لماذا تعيد نخب قيادية فلسطينية متعاقبة – من المفترض أن تقود حركة تحرير الأرض واستعادة الوطن السليب- نفس التجارب والمسارات والأخطاء وربما الخطايا؟ هل من الضروري أن تبدأ حركة التحرير أو المقاومة بميثاق قومي أو وطني أو إسلامي ينص على تفكيك أو تدمير الكيان الصهيوني واسترداد الأرض كاملة أو اعتبارها وقفاً إسلامياً لا يجوز التفريط في شبر منها، ثم يبدأ التفكيك والسيولة والتنازلات المجانية؟ ولماذا لا تصبر تلك الحركات على تبعات ومقتضيات النضال التاريخي وهو بطبيعته مسار طويل الأمد لا بديل عنها لتحقيق الغاية، استعجالاً لقطف ثمار النضال والوصول إلى السلطة؟ وهل من المحتم أن يقع قادة حركات التحرر والمقاومة في شرك إسترضاء المنظومة الغربية الرامية إلى تصفية القضية وثوابتها بدعوى كسر العزلة الدولية؟ وهل كُتب على الشعب الفلسطيني كل ربع قرن أن يستبدل بالقيادات الناكثة لعهودها الناكصة عن مبادئها السابقة قيادات جديدة تبدأ بداية صائبة ثم لا تلبث أن تأخذ طريقها نحو النكوص أيضاً؟ نقول هذا ونحن نتذكر المسار الذي سلكته قيادة منظمة التحرير منذ 1974، عندما تخلت عن برنامج المنظمة الاستراتيجي الداعي إلى تحرير الوطن من النهر إلى البحر وإقامة كيان ديمقراطي غير عنصري، لصالح البرنامج المرحلي الداعي إلى إقامة سلطة فلسطينية على أي جزء من الوطن الفلسطيني، بما يعنيه ذلك من اعتراف بشرعية الكيان الاستيطاني الصهيوني العنصري الغاصب وإنقاذه من المآل التاريخي الذي ينتظر كافة الكيانات الاستيطانية التي عجزت عن تدمير الشعوب الأصلية المناضلة. في محاضرة عامة ألقتها منذ عقد الداعية لحل الدولة الواحدة، المحامية الإسرائيلية أليغرا باتشيكو، في مدينة بوسطن الأميركية، ذكرت السيدة باتشيكو أن 70 إلى 80 بالمائة من الأراضي التي هُجّر منها الفلسطينيون في 1948 لا تزال خالية فيما عدا بعض مشروعات زراعية للكيبوتسات، وأن عودة اللاجئين إلى أرضهم فكرة عملية وممكنة. وعندما سألها أحد الحضور: لماذا تصر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على حل الدولتين إذن؟ أجابت المحاضرة: لأن إسرائيل والولاياتالمتحدة والغرب يريدون ذلك! تدرج مسلسل التنازلات من برنامج النقاط العشر إلى البيان الأميركي السوفياتي المشترك (1977)، إلى مبادرة قمة فاس في أعقاب الخروج من لبنان (1982)، إلى إعلان الاستقلال (1988) بناء على قرار التقسيم رقم 181 الذي أقرته الأممالمتحدة في 1947، إلى قراري مجلس الأمن الدولي 242 و338، إلى مؤتمر مدريد (1991) المستند للقرار 242، ثم اتفاقيات أوسلو التي كان عنوانها الكبير "غزة-أريحا". كرت المسبحة، وبقية المحطات التي مر بها قطار التنازلات أقرب من أن تنسى. وأخيراً وليس آخراً جاء مؤتمر "أنابوليس" الذي أصبح مرجعية تفاوضية جديدة، من طرف واحد، مما فاقم الحالة الرثة التي وصلتها القضية وقيادة سلطتها "الوطنية". بعد إعلان الاستقلال في 1988، سافر الرئيس عرفات، رحمه الله، إلى فرنسا، التماساً لتأييد الفرنسيين والأوروبيين لإعلان الاستقلال بالطبع، ولم يتوان مستشارو السوء عن تلقينه رحمه الله كلمة "caduc" بالفرنسية، التي تعني "باطل" أو "متساقط" أو "قديم" أو "مهمل" ليصف الميثاق الوطني الفلسطيني عندما يُسأل عنه في باريس، وقد فعل، للأسف! لم يقف الانحدار عند حد، بل اكتسب حراكاً وزخماً، وتنافس أو تدافع القياديون الفلسطينيون لتقديم أوراق اعتمادهم. فأحدهم رحمه الله بعث بشريط فيديو يطمئن الإسرائيليين بأن معظم اللاجئين لن يعودوا طواعية إلى بيوتهم وأرضهم، وآخر يسافر إلى الولاياتالمتحدة ليلتقي قيادات صهيونية أميركية ويؤكد لهم أنه مفوّض بالقول