أسعار العملات العربية والأجنبية أمام الجنيه المصري اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الكبير.. سعر الذهب يقفز 640 للجنيه اليوم الثلاثاء بالصاغة    استعدادًا للتشغيل.. محافظ مطروح يتابع تأهيل سوق الخضر والفاكهة بمدخل المدينة    وزير الخارجية: نتوقع من المنتدى المصري الخليجي الاتفاق على صفقات كبرى لضخ استثمارات في مصر    سوريا توقع على إعلان تعاون مع التحالف الدولي لمواجهة "داعش"    الكنيست يصدّق بالقراءة الأولى على مشروع قانون لإعدام أسرى فلسطينيين    نفسنة أم نصيحة، روني يشن هجوما جديدا على محمد صلاح    «في مبالغة».. عضو مجلس الأهلي يرد على انتقاد زيزو بسبب تصرفه مع هشام نصر    انهيار جزئي من عقار قديم بالمنيا دون خسائر بشرية    أمطار على هذه المناطق.. بيان مهم من الأرصاد يكشف حالة الطقس خلال الساعات المقبلة    وزارة الداخلية تكشف ملابسات واقعة السير عكس الاتجاه بالجيزة    انهيار جزئي لعقار قديم قرب ميدان بالاس بالمنيا دون إصابات    التعليم تعلن خطوات تسجيل الاستمارة الإلكترونية لدخول امتحانات الشهادة الإعدادية    بعد طلاقها من كريم محمود عبد العزيز.. رضوى الشربيني داعمةً آن الرفاعي: «المحترمة بنت الأصول»    وداعا إسماعيل الليثى.. كاريكاتير اليوم السابع يرثى المطرب الشعبى ونجله ضاضا    مع دخول فصل الشتاء.. 6 نصائح لتجهيز الأطفال لارتداء الملابس الثقيلة    من البابونج للسلمون.. 7 أطعمة تساعد على تقليل الأرق وتحسين جودة النوم    بعد إثارتها في مسلسل كارثة طبيعية، استشاري يكشف مدى حدوث الحمل بسبعة توائم    استغاثة أم مسنّة بكفر الشيخ تُحرّك الداخلية والمحافظة: «رعاية وحماية حتى آخر العمر»    وزير الخارجية ل«القاهرة الإخبارية»: مصر لن تسمح بتقسيم السودان تحت أي ظرف من الظروف    التخضم يعود للصعود وسط إنفاق بذخي..تواصل الفشل الاقتصادي للسيسي و ديوان متفاقمة    محدش يزايد علينا.. تعليق نشأت الديهى بشأن شاب يقرأ القرآن داخل المتحف الكبير    نجوم الفن يتألقون على "الريد كاربت" في العرض الخاص لفيلم السلم والثعبان 2    النائب العام يستقبل وزير العدل بمناسبة بدء العام القضائي الجديد| صور    نيسان قاشقاي.. تحتل قمة سيارات الكروس أوفر لعام 2025    بسبب خلافات الجيرة.. حبس عاطل لإطلاقه أعيرة نارية وترويع المواطنين بشبرا الخيمة    مشهد إنساني.. الداخلية تُخصص مأمورية لمساعدة مُسن على الإدلاء بصوته في الانتخابات| صور    زينب شبل: تنظيم دقيق وتسهيلات في انتخابات مجلس النواب 2025    ترامب: سوريا جزء مهم من الشرق الأوسط وأنا على وفاق مع الشرع    المغرب والسنغال يبحثان تعزيز العلاقات الثنائية والتحضير لاجتماع اللجنة العليا المشتركة بينهما    قوات الاحتلال الإسرائيلي تصيب فلسطينيًا بالرصاص وتعتقله جنوب الخليل    مفوضية الانتخابات بالعراق: أكثر من 20 مليون ناخب سيشارك في الاقتراع العام    سعر الفول والدقيق والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    