والآن, عليك ان تتصور اولئك العسكريين انفسهم وقد استحوذ عليهم التعصب الفكري والفئوي يرسخون اقدامهم في السلطة على مدى سنوات وهم على اتم الاستعداد لاستئصال آخر خصم ايديولوجي. ذلك هو ما حدث في تشيلي. \r\n \r\n انتهت المغامرة الاشتراكية التي قادها سلفادور ألليندي نهاية مأساوية طبق المجلس العسكري »الجونتا« بزعامة الجنرال أوغستو بينوشيه سياسة »الرأسمالية الوحشية« وهو الاسم الذي اطلق على التجربة النيوليبرالية التي جاءوا بها. لكنهم رفضوا الاعتراف بأن هذه الليبرالية الجديدة كي تأخذ مسارها الطبيعي تحتاج الى قوة عاملة تمتلك حرية ممارسة حقوقها لكنها استخدمت انواعا قاسية من القمع لتدمير آخر بذرة من بذور الفكر اليساري وغرس بذور الرأسمالية التي لا قلب لها. ولم تكن تشيلي بالحالة المعزولة, فقد خيم ليل الدكتاتوريات الطويل على القارة لما يزيد على عقد من السنين. فقد كان نصف مواطني امريكا اللاتينية في عام 1975 يرزحون تحت هذا النوع او ذاك من الحكومات القمعية التي كانت غالبيتها مدعومة من قبل الولاياتالمتحدة. \r\n \r\n من لم يقتل من افراد اسرة ألليندي زج به في السجن او اضطر الى الاختفاء او مغادرة البلاد. كان اخواني خارج البلاد ولم يعودوا اليها. وبقي والداي اللذان كانا في السفارة التشيلية في الارجنتين هناك لفترة من الوقت, لحين تلقيهما تهديدات بالقتل الامر الذي اضطرهما الى الهرب. من جانب آخر, كانت غالبية اعضاء اسرة والدتي من المعارضين »للجبهة الوطنية« وقد رفع الكثيرون منهم كؤوس الشمبانيا تحية للانقلاب العسكري. \r\n \r\n كان جدي يبغض الاشتراكية وقد انتظر بنفاد صبر نهاية حكومة ألليندي, لكن لم يرغب ابدا في ان يتم ذلك على حساب الديمقراطية. وقد اصابه الهلع لرؤية السلطة تنتقل الى ايدي العسكريين الذين كان يحتقرهم, وقد امرني بأن لا اورط نفسي الا انه كان من المستحيل عليّ ان اظل خارج الاحداث. لقد امضى ذلك الشيخ الرائع الشهور وهو يراقبني ويخضعني لاستجوابات ماكرة. اعتقد انه كان يظن بأن حفيدته سوف تختفي في اية لحظة. \r\n \r\n ترى ما مدى احاطته بما كان يدور من حوله? كان يعيش حياة منعزلة, ولم يكن يخرج من البيت, وكان اتصاله مع الواقع يتم عن طريق الصحافة التي كانت تخفي الحقائق وتكذب بشكل مفضوح. ولعلي كنت الشخص الوحيد الذي ينقل اليه الوجه الآخر للصورة. \r\n \r\n حاولت, في البداية, ان أبقيه على اطلاع على ما يجري لانني من خلال عملي كصحافية كنت على اتصال بالشبكة السرية التي حلت محل مصادر المعلومات الجدية في تلك الفترة, لكنني في النهاية, توقفت عن حمل الاخبار السيئة اليه لانني لم اكن ارغب في اثارة فزعه او كآبته. \r\n \r\n اخذ الاصدقاء والمعارف بالاختفاء. كان البعض منهم يعود بعد اسابيع من الغياب وقد سكنت في عينيه نظرات مجنونة وبدت على جسده آثار التعذيب. وقد التجأ الكثيرون الى دول اخرى. في البداية كانت المكسيك والمانيا وفرنسا وكندا واسبانيا ودول اخرى تقبلهم لديها, لكنها, اضطرت الى الكف عن ذلك لان الآلاف من مواطني دول امريكا اللاتينية