واليوم يبدو أن الاحتجاجات الداخلية الناجمة عن التدابير التي اتخذها مشرف لتعزيز سلطته وتوسيعها، هي التي تجتاح باكستان وتهدد بزعزعة استقرارها إن استمرت وزادت حدتها. هذا الوضع المستجد في باكستان يطرح أمام أميركا معضلة كلاسيكية كثيراً ما واجهتها في معرض حربها على الإرهاب: هل تفوق قيمة الأمن والاستقرار اللذين قد يضمنهما قائد ما، الممارسات الاستبدادية لنظامه، ومتى يصبح الحكم الديمقراطي الضامن الأول لتحقيق الأمن والاستقرار؟ \r\n لقد أقدم الرئيس مشرف مطلع شهر مارس المنصرم على إقالة كبير قضاة المحكمة العليا. ومنذ ذلك الحين والطبقة الباكستانية الوسطى التي كانت -وللمفارقة- مستفيداً أساسياً من صعود مشرف إلى السلطة، يحتج ممثلوها في الشوارع. ولعل مما يفاقم حدة المظاهرات هو تلك الشكوك التي تشير إلى أن مشرف يعمل على تمهيد الطريق لتأمين فترة رئاسية أخرى يحتفظ فيها بمنصبه كقائد للقوات العسكرية الباكستانية. وتتخوف أوساط عديدة، سواء داخل البلاد أم في واشنطن، من أن يؤدي الاحتقان السياسي، فضلاً عن الركود الاجتماعي، إلى زعزعة استقرار أحد الحلفاء الأساسيين لأميركا في حربها على الإرهاب، ناهيك عن أخطار تفشي الاضطرابات في المناطق القبلية الأقل تقدماً. وفي هذا السياق يقول \"سليج هاريسون\"، مدير برنامج آسيا في مركز السياسة الدولية بواشنطن: \"لقد كنا نسمع لفترة طويلة أن البديل لمشرف قد يكون أسوأ، لكننا في الواقع لا نحتاجه إذا لم يوسع من مشاركة الباكستانيين في السلطة\". \r\n ويؤكد الخبير في الشؤون الآسيوية أن غياب الإصلاح السياسي، والحكم المدني، عمّق الانقسامات داخل المجتمع الباكستاني، موضحاً أنه: \"كلما انقسم المجتمع الباكستاني على نفسه كلما أصبح ذلك مهدداً للاستقرار\". وبينما لا يتوقع أحد أن تؤدي الاضطرابات الاجتماعية الأخيرة التي تشهدها البلاد إلى سقوط مشرف، فإن العديد من المراقبين ينظرون إلى الشهور المقبلة باعتبارها حاسمة في تحديد اتجاه باكستان. \"كارل إندرفوث\"، مساعد وزير الخارجية السابق للشؤون الآسيوية يقول في هذا الصدد: \"إنها ليست مجرد موجة من الاحتجاجات، بل هي تعبير صادق عن الاستياء العام إزاء فشل نظام برويز مشرف في قيادة البلاد نحو الحكم المدني، ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية ستحدد هذه اللحظة الكثير من الأمور\". \r\n وقد برر الرئيس الباكستاني إقدامه على إقالة كبير القضاة \"محمد شودري\" في التاسع من شهر مارس الجاري، بالقول إنه \"أساء استغلال السلطة\"، وهي التهمة التي يلصقها كثير من الباكستانيين بالرئيس نفسه. لكن \"شودري\" الذي أقيل في خطوة مفاجئة، عرف عنه تحريكه لقضايا المختطفين من المتشددين الإسلاميين، فضلاً عن نشطاء حقوق الإنسان الذين اختفوا في ظروف غامضة. \r\n ويبقى الأهم من ذلك بالنسبة للعديد من الباكستانيين هو تعبير \"شودري\" عن رأيه بخصوص سعي برويز مشرف لترشيح نفسه لولاية جديدة مع الاحتفاظ بمنصبه العسكري، حيث اعتبر أن ذلك منافٍ للدستور. وقد صرح، إضافة إلى ذلك، بالقول إنه سيعالج الموضوع حالما يعرض أمامه من دون الخروج على مقتضيات الدستور الباكستاني. وبالطبع شكلت هذه التهديدات العلنية لاستمرار الحكم العسكري في باكستان ناقوس خطر يتعين التعامل معه بسرعة. ويوضح هذا الأمر \"سليج هاريسون\" الذي يقول: \"إن المؤسسة العسكرية أصبحت منخرطة في مجموعة من الأعمال في البلاد، ومن مصلحتها الاستمرار في السلطة\". وحتى الآن لم يصدر عن واشنطن موقف حازم حيال التطورات في باكستان، عدا تعبيرها عن القلق إزاء ما يحدث من صدامات مع إعادة التأكيد على دعمها لحليفها برويز مشرف. \r\n لكن بعض الشروخ بدأت تظهر في الصورة الخارجية للعلاقات بين البلدين، وتبدّت بوضوح خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني إلى باكستان ولقائه المفاجئ بالرئيس برويز مشرف، حيث حذره من أنه قد يخسر الدعم الأميركي إذا لم يتخذ خطوات حازمة ضد \"القاعدة\" و\"طالبان\". كما أن الضغوط على الرئيس الباكستاني بدأت تتبلور داخل الكونجرس الأميركي، حيث يتم حالياً الإعداد لمجموعة من التدابير ترمي إلى وضع شروط أمام استمرار الدعم الأميركي لباكستان. وفي هذا الإطار تقدم نواب مجلس الشيوخ \"الديمقراطيون\"، مثل \"جون كيري\" و\"جوزيف بايدن\" بالإضافة إلى \"كريستوفر دود\"، بمشروع قرار يدعو إلى ربط المساعدات العسكرية الأميركية إلى باكستان بالخطوات العملية التي تبذلها البلاد للقضاء على تنظيم \"القاعدة\" في البلاد. وتتوجس المؤسسة العسكرية الباكستانية خصوصاً من أي مساس بالمساعدات العسكرية الأميركية، لاسيما في ظل ما كشفته دراسة أعدها أحد المراكز في واشنطن تشير إلى أن الدعم العسكري الأميركي لباكستان ارتفع من 10 ملايين دولار خلال السنوات الثلاث التي سبقت هجمات 11 سبتمبر إلى 4 مليارات دولار خلال السنوات الثلاث التي أعقبتها. \r\n ورغم جهود السلطات الأمنية الباكستانية لملاحقة عناصر \"القاعدة\" في المناطق القبلية وقيام الحكومة بتوقيع اتفاق مع القبائل النافذة لمنع إيواء الإرهابيين، إلا أن بعض المنتقدين لهذه المقاربة يرون أنها تعكس إلى حد ما العلاقات الوثيقة بين الاستخبارات الباكستانية والإسلاميين المتشددين، بل يرى البعض أنها تعكس العلاقة الملتبسة بين برويز مشرف والقوى الإسلامية ذاتها. ويعتبر مراقبون آخرون أن الموضوع الإيراني يرخي بظلاله أيضاً على العلاقة الأميركية الباكستانية، بحيث لا ترغب واشنطن في خسارة برويز مشرف في الوقت الذي تحتاج فيه إلى حليف قوي لمواجهة إيران. \r\n \r\n هوارد لافرانشي \r\n عضو هيئة تحرير \"كريستيان ساينس مونيتور\" \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"كريستيان ساينس مونيتور\" \r\n