صلاة جماعية في البرازيل مع انطلاق قمة المناخ "COP30".. صور    مروان عطية: جميع اللاعبين يستحقون معي جائزة «الأفضل»    بي بي سي: أخبار مطمئنة عن إصابة سيسكو    اللعنة مستمرة.. إصابة لافيا ومدة غيابه عن تشيلسي    تجنب المشتريات الإلكترونية.. حظ برج القوس اليوم 11 نوفمبر    المعهد الفرنسي يعلن تفاصيل الدورة الخامسة من مهرجان "بوبينات سكندرية" السينمائي    اليوم السابع يكرم صناع فيلم السادة الأفاضل.. صور    لماذا تكثر الإصابات مع تغيير المدرب؟    تقارير: ليفاندوفسكي ينوي الاعتزال في برشلونة    إصابة الشهري في معسكر منتخب السعودية    خطوة أساسية لسلامة الطعام وصحتك.. خطوات تنظيف الجمبري بطريقة صحيحة    ياسمين الخطيب تعلن انطلاق برنامجها الجديد ديسمبر المقبل    نقل جثمان المطرب الراحل إسماعيل الليثي من مستشفى ملوي بالمنيا لمسقط رأسه بإمبابة    أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    رجال الشرطة يجسدون المواقف الإنسانية فى انتخابات مجلس النواب 2025 بالإسكندرية    أوكرانيا تحقق في فضيحة جديدة في شركة الطاقة النووية الوطنية    لماذا يجب منع الأطفال من شرب الشاي؟    هل يظل مؤخر الصداق حقًا للمرأة بعد سنوات طويلة؟.. أمينة الفتوى تجيب    دعاء مؤثر من أسامة قابيل لإسماعيل الليثي وابنه من جوار قبر النبي    نماذج ملهمة.. قصص نجاح تثري فعاليات الدائرة المستديرة للمشروع الوطني للقراءة    انطلاق اختبارات مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن بكفر الشيخ    ما حكم المشاركة في الانتخابات؟.. أمين الفتوى يجيب    بعد 3 ساعات.. أهالي الشلاتين أمام اللجان للإدلاء بأصواتهم    هبة عصام من الوادي الجديد: تجهيز كل لجان الاقتراع بالخدمات اللوجستية لضمان بيئة منظمة للناخبين    د.حماد عبدالله يكتب: " الأصدقاء " نعمة الله !!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المرجعيَّة في العالم السُّني بين الأزمة والحل
نشر في التغيير يوم 13 - 12 - 2011

في مقالنا هذا سنحاول أن نستطلع «المرجعيَّة» التي يمكن أن تحسم الخلاف في العالم السُّني. ويُراد بالخلافِ هنا الخلافُ في سائر الشؤون؛ سواء كانت دينيَّة أو دنيويَّة، وإن كان الأصل والأغلب في إطلاقه هو الجانب الدينيّ.
مفهوم «المرجعيّة»:
«المرجعيَّة» مصدرٌ صناعيٌّ من الرُّجوع، ومفهومها متعدّد المعاني والجذور. ولا شك أنَّ إطار «المرجعيَّة» النَّظري للمسلم هو كتاب الله ومنهج رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- وسُنّته في تفعيل آيات الكتاب واتّباعها وتأويلها. أمَّا في الإطار العمليّ فإنّ المرجع هو مَنْ يُرجَع إليه عند الاشتباه أو الاختلاف ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه؛ ولذلك قال سبحانه: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام:60)، وقال جلّ شأنه: ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (النساء:83).
