عندما يحكم شخص دولة بقبضة حديدية، يظلم الناس ويعذبهم، يرمي بالمعارضين في السجون وينكل بهم، يجوع الملايين ويسرق قوت الشعب، يستبيح المال العام، يشدد قبضته الأمنية ويكمم الأفواه، يتألم الشعب من هذا الظلم لمدة 30 عام أو 40 عام، يتراكم الحزن والألم والغضب كل هذه السنون...وفجأة، ينتفض الناس، يشعرون بأن الكيل قد طفح وأن السكوت أصبح لا يطاق وأن ساعة العدل قد آن وقتها فينطلقون في الشارع مرددين بان يسقط النظام ويسقط الظلم ويهتفون بالعدالة والحرية، ومع كل هتاف يدور في أذهانهم شريط حياتهم المهانة والمعذبة، تمر أمام أعينهم مشاهد متنوعة لسنوات طالت لا تعرف سوى الحرمان والفقر والجوع والظلم والإهانة في طول البلاد وعرضها. يعرفون أن حاكمهم هو السبب، وأنهم صمتوا كثيرا أمام إذلاله لهم، يتذكرون قتلاهم في السجون والمعتقلات بسبب بطش حاكمهم، يلمحون من بعيد شهداء إهمال الدولة في توفير الخدمات المختلفة من عبارات مؤمّنة وقطارات سلمية ومساكن لا يتساقط فوق رؤوس ساكنيها صخور وجبال. ينتفض الناس ويخرجون للشوراع وهم على يقين أنهم ما خرجوا إلا بعد أن ضاقت بهم السبل ويعلمون علم اليقين أن السبب في كل ما هم فيه هو هذا الحاكم الظالم. يشتاط الحاكم غضبا، كيف لهؤلاء الفئران أن ينتفضوا عليه؟ يأمر رجاله وحاشيته بإطلاق النار، أو لا يأمرهم، فهو قد عينهم من قبل لأداء هذه المهمة، فقد سبق واعتلقوا وعذبوا حتى الموت وقتلوا في السجون، فهل ينتظرون في هذا اليوم إذنا من سيدهم ليطلقوا النار؟ لماذا عينهم إذن في مواقعهم هذه؟ يتساقط الشهداء والجرحى والمصابون، أطفال تيتم وزوجات ترمل وآباء وأمهات يبكون أولادهم، ثم تأتي النهاية ولكنها تختلف من بلد لأخرى. أتحدث هنا عن مصر وليبيا ولنشاهد ما حدث في الثورتين. في الثورة المصرية أجبر الطاغية على التنحي، وبدأت تتعالى الأصوات منادية بمحاكمة "عادلة" واختزلت التهمة في قتل المتظاهرين، وكأن ما حدث طوال 30 عاما لا يشكل تهما جاهزة. وكأن الناس ثاروا على هذا الطاغية ليقبضوا عليه وبعد ذلك يسألوه عن جرمه وينظروا إن كان يستحق العقاب أم لا!! إذا كان الثوار غير واثقين أصلا من ظلم حاكمهم فلم ثاروا عليه؟ يا سادة، الثورات تصدر أحكامها على الظالمين حال أن تبدأ. الحكام في هذه الحالة مهدور دمهم من قبل أن يلقى القبض عليهم. أما الحديث عن محاكمات "عادلة" في هذا السياق فهو وهم ومضيعة للوقت واستخفاف بالعقول، وإلا لماذا يثور الناس إذا كانوا غير متأكدين من ظلم وبطش حاكمهم؟ ما معنى محاكمات "عادلة" في هذا السياق؟ في ليبيا قام القذافي بارتكاب مذابح طوال 40 عاما من حكمه الظالم، ومن لا يعرف فليسأل أهل ليبيا، كان القذافي يقوم بإعدام أساتذة الجامعات في صحن الحرم الجامعي، وكان يقوم بشنق معارضيه في الساحة الخضراء في وسط طرابلس عند أذان المغرب في رمضان، قام القذافي بقتل المعتلقين العزل في سجن أبو سليم، وارتكب الكثير من المجازر في فترة حكمه، ولم يكن وقتها يوجد إنترنت ولا فضائيات تنقل الحدث، ناهيك عن العزلة