\r\n \r\n \r\n وقبل ما يقارب الأربع سنوات من الآن، كانت أعمال السرقة والنهب قد عمت متحف العراق، بينما أضرمت النيران في سجل العراق الوطني، لتصل ألسنتها المخربة، حتى إلى مكتبة القرآن في وزارة الأوقاف الدينية، بعد مدة وجيزة من تلك الأحداث. وبالنتيجة فقد التهمت النيران الآلاف من الكتب والوثائق القيّمة النادرة التي لا تقدر بثمن، إلى جانب عدد كبير من الرسائل والكتب الرسمية التي تعود إلى العهد العثماني، وغيره من بلاطات الحكم العربية. وبالتالي فقد تبخرت سجلات آلاف من السنوات بين سحب الدخان المدمر الكثيف. \r\n واليوم ها قد جاء الدور على شارع المتنبي! وكان هذا الشارع ذات يوم، أحد أكبر وأهم أسواق وساحات الثقافة والمعرفة، حيث تعرض في مكتباته المختلفة، جميع الكتب تقريباً، قديمها وحديثها، في مجالات العلوم والطب والهندسة والقانون والدين والأدب. وعلى رغم العثرات التي مر بها في أيام بغداد التي مزقتها الحروب في السنوات الماضية، وعلى رغم توقف تدفق الكتب والمجلات والدوريات الأجنبية إليه، خلال الفترة نفسها، فإنه واصل دوره ومسيرته التثقيفية. وبسبب الفقر الذي يعيشه العراقيون اليوم، فكثيراً ما لجأت الأسر لبيع كتب نادرة قيمة يعود عمرها إلى عدة قرون خلت للزوار الأجانب، الذين يلتقطون عدداً منها باللغتين العربية والفارسية، مقابل أبخس الأثمان. وكثيراً ما تردد هؤلاء الزوار، على مقهى \"الشاهبندر\" القريب من المكتبات، وهو المكان الذي يتردد إليه المثقفون والمفكرون العراقيون، وقد جرى استهدافه وتدميره هو الآخر، في هجوم الاثنين الماضي. \r\n وغني عن القول إنه ليس ثمة مصلحة يجنيها المسلمون السُّنة أو الشيعة العاديون، من هذا العمل التخريبي المهووس، الذي حرم العراقيين والعالم العربي كله، كنزاً مهماً من كنوزه الثقافية الأثرية. ذلك أنه لم يستهدف طائفة دينية أو عرقية بعينها، وإنما استهدف حرية الفكر العراقي بحد ذاتها. وكان واضحاً أن تلك الفوهة البالغ قطرها 20 قدماً التي خلفها الهجوم على المكان، إنما استهدفت في الأساس، الشرائح المتعلمة والمثقفة والمفكرة من العراقيين. وكما نعلم، فقد كانت الكتب والمكتبات، ضحية لأعمال التخريب والنهب والحرق على امتداد القرون، بدءاً بذلك الحريق الكبير الذي تعرضت له مكتبة الإسكندرية العظيمة، مروراً بمحارق الكتب الشهيرة التي شهدها القرن الخامس عشر، وصولاً إلى شبيهاتها المعاصرة، على أيام \"ماو تسي تونج\"، و\"بول بوت\" وحركة \"طالبان\" الأفغانية أيام حكمها الظلامي. ولذلك فليس من عجب أن يدرك الإرهابيون الذين يواصلون معاركهم وقتالهم من أجل إحكام قبضتهم وسيطرتهم على العراق اليوم، أن حرية الفكر والتعبير، هي أعدى أعدائهم في هذه المعركة على الإطلاق. وإن لم يكن الأمر كذلك، فلم يقدم أحدهم على تفجير نفسه، لا لشيء آخر، سوى تخريب آلاف الكتب والمخطوطات والوثائق التاريخية النادرة؟ \r\n والآن وقد تحولت هذه الكتب والمخطوطات إلى كتلة من الرماد، فما الذي يمكن عمله إزاء ما حدث؟ ربما يخطر على بال المرء سؤال عما إذا كان على العراقيين الإسراع بإعادة بناء شارع المتنبي، وإن كان ذلك من قبيل رد السهم الإرهابي إلى نحور من أطلقوه رمزياً على الأقل؟ وكما كتب الشاعر الإنجليزي \"جون ميلتون\"، في عصر آخر مضى من عصور الرقابة الدينية السياسية على الفكر \"فإن من يدمر كتاباً ثميناً، إنما يدمر العقل نفسه\". وربما حان دور المثقفين البغداديين، لأن يبرهنوا لأعداء الفكر، أنه ليس في الإمكان محاربة العقل وتدميره. وعلى رغم أن الكتب والمخطوطات، ربما تبدو غريبة في ساحات النزاع الدموي الذي تعيشه المدن العراقية في هذه السنوات التي أعقبت الحرب، غرابة معزوفة كلاسيكية لبتهوفن، أو أثر تشكيلي جمالي لأحد المصورين الكلاسيكيين، إلا أن هذه الكتب التي تم حرقها وتدميرها في شارع المتنبي المذكور، تبرهن على عمق ثقافة العراقيين، وتعطش فضولهم المعرفي. على أن الذي حدث لتلك الكتب والمخطوطات الأثيرة، إنما يخدش شغاف قلوب كل عشاق الكتب والمعرفة، على امتداد العالم بأسره. \r\n \r\n محررة التقرير النهائي للجنة حقوق الإنسان، وطالبة دكتوراه في الأدب المقارن \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\" \r\n