المرجعيّة بين السنّة والشيعة:
إنّ أكثر استعمال لل«مرجعيّة» هو في الوسط الشيعيّ؛ للإشارة إلى «مراجع التقليد» لدى الشيعة، فإذا قيل: "فلان من المراجع"؛ أي: هو واحدٌ من «مراجع التقليد» الذين يقلّدهم عامّة الشيعة ويرجعون إلى فتاواهم في سائر ما يهمّهم، ويدفعون إليهم الحقوق؛ من خمسٍ وزكاة وتبرعات؛ لأنَّ الإمام في الإطار الفقهيّ الإماميّ هو المالك الحقيقيّ للمال العام، وهو المسؤول عنه، فهو أولى من الدول والحكومات بالتصرف في كل ما يتعلق بالأموال، ويُعد دفع الحقوق له مصدر خير وبركة وحِلٍّ لذلك المال الذي لا يحلّله إلا إذن الإمام فيه ومباركته لصاحبه. أمّا «العالِم السُّني» فهو لا يتمتع بهذا النوع من المرجعيَّة كما هي في الوسط الشيعي، فالعالِم -سواء أكان مفتيًا أو مدرسًا شيخ مدرسة أو إمامًا أو خطيبًا- لا يملك أيّ شيء من هذه الامتيازات. من هنا ارتبط العالِم السُّني بالدولة والحكومة، وصار واحدًا من موظّفيها كبر أو صغر، يعتمد عليها في كسب قوته وقوت عياله، في حين ارتبط العالِم الشيعيّ بسواد الناس!
والشيعيّ -بحكم «ثقافة المعارضة»- يعدُّ إمامه المرجع في كل شيء، وحين يُطلب منه في إطار الدولة شيءٌ لا بد أن يقترن بموافقة الإمام أو فتواه أو رضاه وإلا فليس من حقه أن يفعل ذلك. أمّا السُّني -وقد رأى أنَّمرجعيَّة العالِم نفسه هي الدولة متمثلةً في الحاكم سلطانًا أو خليفةً أو أميرًا أو ملكًا أو إمامًا- قد اعتبر الدولة هي مرجعيّته. وشاع في الوسط السُّني في ظروف تاريخيَّة سابقة أنّ: "الحاكم أبٌ"، وربما أطلق عليه بعضٌ "ربٌّ" بمعنى مُرَبٍّ، وصار خطباء الجمعة حين يدعون يُطلقون ألقابًا ليست من الشريعة من قريب أو بعيد؛ مثل «ظل الله في الأرض» أو «خاقان الثقلين» أو ما أشبه ذلك من ألقاب لم يؤخذ رأي الشرع فيها ولا دليل يُعضدها.
أسئلة لا بد منها:
منذ فترة طويلة والنداءات تتعالى -خاصة في الوسط السُّنّي- حول عدم وجود «مرجعيَّة» للعالم السُنِّي كما هو الحال بالنسبة للعالم الشيعيّ، ففي إيران يمكن لمرشد الثَّورة وبعض كبار العلماء الذين يُطلق عليهم «مراجع التقليد» أن يعالجوا الخلافات، ويبدوا آراءهم في المشكلات الكبرى، ويتَّبعهم الإيرانيُّون الشِّيعة، ويتبنّون ما يقولون ويلتزمون به، فترتفع حالات الاختلاف أو تُقلّص إلى الحدّ الأدنى، وهنا لا بد من إثارة بعض الأسئلة، منها:
1. هل يكون قياس السنّة على الشيعة قياسًا صحيحًا في هذا الموضوع مع الفوارق الكثيرة بين الهياكل والمؤسسات التي يعتمد عليها ويفرزها «الاجتماع الشيعيّ» لأسباب تخص البناء النفسيّ والتربويّ والتنشئة السياسيَّة القائمة على «ثقافة المعارضة»؟
2. بُني العقل السُنّي على «ثقافة الأكثريَّة» ذات السيادة، والتي تعتمد على أجهزة الدولة والحكم لتلبية ما تريده، وحين يبرز في الوسط السّنيّ ما يقتضي المعارضة فإنَّ المعارضة تأخذ شكلاً مغايرًا عن المعارضة الشيعيَّة، فهي لا تتخذ بديلاً عن الحاكم والحكم، وإن انقلبت عليه، بل قد تبايع الحاكم البديل، وتتخذه مرجعًا لها، فالمرجعيَّة هي الحكومة أو النُّظم، بقطع النظر عن كون تلك الحكومة وصلت بطريق مشروع إلى السلطة أو غيره، وهذه المرجعيَّة قد لا تكون كاملة فيتخذ الحاكم حلفاء له من العلماء أو المثقفين أو زعماء القبائل يستكمل بهم ما يراه داعمًا للنظام عند الحاجة.