الاخرى اضيفوا الى موجات التشيليين في المنافي. \r\n \r\n في تشيلي, حيث تحتل الاسرة والصداقة مكانة مهمة جدا, حدث شيء لا يمكن تفسيره الا بكونه التأثير الذي يتركه الخوف على روح المجتمع. قضت الخيانة والتنكر للمعارف والاقارب على ارواح الكثيرين وكان كل ما يتطلبه ذلك هو صوت مجهول يتصل عبر الهاتف بدوائر الامن سيئة الصيت ويحمل العاملين في تلك الدوائر الى غرز مخالبهم في اجساد المبلغين عنهم الذين كانت اخبارهم تنقطع نهائيا في حالات عديدة. \r\n \r\n انقسم الناس بين مؤيد للحكومة العسكرية ومعارض لها وسممت مشاعر الحقد والخوف وانعدام الثقة العلاقات بين الناس. وقد تمت استعادة الديمقراطية بعد عقد من السنين, لكن ذلك الانقسام ما يزال محسوسا حتى بين افراد الاسرة الواحدة. \r\n \r\n كان من المحتم ان تسلط الاضواء على الجرائم التي ارتكبت في السر في تلك السنوات, كان الكشف عن الحقيقة اول خطوات المصالحة, رغم ان الجراح تحتاج الى وقت طويل كي تندمل لان المسؤولين عن القمع لم يعترفوا بذنبهم فهم بالتالي ليسوا في موضع تلقي السماح. لن يكن هناك عقاب للعسكريين على افعالهم. لكن لم يعد من الممكن تجاهل تلك الافعال او اخفاؤها. يعتقد كثيرون, خصوصا في صفوف الشباب الذين نشأوا في غياب الحوار السياسي او الذين انتزعت منهم روح الانتقاد, اننا يجب ان نتوقف عن نبش الماضي, وان نتطلع الى المستقبل. لكن الضحايا واسرهم لا يمكنهم النسيان. ولعلنا سنحتاج الى الانتظار لحين وفاة آخر شاهد على تلك الايام قبل ان نتمكن من طي ذلك الفصل من تاريخنا. \r\n \r\n بحلول عام ,1980 لم اعد في تشيلي. لقد مكثت برهة في البلاد, لكني غادرت عندما احسست بالقمع يطبق حول رقبتي مثل انشوطة. راقبت التغير وهو يصيب البلاد والناس. حاولت ان اتكيف وان لا الفت اليّ الانظار, تماما كما طلب مني جدي, لكن ذلك كان مستحيلا لانني كنت اعرف الكثير من خلال مهنتي كصحافية. في البداية, كان خوفي غامضا ومستعصيا على التعريف: مثل رائحة نتنة. كنت اكذب الاشاعات الرهيبة بحجة عدم وجود الادلة, وعندما تقدم لي الادلة كنت اقول بان تلك حالات استثنائية. وكنت احسبني في امان لاني لم اكن »متورطة« في السياسة بمعنى اخفاء المطلوبين الهاربين في بيتي او مساعدتهم في الوصول الى السفارات طلبا للجوء. \r\n \r\n وكنت اقول لنفسي انني, في حال اعتقالي, سأنسب هذه الافعال الى دوافع انسانية. ولكن يبدو انني كنت واهمة, فقد غمر الطفح جسدي من رأسي الى قدمي, ولم اعد استطيع النوم, وكان صوت مرور سيارة في الشارع كافيا لجعلي ارتعد على مدى ساعات, استغرق مني الامر عاما ونصف العام قبل ان ادرك ابعاد الخطر الذي كنت فيه, واخيرا, وبعد اسبوع حافل بالمجازفات في عام ,1975 غادرت الى فنزويلا ومعي حفنة من التراب التشيلي اخذتها من حديقتي. \r\n \r\n بعد ذلك بشهر التحق بي في كاراكاس كل من زوجي وابنائي. وكان علي ان اعاني من الالم الذي عانى منه الكثير من التشيليين الذين غادروا بلادهم في تلك الفترة. فقد كنت اشعر بالذنب لهجراني لبلدي, ولطالما سألت نفسي الاف