ودراسة معمّقة وتحليل منهجي لهذه الظواهر المؤثّرة والهامة بالنسبة لمستقبل وحرية وكرامة الإنسان ومسار الحضارة الإنسانية ونهوض الأمة وقيامها بحق الرسالة الإلهية الخاتمة. فلا بد إذن أن تنطلق مثل هذه الدراسات من رؤية كونيّة تستهدي بحاكمية الكتاب وعالمية الخطاب والذي أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلّم وحياً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتستخلص من تاريخ الشعوب وتجارب الأمم سنن الخالق سبحانه وتعالى في خلقه، وترى في الإنسان خليفة الله الذي اصطفاه وكرّمه وعلّمه الأسماء كلها وسخّر له الكون كله وتجد في النبوة مصدر الحكمة والحق في التاريخ الإنساني، وتزن بميزان واحد في كل القضايا والأوضاع، وترى في العدل أعلى قيم الاجتماع الإنساني وفي الإحسان دستور العلاقات الإنسانية، وتؤمن بالمعاد ودوره الأساسي في تشكيل مسيرة الإنسان، وتقوّم الظواهر والتجارب الإنسانية بأوسع درجة من الشمول والدقة.