كيف إذن يُوجد السُّنة مرجعيَّة لهم في ظل السقف الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ الراهن؟ لقد سأل أحد السياسيين السُّنة الجدد «بريمر» -الذي حكم العراق بعد فترة وجيزة من الاحتلال- قائلاً له: "لِمَ أيّدتم -أيها الأمريكان- الشيعة وأزحتم النظام وفكّكتم الدولة العراقيَّة وسلّمتم ذلك إلى الشيعة؟ وهل الشيعة أقرب إليكم ولمصالحكم من السّنة أم ماذا؟"، فقال بريمر بشيءٍ لا يخفى من الخبث: "الشيعة نعرف عنوانهم، وأنتم لا عنوان لكم، فأنا إذا أردت أن أحسم مع الشيعة شيئًا أستطيع أن أذهب إلى «النجف» وأتحدث إلى الإمام السّيستاني، فإذا استطعت إقناعه بشيء فقد انتهى الأمر، ولا يستطيع أحد أن يخرج عن قراره، أما أنتم -أيها السّنة- فإلى أين أذهب، مَنْ هو مرجعكم؟ وما عنوانه؟ مَنْ هو الذي إذا قال لكم: افعلوا أو لا تفعلوا، شاركوا أو لا تشاركوا سمع له الجميع ولبّوا نداءه ونفذوا أمره؟!!". هذه كلمة حق أُريد بها باطل، ولا نريد أن نقف طويلاً لمناقشة الباطل فيها، ويمكن أن نقول: إنَّ هذا فيه تجاهل ل«لطائفيَّة السياسيَّة» وما يمكن أن تنتجه وتفعله وتحققه. وللطائفيَّة السياسيَّة وسائلها وأدواتها وطرائقها في صناعة الرموز وصناعة التأييد لهم ووضع الوسائل والآليّات الكفيلة بتحقيق أهدافها.
إنَّ «سؤال المرجعيَّة» للعالَم السّنيّ عندي مثل «سؤال الديموقراطيَّة»، ويبدو أنَّ سؤال المرجعيَّة قد استعصى على العالم السُّني كما استعصى سؤال الديمقراطيَّة على المسلمين، فنستطيع أن نقول: لقد فشلت الحكومة الفلانيَّة في نشر الديموقراطيَّة، أو قد فشلت الحكومة الفلانيَّة في تحقيق تحول ديموقراطيّ... إلى غير ذلك، وذلك من التبسيط المخل للأمور، فالديموقراطيَّة لا يمكن أن توجد في فراغ، بل لا بد من بناء جذورها في العقل الإنساني، وتهيئة النفوس لقبولها، وإقامة المؤسّسات الكفيلة بإيجادها وتحقيقها وما إلى ذلك، وإشاعة ثقافتها وترسيخها، بحيث تتحول إلى ممارسةٍ ومنظومة حياة كاملة ليصبح الشكل السياسيّ بمثابة تتويج لتلك الجهود كلها ووضعها في إطارها السليم. أمَّا مجرد المناداة بها وتشغيل بعض وسائلها -مثل الانتخابات وما شاكلها- فإنَّه لن يحقق تحولاً ديموقراطيًا وإن زعم الزاعمون؛ ولذلك فإنّ فكرة المرجعيَّة وبنائها في عالمٍ ما عرف لها طريقًا إلا السلطة السياسيَّة ليس سهلاً، فحين يُقال له: اصنع لنفسك مرجعيَّة واختر عالِمًا من العلماء أو مجموعة منهم، فهل ستتقبل الفئات الليبراليَّة والعلمانيَّة السنيَّة ومَنْ إليها هذه المرجعيَّة؟ وهي التي تربت على التحرر والانفلات وعدم التقيُّد بقيد، ولماذا تتقبل هذا؟ وإذا قيل: نتخذ مرجعيَّة ليبراليَّة، فهل سيسلم الإسلاميُّيون لهذه المرجعيَّة؟ لا، لا يتوقع ذلك.