التي فرضها على ليبيا بحيث لا يعلم أحد ما يحدث بداخلها. قام القذافي بتربية الخوف في نفوس الليبيين وقد شاهدتهم بنفسي يخافون ذكر اسمه صراحة ويستبدلونه بالإشارة إلى أعلى وكأنهم يشيرون لإله في السماء والعياذ بالله. وحين قامت الثورة هناك، بدأت سلمية فقام الطاغية بمجازر ستكشف عنها الأيام تباعا، واسبتاح الأعراض وقتل الأطفال ودمر القرى والبيوت. فهل بعد كل هذا يجب القبض عليه ومحاكمته محاكمة "عادلة"؟؟ أي عدل هذا يا كرام؟ القضية منتهية أصلا والأمر ليس في حاجة لمحكمة وإجراءات شكلية تجاوزتها أفعاله ومجازره. لم تعقد محاكمة لشخص يحارب شعبه لمدة 9 أشهر بكل أنواع الأسلحة التي يمتكلها؟ أي منطق إنساني أو قانوني يقول بمحاكمته؟ الرجل مهدور دمه وكان يقاوم للنهاية. ومسألة إعدامه مسألة منتهية لا تحتاج لمحاكمات وأوهام نصنعها بأيدينا. عرض عليه الليبيون التنحي، وأبى إلا أن يذله الله على أيديهم. المجرم الهارب الثابت عليه التهمة لا حاجة لمحاكمته، وإذا قاوم وجب قتله. 9 أشهر والشعب الأعزل يأن ويصرخ وبعد أن ارتكبت فيه المذابح والمجازر أصبحت هذه ذريعة للقوات الغربية بأن تتدخل في ليبيا، من المتسبب في كل هذا؟ أليس هو القذافي الذي شعر بعض الناس بالألم لرؤيته مضرج في دمائه كالذبيحة في يد الثوار الأبطال؟ لماذا شعرتهم بالحزن واستدعيتهم إنسانيتكم في مشاعر كاذبة ومنزوعة من سياقها. القتل فعل مؤلم ولكنه ضروري في أحيان كثيرة. الحكم على فعل معين بدون النظر للسياق الكلي أمر مناف للمنطق وظالم للغاية. كيف تلومون الثوار الذين هم في الأصل مدنيون مسالمون لا شأن لهم بحمل السلاح وقد اضطروا لحمل السلاح نتيجة ما تعرضوا له من أهوال، كيف تلومونهم على لحظة كهذه؟ أنا ضد تعذيب الأسرى والتنكيل بجثثهم وتعاليم ديننا تحثنا حتى في الحرب أن نحسن القتلة ولا نتعمد تعذيب القتيل. ولكن لا أستطيع أن أتجاهل مشاعر إنسانية سحقت وأجبرت على الحرب. لا أستطيع أن ألوم شباب عاديين - وليسوا جنودا محترفين - شاهدوا أهلهم يقتلون ويحرقون ونساؤهم تغتصب وقراهم تهدم وحين يقبضون على طاغية استمر في الحكم 40 سنة يذلهم ويكبت حرياتهم أن ينفسوا عن غضبهم تجاهه، وأرى أن ما فعلوه قليل جدا ولا يتناسب مع ما وقع عليهم من ظلم. اسألوا أهل أجدابيا ماذا حل بهم، ومصراته الأبية والجبل الغربي والزاوية...اسألوا النساء التي اغتصبت من مرتزقة القذافي. المأفون كان يستأجر أجانب لقتل شعبه، أي بشاعة هذه؟ كيف تشفقون عليه بعد كل هذا؟ الأهم من كل هذا، أن لا أحد يستطيع الجزم بأن الثوار هم من قتلوه، بالأمس شاهدت على الجزيرة لقاء مع الأشخاص الذين قبضوا عليه وقد أقروا بانهم قبضوا عليه جريحا بعد اشتباكات مع حراسه، وحاولوا اسعافه وتلقينه الشهادة وقد كانت هناك اشتباكات وإطلاق للرصاص بينهم وبين حراسه والأرجح أنه قتل برصاص حراسه بالخطأ. وهناك كلام على أنه أمر حراسه بقتله في حالة إلقاء القبض عليه. باختصار، الحقيقة مازالت غائبة ومن الصعب الحكم على ما حدث من مجرد فيديو غير مكتمل المشاهد.