\r\n والحقيقة أن أميركا اللاتينية ظلت منذ سنوات طويلة خلت, الساحة الجيوبوليتيكية التي تختبر فيها الولاياتالمتحدة سياساتها الخارجية, سواء كانت الحروب التي خاضتها ولا تزال ضد الشيوعية, أم حربها على المخدرات والإرهاب, قبل أن تدفع بالسياسات ذاتها إلى الساحة الدولية الأوسع نطاقاً. ولكي نكون أكثر دقة وتحديداً, فقد دأبت أميركا على الإشارة إلى شخصيات أميركية لاتينية بعينها –من أمثال الزعيم الكوبي فيدل كاسترو, ونظيره النيكاراجوي دانييل أورتيجا- على أنهما المصدر الرئيسي لمشكلات القارة وآلامها. \r\n \r\n واليوم فقد تصدر الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز قائمة \"الأشرار اللاتينيين\". وتكيل واشنطن لهذا الأخير الاتهامات سواء ما تعلق منها بغزله المكشوف مع كل من بيونج يانج وطهران, أم المساعدات الاقتصادية السخية التي يقدمها للنظام الشيوعي الكوبي, أم ما تعلق منها بسعيه إلى تصدير ثورته البوليفارية المدعومة بالنفط إلى المنطقة بأسرها. وبسبب هذه الممارسات فقد أثار شافيز مخاوف مسؤولي واشنطن مما يمكن أن يحدث في القارة اللاتينية, فيما لو انفرط زمام الدول اللاتينية الخاضعة لها, وشقت عصا طاعتها التقليدية لها. تعبيراً عن هذا الخوف قال الرئيس بوش الأسبوع الماضي في معرض وصفه لشافيز: إنني أرى فيه مهدداً حقيقياً للديمقراطية وحاملاً لبذرة تقويضها في المنطقة. ليس ذلك فحسب, بل حثت القيادة العسكرية الجنوبية في ميامي وزارة الدفاع الأميركية على اعتبار شافيز من الخطر بمستوى يبرر التخطيط للحرب ضده. ومن جانبهم صرح أعضاء في الكونجرس متسائلين عما ستفعله واشنطن فيما لو قطعت فنزويلا إمداداتها النفطية عن الولاياتالمتحدة؟ أما مكتب مكافحة الإرهاب التابع للخارجية الأميركية, فيعكف الآن على دراسة وتقدير ما إذا كانت فنزويلا تتهاون إزاء الإرهاب بسبب ما نسب إليها من بيع للتأشيرات في منطقة الشرق الأوسط, إضافة إلى توفيرها ملاذاً آمناً ل\"القوات الثورية المسلحة\" الكولومبية المتمردة. \r\n \r\n ولكن الحقيقة أن هناك قدراً كبيراً من المبالغة والمغالاة في وصف واشنطن لشافيز بكونه رأس الرمح الجديد لإشعال الحرب اللاتينية الباردة, وكونه الوريث الشرعي للزعيم الكوبي فيدل كاسترو. كما تنسحب المغالاة نفسها على اتهامه بالقدرة على دفع المنطقة بأسرها باتجاه اليسارية والتطرف المعاديين لأميركا. وإنه لمن أسف أنه لم يحدث أي تغيير على الوجوه والملامح ذاتها التي ظلت ترسم سياسات واشنطن إزاء القارة اللاتينية منذ حقبة الحرب الباردة. والمعروف أن تسيير الشؤون اليومية لسياسات إدارة بوش الخارجية إزاء القارة اللاتينية قد أوكل بكامله لمسؤولين سابقين من أمثال السناتور جيسي هلمز مهندس حرب الكونترا في نيكاراجوا في عقد الثمانينيات, وغيره من المسؤولين الذين دعوا وقتئذ إلى الحصول على \"رأس كاسترو\" بأي ثمن كان! \r\n \r\n والمؤسف أن هؤلاء لا يزالون يعتمدون على روح ومفاهيم الحرب الباردة نفسها, في محاولة فهمهم لواقع أميركا اللاتينية الحالي. والغريب في الأمر أن ينسى هؤلاء أن \"دفتر العناوين\" الخاص بهذه القارة قد طرأ عليه تغيير كبير عبر الحقب والعصور المختلفة. فمن ضمن التحولات الجوهرية التي شهدتها القارة, عودة الجيوش والقوات المسلحة إلى ثكناتها, وانتشار صناديق الاقتراع والنظام الانتخابي فيها, فضلاً عن وصول النساء اللاتينيات والقادة المحليين وزعماء حروب العصابات السابقين فيها إلى السلطة عن طريق التصويت وصناديق الاقتراع. وبسبب كل هذه التغيرات, فلا شيء في القارة يشبه اليوم ما كانت عليه إبان الحرب الباردة. ولسوف تتنفس واشنطن الصعداء فيما لو عاد \"أورتيجا\" قائد \"الساندستا\" السابق إلى السلطة مجدداً عبر الانتخابات في نيكاراجوا التي ستعقد هذا العام, في وقت يردد فيه شافيز خطابيته ونبرته المعادية للإمبريالية على غرار رفيقه الكوبي كاسترو. \r\n \r\n والشاهد أن الجيل الحالي من القادة اللاتينيين الذين تسلموا زمام السلطة والرئاسة في بلادهم – بمن فيهم ميشيل بشاليه الشيلي, والأرجنتيني نستور كريشنر, ولويز إناشيو دا سيلفا البرازيلي, وإيفو موراليس البوليفي, وتاباري فازكيتش في أورجواي, ومانويل زيلايا الهندوراسي- لا يعكسون رغبات واشنطن ولا كوابيسها ومخاوفها, بقدر ما يعكسون الواقع التاريخي العرقي والاجتماعي لبلدانهم. ويسعى هؤلاء القادة جميعاً للتصدي لمشكلات الفقر المزمن, والفوارق الهائلة في الدخل الاقتصادي, وتفشي الجريمة المريع. فتلك هي جذور وجوهر الاستقطاب السياسي الحاد الذي تمر به تلك البلدان. وتلك هي أسباب اتجاه غالبية دول القارة نحو الثورية والحركات الشعبوية, في مواجهة ضغوط العولمة ورياح التغيير السياسي التي تهب عليها داخلياً وخارجياً. \r\n \r\n والمؤسف أن هذا التنوع الفكري الهائل الذي تتسم به القارة, لا يرقى إليه من قريب أو بعيد مستوى الفكر الرسمي المصاغ في دهاليز وأروقة الإدارة في واشنطن. ولهذا السبب فإنه لم يحدث لواشنطن أن أثارت السؤال الجوهري والأكثر أهمية فيما يتعلق برسم سياساتها الخاصة بالقارة: لماذا يختار الناخبون ألوان طيف من القادة اليساريين رؤساءً وزعماءً لبلدانهم؟ ثم يرتبط بهذا سؤال آخر ملح: كيف لواشنطن أن تدير علاقاتها مع فنزويلا وشافيز, بعيداً عن دائرة النفط والمهددات الأمنية وخشبة المسرح السياسي؟ ومن عينة الأسئلة ذاتها: لماذا تفشل دول القارة في صياغة \"عقدها الاجتماعي \"الخاص بها, بما يساعد في إنشاء الوظائف وتوفير الأمن الاجتماعي وتجنيب أبناء القارة وبناتها شر الهجرة شمالاً إلى أميركا؟ \r\n جوليا إي. سويج \r\n \r\n رئيسة قسم \"دراسات أميركا اللاتينية\" ب\"مجلس العلاقات الخارجية\" الأميركي \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\" \r\n \r\n