لقد كان العالِم عبر التاريخ والفرد المعروف بصلاحه وتقواه موقع احترام وتقدير في العالم السُّني. لقد حصل الأئمة أبو حنيفة ومالك والشافعيّ وأحمد بن حنبل والسفيانان وغيرهم على مكانةٍ مرموقة عالية، واحترمهم العالم السُّني واتخذهم مراجع تقليد، ولكن هل استطاعوا أن يلعبوا مثل الدور الذي لعبه مراجع التقليد الشيعة عبر التاريخ؟ الجواب لا، فالإمام أبو حنيفة سُجِن وأُهين ولم ينفجر الشارع في بغداد ضد أبي جعفر المنصور الذي سجنه وأهانه. وضُرب الإمام مالك نتيجة فتواه بعدم وقوع طلاق المكرَه، واضطر أن يعتزل في بيته بعد أن شُلت ذراعه تحت التعذيب، واعتزل الصلاة في المسجد النبويّ وهو على مرأى منه دون أن ينفجر الشارع السُّني في المدينة المنورة ويثأر للإمام المضطهد المهان. ولا ندري عدد الذين قد تأثروا بفتواه بعدم وقوع طلاق المكره الذي فسّرته الدولة بأنَّه تآمر عليها ومحاولة لإباحة التحلُّل من بيعتها. وحُبس الإمام أحمد وعُذّب لإكراهه على القول ب«فتنة خلق القرآن» ما يقرب من ثمانية عشر عامًا ولم ينفجر الشارع السُّني انتقامًا للإمام المظلوم، بل قال قائلهم بعد أن رأى مشيِّعي جنازة الإمام أحمد قد تجاوزت المليون، وكان فيهم يهود ونصارى وصابئة وسواهم: "بيننا وبينهم الجنائز"!! فكأنّ السُّنة لا يعرفون لإمامهم قدره إلا بعد أن يموت، فإذا مات تكاثروا على جنازته لتشييعها، فكأنه لا يصبح مرجعًا إلا بعد الموت! وقد قال فائلهم:
وَالمَرْءُ مَا دَامَ حَيًّا يُستَهَانُ بِهِ وَيَعْظُمُ الرزؤ فِيهِ حِينَ يُفْتَقَدُ
وجِيء بالإمام الشافعيّ مقيَّدًا بالسلاسل من اليمن مخفورًا حتى أُوقف بين يدي الرشيد في بغداد بين السيف والنطع، ولم يتحرك الشارع السُّني لإنقاذ المظلوم الذي وقف له محمد بن الحسن الشيباني وكفله لدى هارون الرشيد ليُطلق سراحه بكفالته وبأنَّه لم يسمع عنه ما يريب.
إنّ فكرة أن يكون للعالم السُّنيّ مرجع مهاب يستطيع أن يعارض الحاكم ويُخضعه إن شاء وينتصر للأُمَّة والشعب ويصون مقدراتها أمرٌ مستبعَد في إطار «الثقافة السنيَّة السائدة». و«ثورة القرّاء» -بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث- دليلٌ معضّد لما قلنا، فقد قُمعت بمنتهى القوة والقسوة ولم يثر الشارع السّني. وإذا طوينا العصور طيًّا وجئنا لعصر المجاهد ابن تيميَّة -رحمه الله- فسنرى عالِمًا مجاهدًا شُيّع من سجنه إلى قبره، ومثله مئات من العلماء عبر تاريخنا حدث لهم ما حدث من قِبَل رجال السيف، وربما اتهم بعضهم بالردَّة إمعانًا في حرمانهم من أيّ تعاطفٍ شعبيّ، وقد تناولنا في كتابنا «لا إكراه في الدين» مجموعةً من أسماء أولئك الأعلام.