المرات ما الذي كان يمكن ان يحصل لي لو انني مكثت كما مكث الكثيرون ممن حاربوا الدكتاتورية من الداخل حتى تمت الاطاحة بها عام 1989 . ما من احد يملك الاجابة على هذا السؤال, لكن ثمة امر اعرفه على وجه اليقين وهو انني ما كنت لاكون كاتبة لولا تجربتي للمنفى. \r\n \r\n السؤال الصعب هو لماذا ساند ثلث الشعب التشيلي, على الاقل, الدكتاتورية رغم ان الحياة في ظلها لم تكن هينة على الاغلبية وقد لازم الخوف حياة تلك الاغلبية بمن فيهم انصار الحكومة العسكرية لقد كان القمع متفشيا على نطاق واسع رغم ان الفقراء واليساريين كانوا الاكثر تضررا منه, كان الجميع يشعرون بانهم مراقبون وما كان بوسع احد القول انه كان في مأمن تام من مخالب الدولة. صحيح ان الرقابة كانت مفروضة على المعلومات وعمليات غسل الدماغ توظف الة الدعاية القوية, وصحيح ايضا ان المعارضة فقدت سنوات عديدة ودماء كثيرة قبل ان تعيد تنظيم نفسها. لكن ايا من هذا لا يبرر الشعبية التي حظي بها الدكتاتور. \r\n \r\n لم تكن تلك النسبة من السكان الذين كانوا راضين عنه مدفوعة بالخوف: فالتشيليون يحبون السلطة. وكانوا يعتقدون بان العسكر سوف »ينظفون« البلاد. قالت لي احدى صديقاتي:»لقد قضوا على النزق. لم يعد احد يمارس الكتابة على الجدران. وكل شيء من حولنا صار نظيفا. وبفضل حظر التجول صار ازواجنا يعودون الى الدار مبكرين«. \r\n \r\n استطيع ان افهم السبب الذي جعل اليمين السياسي, الذي لم يعرف عنه تاريخيا انه مساند للديمقراطية والذي جنى من المال في تلك الفترة اكثر مما جناه في اية فترة اخرى, يدعم الدكتاتورية. ولكن ماذا عن الباقين? الحق انني لم اعثر على اجابة مقنعة وكل ما توصلت اليه كان تكهنات. لقد مثل بينوشيه الاب الحازم القادر على فرض النظام الصارم. كانت السنوات الثلاث من حكم »الجبهة الوطنية« قد شهدت الكثير من التجريب والتغيير والاضطراب, وقد احست البلاد بالانهاك. لقد وضع القمع نهاية للتسييس, وارغمت النيوليبرالية التشيليين على العمل, واغلاق افواههم, والانصراف الى الانتاج كي تتمكن الشركات من التنافس في الاسواق العالمية. وقد تمت خصخصة كل شيء تقريبا بما في ذلك قطاعات الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي. ودفعت الحاجة الى البقاء الافراد الى اعتماد المبادرات الخاصة. \r\n \r\n واليوم لا تصدر تشيلي كميات من سمك السالمون تفوق ما تصدره الاسكا فحسب, انما تصدر ايضا مئات البضائع غير التقليدية. وقد اثنت الصحافة الامريكية على نظام بينوشيه الاقتصادي ونسبت اليه فضل تحويل البلد الفقير الى نجمة في سماء امريكا اللاتينية. \r\n \r\n لكن احدا لم يتحدث عن الاختلال الكبير في توزيع الثروة. وليس هناك ذكر للفقر والبؤس اللذين تعانيهما الملايين. فالارقام الاقتصادية التي تنال الثناء من اوساط المال في نيويورك لا تعكس تنمية حقيقية ما دام 10 بالمئة فقط من السكان يملكون 50 بالمئة من ثروة البلاد وما دامت احصائيات البنك الدولي تفيد بان تشيلي الى جانب كينيا وزمبابوي تشكل المثلث الاسوأ توزيعا للثروة. \r\n