تمكن دولا أخرى من التحرك الفاعل ضد الولاياتالمتحدة وحلف الاطلنطى ،إذ كان عدم وجود قطب دولي منافس ومعاند للولايات المتحدة أحد أسباب تردد تلك الدول فى مواجهة نفوذ الولاياتالمتحدة وجبروتها ومظالمها. \r\n فى الخطوة الروسية يبدو أننا أمام صراع يتمدد وتلك هي إحدى خصائص الصراعات ذات الطبيعة الإستراتيجية حتى لو كانت على مستواها العملياتى ذات طابع محدود. وإذ بدأت المعركة العسكرية وانتهت فعالياتها عند حدود الأراضي الجورجية , فإنها على المستوى الإستراتيجي توسعت لتدخل كعامل رئيس محدد لطبيعة العلاقات بين روسيا وحلف الناتو, كما هي شملت إحداث تغيرات فى طبيعة العلاقات السياسية بين روسيا وأوروبا، وكذا هي تحولت إلى نمط من الصراع الأمريكي الروسي على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية، بعد ماجرى من تهديد روسيا بعدها بالاستبعاد من قمة الثمانية الكبار - شكل إدارة العالم وإن تحت الهيمنة الأمريكية- وبعدم السماح لها بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية , وكذا لان الأمور وصلت إلى تعزيز الوجود العسكري للأطلنطي فى البحر الأسود , و إلى إعادة النظر فى حدود ومجالات التعاون بين روسيا والأطلنطي , التي أصابها توتر حاد ومتصاعد. \r\n والخطوة الروسية فى حد ذاتها لم تكن وفقا لما ظهر من بعد, مجرد خطوة محدودة أو متسرعة , يمكن العودة عنها , بل ثبت من التصرفات الروسية , إنها كانت خطوة أولى تتبعها خطوات أخرى تجرى وفق رؤية إستراتيجية مسبقة ومحددة وضعت فى اعتبارها طبيعة التعامل مع ردود فعل الأطراف الداخلة ضدها فى المواجهة, وفق خطة تبدو منهجية. \r\n وإذا كان مفهوما أن روسيا لم تستهدف احتلال الأراضي الجورجية, وإنما توجيه ضربة إجهاضية للقدرات الجورجية المتنامية وقطع الطريق على انضمام هذا البلد- بموقعه الاستراتيجي الخطير _ لحلف الناتو , لما يمثله ذلك من تهديد استراتيجي بالغ الخطر على روسيا وأمنها القومي, فإن الأهم هو أن روسيا أكملت معركتها العسكرية بإعلان الاعتراف السياسي والدبلوماسي بإقليمي أوسيتيا و أبخازيا, وكذا هي تحركت للضغط على دول أخرى فى المحيط الروسي تجرى الولاياتالمتحدة معها مفاوضات ضمها للدرع الصاروخي الأمريكي. \r\n لقد ردت روسيا بقوة على ردود الفعل الأمريكية والأطلسية , بإبداء استعدادها لاستخدام السلاح النووي ضد قواعد الدرع الصاروخي, وبإعلان أنها جاهزة لقطع التواصل مع حلف الاطلنطى , وبعدم إظهار خوفها من نشوب حرب باردة جديدة بينها والولاياتالمتحدة والغرب, بل هي هددت بتحويل أفغانستان إلى فيتنام أخرى , فى إشارة إلى استعدادها لمجابهة مع قوات الاطلنطى الموجودة فى أفغانستان, عن طريق إمداد المقاتلين هناك بالسلاح الروسي, كما كان الحال عليه فى فيتنام. \r\n هنا, يبدو السؤال الضروري, هو, أية أوراق تمتلكها موسكو فى هذا الصراع مكنتها من إشعال تلك المعركة والصمود فيها وتطويرها ؟!, وهل يمكن لها أن تخرج منتصرة منها ؟ \r\n \r\n أوراق موسكو \r\n فى حسابات مثل هذا الصراع, تقوم الإستراتيجيات على حساب عوامل القوة وعوامل الضعف لدى الطرفين المتصارعين بشكل مباشر , كما هي تقوم -فى ذات الوقت - على حساب عمليات الاستقطاب المتوقعة للدول الأخرى, على اعتبار أن الصراعات تحسم لصالح من يتمكن من حشد تأييد أوسع قدر من الحلفاء الافتراضيين, أو بقدر ما ينجح فى جذب دول كتله الوسط بين المتصارعين , إلى صفه فى المواجهة سياسيا أو عسكريا حسب طبيعة وسائل حسم الصراع. \r\n وفى الحالة