محاولات بناء المرجعية حديثًا
لقد عرف العالم السني الكثير من العلماء السَّنة المشهود لهم بالعلم والفضل، والذين يبزون علماء الشيعة في علمهم ومعرفتهم وثقلهم، ولكنّ أيًّا من البلدان العربية لم تتخذ منهم مراجع مثل الشيعة. فقد عرف العراق على سبيل المثال نماذج من علماء السنة العظام. ففي حين كان المرجع الأعلى للشيعة في العراق هو السيد محسن الطباطبائي الحكيم ،كان في العالم السُّني الشيخ أمجد الزهاويّ، الذي قال فيه السيد الحكيم نفسه: "إنَّه أبو حنيفة العصر، وأنّ فقه أبي حنيفه وأصوله لو ضاعا لأملاهما الزهاويّ عن ظهر قلب. كان الشيخ الزهاوي قمةً في الصلاح والتقوى والعلم والمعرفة، ولم يتخذه العراقيُّيون السُنَّة مرجعًا ولم ينصبوا له راية. ولقد درست عليه وصحبته وكان حتى وفاته -يرحمه الله- يركب سيارات النقل العام الكبيرة من بيته في أول الأعظميَّة إلى مدرسته في قلب بغداد، ويقطع المسافة ماشيًا على قدميه من باب المعظّم حتى المدرسة بدون أن يرافقه أحد أو يسير أحدٌ معه أو خلفه". لقد كان الشيخ الزهاويّ -دون مبالغة- أعلم أهل العصر على مستوى العالم -كله- في علوم الشريعة والتاريخ الإسلاميّ والحدس السياسيّ والتقوى والصلاح والغيرة على الدين والأُمَّة والإخلاص الذي لا ينافسه فيه أحدٌ من معاصريه؛ في حين كان السيد الحكيم -الذي اعترف للشيخ الزهاوي بالفضل- إذا سار سارت خلفه مائة سيارة على الأقل، وإذا مشى مشى وراءه المئات إن لم يكونوا آلافًا. وهكذا الحال بالنسبة لكاشف الغطاء وغيرهما من أئمة الشيعة. ومن علماء السنة العظام في العراق كذلك الشيخ محمد فؤاد الألوسي -سليل الأسرة الآلوسيَّة، وهي أسرة علمٍ ونسبٍ شريف- الذي كان يركب سيارات النقل العام من منزله في محلة الفضل كل صباح إلى باب الشيخ. وبعد أن يفرغ من زيارة الشيخ عبد القادر الكيلاني يركب مرة أخرى من باب الشيخ إلى مدرسته في جامع مرجان، فإذا صلّى العشاء ركب إلى الكاظميَّة لزيارة موسى الكاظم وللعودة من هناك إلى بيته، وكان يصنع ذلك كل يوم. والمثال الثالث هو الشيخ الدكتور حارث الضاري الذي تصدى الاحتلال ودافع عن قضايا الشعب. وهو ابن أسرةٍ عربيَّة مناضلة لها في ثورة العشرين -التي تحرر فيها العراق من بريطانيا- نصيبٌ وافر. وقد جمع حوله مجموعةً من العلماء والأئمة وأهل الفضل من السُّنة، وتبنّى مبدأ مقاومة العالِم وانضمامه إلى شعبه وأُمّته في محاولة التحرير والتحرر. وبقطع النظر إذا ما كنا نتفق معه في بعض القضايا أو نختلف، فإنّ الرجل قد رفع راية كان لا بد أن تُقابل بالاحترام اللازم. فهل استطاع الشيخ حارث أن يُقنع الفئات السُنيَّة المختلفة بأن تنظر إليه على أنّه رمز وأنَّ للرموز دورها -خالفها الناس أو وافقوها- وأنَّ الحوار مع أمثال هؤلاء أجدى وأوفر من الحوار مع غيرهم؟