أن القيادة الفلسطينية تقبل بجزء من أرض فلسطين وتتعايش مع وجود إسرائيل. وكرت المسبحة أكثر. بعد قيام سلطة أوسلو، لم يقف الأمر عند ذلك الحد، بل تبرعت القيادة الفلسطينية بإسقاط مواد وبنود الميثاق الوطني الفلسطيني بالجملة في احتفال هو مثال للخزي، امتثالاً واحتفالاً وإكراماً لزيارة الرئيس الأميركي بيل كلنتن وأسرته إلى غزة، ووافق معظم أعضاء المؤتمر الوطني الفلسطيني، رافعين أيديهم بحماسة نادرة ليصوتوا ضد شرف الأمة وتاريخها وحقوقها ومقدساتها وكرامتها وأنبيائها وأبطالها وشهدائها ومعنى وجودها، وضد شعبهم وأهلهم وهويتهم وذكرياتهم وتراب أمواتهم ومستقبل أطفالهم، وضد كل معنى للعدل والحق في تاريخ الإنسانية. وبتعبير القديس برنابا، "أقول كل هذا الذي أقول لأجل" قيادي فلسطيني محترم أحسبه مخلصاً، تحدث بالأمس إلى وسيلة إعلامية أميركية، بحيث جعلني "لا أذكره الآن إلا مع الأسى". بدا هذا الحديث نذيراً مرعباً وتكراراً لكل الكوابيس والمنحدرات والرمال المتحركة التي ذكرتها آنفاً، ابتداء من اقتراح هدنة طويلة "عشرية" مع الاحتلال، ستمكنه من ابتلاع مريح وهادئ للأرض داخل جدار الفصل العنصري وخارجه بحيث يغطي وجه المستوطنات البشع وجه أرضنا الحزين، إلى القبول المبدئي بحل دولة فلسطينية في الضفة وغزة، أي ما يسمى بكلمات أخرى "حل الدولتين" الذي يعني اعترافاً ضمنياً لازماً بالدولة الصهيونية وحقها في الوجود، وإنقاذاً لمشروعها الاستيطاني من مصير غيره من المشروعات الاستيطانية. عندها يصبح الاعتراف الصريح غير ذي شأن. وتصبح صدقية المطالبة بالقدس الشرقية وعودة اللاجئين (على لسان هذا القائد المحترم)، ضمن حل الدولتين، لا تختلف عن صدقيتها على لسان مفاوضي السلطة الفلسطينية الذين يذهبون ويجيئون (بتعبير الشاعر تي. أس. إليوت) يتحدثون في التفاوض، بواسطة بطاقات "ڤي آي پي" (VIP)، التي يصدرها لهم الحاكم العسكري الإسرائيلي. وهنا لا يجدي أيضاً الحديث عن عبثية الاعتراف التي ظهرت نتائجها في تجربتي الرئيسين ياسر عرفات ومحمود عباس، لأن الاستعداد للقبول بحل الدولتين لا يقل عبثية، سواء قَبِله الرئيسان (الراحل والراهن) أو قبله هذا القيادي المحترم المتطلع إلى دور أعظم. وكذلك الأمر عندما يتعلق بمحاولة فك العزلة الدولية، كما مارسها الراحل عرفات أو كما يحاول ممارستها هذا القائد المحترم. فهي تنطوي على قدر من "التشاطر" أو "التذاكي"، لأنها تنطوي أيضاً على عدم الوعي بمركزية المحتوى الإمبريالي في البنية والتجربة الغربية، حيث لا وجود ولا معنى للمنظومة الغربية خارج الفكرة والممارسة الإمبريالية منذ انطلاق الرجل الأبيض قبل بضعة قرون، لغزو العالم واختراقه ونهبه واستتباعه. بل إن التوازن الاستراتيجي القائم لا يتيح الفرصة للتشاطر إزاء منظومة الهيمنة الغربية التي يمثل المشروع الصهيوني أحد ركائزها وأصولها الثابتة، وليس للمناضلين إلا استمرار النضال. بل إن التعجل في الحصول على الاعتراف الدولي لا يعني إلا استعجالاً لحصاد مكاسب سياسية داخلية تصب لصالح الفصيل لا لصالح القضية بالضرورة. لكن ما أفزعني أكثر قوله أن ميثاق حركته المقاومة، الذي "يدعو إلى محو دولة إسرائيل عبر الجهاد"، يعود تاريخه إلى عشرين عاماً، وأن التجارب هي التي تحدد سياستنا... وهنا أتساءل: هل أصبح هذا الميثاق بدوره كادوكاً أيضاً "caduc"؟ منذ 170 عاماً تقريباً، عادت ملكية آل البوربون الفرنسية إلى حكم فرنسا، في عهد لويس الثامن عشر، وعاد آل البوربون إلى سابق عهدهم وعملهم الذي أفضى إلى الثورة الفرنسية. عندها قال الناس: ذهب آل البوربون وعاد آل البوربون ... لم يتعلموا شيئاً ولم ينسوا شيئاً!