الروسية يبدو أن الحسابات الروسية قد ارتكزت إلى الميزة النسبية التي تتمتع بها فى هذه المعركة , ألا وهى القرب الجغرافي لروسيا من جورجيا, بما يشمل قدرة الخصم الإستراتيجي الامريكى على التدخل . لقد استفادت روسيا فى معركتها العسكرية ليس فقط من صغر جورجيا وضعف قدرتها فى حساب موازين القوى , وإنما هي استفادت أيضا من وجودها على مرمى حجر من حركة الجيش الروسي, إضافة إلى وجود حدود مشتركة بين روسيا وكل من الإقليمين المتنازع حولهما(أبخازيا وأوسيتيا ), وهو ما شكل حالة مانعة لأية قوة دولية من مجرد التفكير فى التدخل الفاعل أو التدخل العسكري. ( ربما كان ذلك هو الدافع للمسئولين الأمريكيين و للإعلان صراحة عن نصح الرئيس سكشفيلى بعدم المغامرة بالهجوم على أوسيتيا الجنوبية قبل إقدامه على تلك المغامرة ). \r\n لكن الأهم هو أن روسيا رأت أن أحد عوامل قوتها تتمثل فى عوامل ضعف الولاياتالمتحدة , وانعدام قدرتها على كسب الحلفاء, وخاصة حين تتخلص روسيا من فكرة أنها قامت بغزو دولة أخرى , بعد تحول المعركة إلى صراع حول الإستراتيجيات الدولية, (وهو ما شكل دافعا لانسحاب القوات الروسية من الأراضي الجورجية). \r\n وفى استثمار روسيا لعوامل ضعف الولاياتالمتحدة،فيبدو أنها قدرت حالة الضعف الاقتصادي التي تعيشها تجعلها غير قادرة على شراء موقف دول أخرى-كما حدث فى حالة العراق - وأن عوامل الإنهاك العسكري والسياسي الذي أصيبت به قدرات الولاياتالمتحدة ،بعد ما جرى ويجرى لها فى العراق وأفغانستان ستجعلها غير قادرة تجييش دول أخرى على الدخول فى صراعات عسكرية مع روسيا, كما الأغلب أن روسيا, رأت أن كثرة المعارك والصراعات التي دخلتها الولاياتالمتحدة خلال فترة رئاسة بوش , قد هيأت بيئة إستراتيجية دولية جعلت كثيرا من الدول جاهزة للخروج من إطار الهيمنة الأمريكية ،وإنها فى حاجة إلى قوة دولية ترتكن إليها للخروج من هذه الهيمنة و على الجانب الآخر رأت روسيا أن ظروفها هي باتت تسمح بممارسة مثل هذا الصراع بالنظر إلى ما باتت تمتلكه من أوراق اقتصادية وسياسية وعسكرية فى علاقاتها الدولية, تسمح لها بمنع الولاياتالمتحدة من حشد الغرب حولها فى المواجهة مع روسيا . كما يبدو أن روسيا أقامت حساباتها على أن العالم قد تغير فعلا فى توازنات القوة بظهور الصين وخلافها مع الولاياتالمتحدة - لأسباب عديدة - ولبروز قوة الهند وغيرها, وبفعل ما يجرى ضد الولاياتالمتحدة فى أمريكا اللاتينية .. إلخ . وبمعنى أدق, فإن روسيا قدرت أن الولاياتالمتحدة لا يمكن لها التدخل عسكريا لإنقاذ جورجيا, كما أن أوضاع روسيا على صعيد قوتها باتت تسمح لها بدخول تلك المغامرة, إضافة إلى تقديرها بأن الوضع الدولي بات يسمح بإدارة معركة تنتهي لمصلحتها. \r\n \r\n قضايا خطرة \r\n وفى الحسابات الإستراتيجية الروسية أيضا, يبدو أن روسيا وضعت فى اعتبارها أن الأوراق التي بيدها والبيئة الدولية التي تمارس صراعها فى داخلها, باتت تمنع الولاياتالمتحدة من التغول فى ممارسة الصراع ضدها , على اعتبار أن نقاطا فى العالم يمكن ان تغير موازين القوى فيها لغير صالح الولاياتالمتحدة وعلى نحو يؤثر على خططها الإستراتيجية و أهدافها , بما يدخلها فى حالة حسابات بالغة الدقة والحساسية ،إذا انحازت روسيا ضد الولاياتالمتحدة فى تلك المفاصل الحساسة من العالم. \r\n ففي اللحظة التي قررت فيها روسيا الدخول فى هذا الصراع الإستراتيجي, لا شك أنها أدركت أن الولاياتالمتحدة لا يمكن لها الدخول فى مجابهة -لا نقول مواجهة عسكرية - واسعة ودائمة مع روسيا , بحكم المشكلات الجارية بين الولاياتالمتحدة وكل من إيران وكوريا بشكل خاص,إذ يمكن لروسيا فى حال انحيازها الصريح لأي منهما أن تغير قواعد وأسس ومآلات الصراع لغير صالح الولاياتالمتحدة , وإلى الدرجة التي تحقق إخفاقا شاملا للوجود والدور الامريكى فى آسيا. \r\n لقد وضعت روسيا فى حساباتها أن الولاياتالمتحدة ليس بإمكانها المغامرة بصراع ينقل روسيا للمربع المعادى بسبب طبيعة الصراعين الكوري والإيراني المحتدمين مع الولاياتالمتحدة,إذ روسيا, ضمن إطار المباحثات مع كوريا, كما هي العامل الأهم فى لعبة الموازنات مع إيران خارج وداخل مجلس الأمن . وهو ما ظهر بشكل واضح من استثمار كوريا بشكل واضح لانشغال الولاياتالمتحدة بالأزمة الجورجية , باستئناف العمل فى مفاعلها النووي والعودة بالمفاوضات إلى المربع الأول , كما ظهر فى الحالة الإيرانية , فى توقف ملاحقة الولاياتالمتحدة وأوروبا لها بعد الانشغال فى حرب جورجيا , ومن إعلان إيران عن امتلاكها أسلحة جديدة (غواصات) دون رد أو تعليق امريكى, كما هو أمر يظهر فى الحسابات الإستراتيجية البعيدة للصراع ،إذ تدرك الولاياتالمتحدة أن ما تحتاجه كوريا و إيران فى الصراع هو عامل الوقت الذي يمكن كليهما من استكمال أوراق القوة فى المواجهة مع الولاياتالمتحدة ،إلى درجة تشل القدرة الأمريكية على المواجهة فيما بعد . \r\n إدارة المعركة \r\n وفى فهم ترتيب روسيا لأوراقها وإدارتها الإستراتيجية للمعركة , يظهر بوضوح أن روسيا استهدفت حصر الصراع بينها وبين جورجيا ثم بينها والولاياتالمتحدة ,أو بالدقة هي استهدفت عزل جورجيا عن الغرب وعزل أوربا كأوربا أو كدول منضوية داخل حلف الأطلنطي عن النفوذ الأمريكي. وإذا كانت دول أوروبية قد أظهرت تباينا عن الموقف الأمريكي فى مطلع الأزمة -خاصة فرنسا وألمانيا - فإن روسيا بقرارها حول استمرار تعاونها مع حلف الأطلنطي بشأن أفغانستان، قدألمحت ولوحت من ناحيتها إلى نقطة قوة تمتلكها, وكما هي فى ذات الوقت أظهرت لأوروبا مدى رغبتها فى استمرار التعاون مع الأطلسي و فى القلب منه الدول الأوربية , التي تشارك بقواتها فى احتلال أفغانستان , مع الإعلان بأن روسيا لو أوقفت تعاونها وتحولت إلى الضد , لأصبحت أفغانستان فيتنام أخرى . \r\n و فى فهم ترتيب روسيا لأوراقها وإدارتها الإستراتيجية للأزمة يبدو واضحا أنها توسع الصراع السياسي والدبلوماسي دون توسيع للصراع العسكري, بل هي سعت إلى حصره فى أضيق نطاق على المستوى العملياتى, ضمن الحدود الجورجية. وهو ما يشير إلى أن خطة روسيا تقوم على إنهاء المعركة العسكرية المباشرة لصالحها من خلال اجبارالخصوم على إدراك أن توسعة المعركة هي لغير صالحهم. \r\n كما يبدو وأن روسيا قد اختارت فى إدارة معركتها الإستراتيجية , إظهار بعض أوراقها دون استخدام لها بشكل فاعل - فيما يصب فى نفس الهدف - وكذا إظهار التصلب الشديد فى معركة جورجيا, وإبداء قدر واسع من المرونة فى استخدام الأوراق الأخرى , كما يبدو أنها اختارت أن تترك بعض من أوراقها دون تلويح بالاستخدام والاكتفاء بدلالتها الضمنية , إذ لم تشر روسيا إلى أوراقها فى أمريكا اللاتينية وغيرها. \r\n وفى كل ذلك , يبدو الأهم فى التوجه الاستراتيجي أن روسيا حددت نطاق نفوذها وتحالفاتها باتجاه آسيا والشرق الأوسط للضغط على أوروبا والولاياتالمتحدة , وهو يبدو بارزا فى دلالات حضور الرئيس الروسي اجتماع قمة ميثاق شنغهاي, وفى استقبال الرئيس السوري, وفى العلاقات مع إيران والصين والهند.