لقد حاولت حركات إسلاميَّة كثيرة في القارة الهنديَّة وفي العالم العربي وأماكن مختلفة أن تجعل من نفسها مرجعيَّة تحل محل مرجعيَّة العالِم والمؤسَّسة وما إليها ومن إليها، وقامت بجهود كثيرة لفعل ذلك، وأضعفت من شأن المؤسسات الدينيَّة في أماكن كثيرة، وحين رشحت نفسها لتحل محل المرجعيَّة لم تجد تجاوبًا يُذكر، وأضافت إلى مشكلات الأُمَّة مشكلة الصراع بين الفقيه والمفكر وبين الإسلام السياسيّ والعلماء التقليدييّن كما يسميهم البعض.
وقد عمل بعض شيوخ الأزهر على جعل الأزهر مرجعيَّة سنيَّة، وقاموا بعدة محاولات، ولُقّب شيخ الأزهر ب«الإمام الأكبر» و«الشيخ الأكبر» و«الأستاذ الأكبر». وكذلك تصدّى الشيخ القرضاوي وأسّس «الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين»، وقد مرت السنين ومايزال هذا التجمع دون مستوى المرجعيَّة.
ولكن هل اتخذت السّنَّة من أيٍّ من هؤلاء مرجعًا يقفون عند فتواه أو رأيه أو قوله. و هل سمحت الثقافة السنيَّة والعقليَّة السنيَّة لهذه المحاولات أن تنجح وتكرّس مرجعيّة؟ لم يحدث شيءٌ من ذلك ولا يتوقع أن يحدث.
السياسة والمرجعيّة:
إنَّ السلطان السياسي قد يستعين بالفقيه والعالِم لدعم شرعيّته في بعض الظروف، لكنه لا يسمح لهذا العالِم بتنميَّة شعبيّته التي هي شرطٌ أول لبناء مرجعيَّته؛ لأنَّ الحاكم الفرد لا يعجبه أن يرى أحدًا يمكن أن ينافسه في صناعة القرار أو في التأثير في إرادة الشعب. لقد توغّلت الدولة القوميَّة الحديثة فأصبحت تتدخل في لقمة العيش وكأس الشاي ولتر الغاز وكل شيء ليعتمد المواطن عليها في كل ما يأخذ ويدع ويشعر بحاجته الماسة إليها ولا يلتفت إلى سواها.
إنَّ حكومات العالم السُّني كثيرًا ما تنظر إلى العلماء والدّعاة على أنَّهم عبء بدل النظر إليهم كإمكانيَّة، وقد تهتم بأيّ قطاع إلا بالقطاعات المتصلة بها، والبلدان التي كانت فيها أوقاف على أصنافٍ من هؤلاء أو مدارسهم كثيرًا ما اعتدت الحكومات فيها على الاوقاف وصادرتها وضمتها إلى المال العام؛ لتجعل من العالِم أو الشيخ دائمًا إنسانًا مرتبطًا بها ارتباط السمك بالماء. وكيف أستطيع أن أطلب من عالِم أن يتحوّل إلى مرجع للأُمَّة يتبنَّى قضاياها ويدافع عنها ويخوض معاركها وهو أعزل لا سلاح له ولا جماهير تحيط به ولا أحد يدافع عنه أو يناضل عن وجهه.
ثمة قصة طريفة تُروى عن أهل البصرة، تقول أنَّه كان لديهم عالمٌ واعظ مؤثر جدًّا يحبه الجميع، ولانشغاله بالتدريس والوعظ والإرشاد، وعدم وجود موارد أو أوقاف تسد حاجته وحاجة مدرسته فقد قرر الهجرة وترك البصرة إلى غيرها، تقول القصة: إنَّ أهل البصرة حينما علموا بذلك وركب الشيخ حماره وأردف وراءه زوجته وسارا إلى خارج المدينة، خرج أهل البصرة عن بكرة أبيهم ليودّعوه، فتأثر الرجل بمنظرهم واستعبر، والتفت إليهم قائلاً: "والله يا أهل البصرة ما تركتكم قاليًا لكم أو لمدينتكم، ولو أنَّني وجدت رغيفين من الخبز لي في الصباح ورغيفين في المساء لي ولزوجتي وعليقةً لحماري لما تركت مدينتكم أبدًا"، تقول القصة: ورغم ما قال الرجل فلم ينبرِ أحد من تلك الجماهير الغفيرة ليقول لذلك العالم: "عد ولك عندي ما تفتقد من الأرغفة الأربعة وعليقة الحمار".
تصورات لإيجاد «مرجعيّة» في العالم السنّي
إنَّني أرجو ألا أكون قاسيًا على أهل السُّنة إذ ذكرت ذلك كله؛ ولكن إذا كان ثمّة بحثٌ جاد عن مرجعيَّة فلا بد من مؤسسة على مستوى الأُمَّة، تكون في مستوى «المحكمة الدستوريَّة العليا» في بعض الأماكن. إنّ «المحكمة العليا» في أمريكا نموذج من النماذج التي استطاعت أن تراقب المؤسسسات التنفيذيَّة للدولة، بل والمؤسسات التشريعيَّة والأمنيَّة كذلك، وتجعل من نفسها مرجعيَّة لا تُردّ لها كلمة في الشأن العام، رغم أنّ نشاطها منحصر في أطر ضيقة؛ لأنَّ المشكلات التي تعاني منها أمريكا وتحتاج أن توضع بين يدي المحكمة الدستوريَّة العليا هي مشاكل محددة.
إنّ ما أقترحه ليس هو ذلك الشكل بحرفيَّته بل بدلالته ومعانيه وشخصيَّته المعنويَّة والاعتباريَّة. فإذا استطاع العالَم السنيّ إيجاد مؤسسة علمية تتولى مخاطبةَ مؤسسات الدولة والحُكّام وصُنّاع القرار والمثقفين بما أجمعت عليه في القضايا الخلافية التي ترفع إليها، على أن تلتزم الدولة قانونيًّا بما تصل إليه هذه المؤسسة العليا فقد تقوم مقام المرجعيَّة ولو إلى حين.
أمّا أن يحلم البعض بالمرجعيَّات الفرديَّة أو الزعامات الخاصة أو الهيئات السياسيَّة والحزبيَّة فذلك أمرٌ على ما يبدو في عداد المستحيلات. ويجب أن توفر الدولة الضماناتٍ بألا تقوم بأي عملٍ من شأنه إضعاف هذه المؤسّسة المرجعيَّة، وبذلك يتوافق الجميع على احترامها وتقديرها والرجوع إليها والوقوف عند ما تضعه من حدودٍ وقيود لحمايَّة بيضة الأمّة ووحدتها، والتنسيق بين فصائلها، وتجاوز أيَّة أزماتٍ تعرض خلال الطريق.
إنَّنا نتمنى أن يكون هذا الموضوع ورقة للنقاش، فنحن لا نعتبر ما ذكرناه حلاًّ أو تصورًا كاملاً، بل هو مشروع ورقة للنقاش نتمنى أن تُنضجها أقلام المفكرين وآراء العلماء وأنظار الإعلاميين القادرين، لعلّنا نخرج ببعض التصورات.
والله ولي التوفيق...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.