\r\n وفي الاسبوع الماضي كان الدور على ذلك الواعظ الاخلاقي العام المحافظ، وليام بينيت "مقدم البرنامج الإذاعي الشهير: الصباح في امريكا". كان ينبغي عليه أن يكون أكثر تعقلا من اطلاق فرضية في برنامجه الاذاعي، يعلن فيها اننا "اذا كنا نريد خفض الجريمة، فإن علينا أن نسقط بالإجهاض كل جنين اسود في هذه البلاد، وعندئذ سينخفض معدل الجريمة"، والعديد من الامريكيين لا يعتبرون تلك فرضية بل خطة تنتظر التنفيذ.\r\n بطبيعة الحال ذلك ما قاله بينيت فعلا، وكان ينبغي عليه أن يكون أكثر تعقلا، لأن الامريكيين في الغالب لا يفهمون الفرضيات، أكثر مما يشعرون بالارتياح إزاء المفارقة. وخاصة ان الناس في عصر الانترنت، اصبح فهم الكلام بحرفيته عندهم هو الموضة السائدة، لذلك فإنه لا فائدة في الشروط التي أضافها بينيت الى فرضيته، حين قال: "ان ذلك سيكون مستحيلا وسخيفا، وشيئا يستحق فاعله التوبيخ على الصعيد الأخلاقي". \r\n وتكمن المفارقة الأعمق هنا في أن الليبراليين قد تأملوا بصورة اطول وأعمق مما فعل المحافظون كيفية التطبيق الدقيق والمحدد لخطة بينيت الافتراضية، سواء عن طريق التعقيم او منع الحمل الاجباري. \r\n وكان علم تحسين النسل والحيلولة دون ولادة اطفال غير جديرين على الصعيد الاجتماعي من الموضوعات الساخنة بين المطهرين الاجتماعيين في امريكا، وذلك قبل أن يجعل هتلر ورفاقه النازيون هذا الموضوع موضة قديمة، (وهم الذين كانوا يقولون انهم قد تعلموا الكثير من قوانين التعقيم الامريكية والقيود المفروضة على الهجرة في امريكا). \r\n ولم يكن اشد دعاة التطهير العرقي الاجتماعي هؤلاء تعصباً لم يكونوا من الدجالين الجنوبيين بل من الليبراليين الشماليين. وكان من بين رواد قوانين التعقيم، ولاية لافوليت في شمال وسط الولاياتالمتحدة ويسكونسن، وولاية وود رو ويلسون على الساحل الشرقي نيوجيرسي. \r\n وفي شتى انحاء البلاد، وبعدها قادت انديانا الركب فكانت السباقة في هذا السبيل في عام ،1909 كان من اعظم المتحمسين لقوانين التعقيم من أجل تحسين النسل وأشرس من رفع هذا النهج ودفع به قدما ساسة تقدميون وخبراء طبيون والجماعات النسائية الارستقراطية. وفي اوساط الثلاثينات من القرن الماضي اشهر بيب جريفس حاكم الاباما سيف الفيتو معترضا على تشريع للتعقيم كان المجلس التشريعي في الولاية قد مرره بحماس بالغ. واستند جريفس الذي كان مناصرا لقضايا الشعب في اعتراضه واستشهد "بالمخاطر المهددة للحقوق الشخصية للأفراد". \r\n كان الدافع الاكبر وراء حمى التعقيم وقوانينه الذعر المالتوسي الذي أشاعته نظرية توماس روبرت مالتوس (اقتصادي بريطاني أدت نظريته المتعلقة بالنمو السكاني الى نشوء مخاوف من ان ينجم عن التزايد في عدد السكان مجاعة تنتشر على نطاق واسع) فارتاع الاثرياء من شبح ان يتناسل الفقراء بمعدلات اسرع من معدلات الإنجاب لدى الأغنياء او الفئات الاعلى ذكاء. وكان عالم الأحياء الألمعي الذي يحظى بمكانة مرموقة جاريت هاردن قد قال في كتابه الذي نشر عام 1949 بعنوان "علم الأحياء" وكان يخوض في مسألة المضامين الانسانية كموضوع التعقيم بغرض تحسين النسل "إنه اما ان يكون ثمة تخلص غير مؤلم من العناصر الضارة قبل الولادة، او ان يكون هناك استئصال للأفراد اكبر وأوسع هدرا وأشد إيلاما بعد مولدهم.. فهل إذا أهملنا برامج تحسين النسل سيكون إنجاب الاطفال غير انتقائي؟". وبحلول عام 1968 لاقت هذه النزعة رواجاً جديداً إذ انصرف عالم الجراثيم والمناعة الألماني بول ايرلك الحائز جائزة نوبل الى حث الحكومات على تقليص برامج "الحد من الوفيات" وذلك في مؤلفه "القنبلة السكانية"، وكان ايرلك يعني بذلك خفض ميزانيات الصحة العامة. وجاء نيكسون فخفض المزايا الصحية وضخ اموالها الى برامج تحديد النسل للسيطرة على التزايد السكاني. \r\n ويقول آلان تشيس في كتابه "تركة مالتوس" ان 63678 ألف شخص قد جرى تعقيمهم قسراً فيما بين عامي 1907 و1964 في امريكا في الولايات الثلاثين والمستعمرة الوحيدة التي سنت مثل هذه القوانين. لكن كان هناك في الحقيقة مئات الآلاف من عمليات التعقيم الاخرى التي كانت طوعية في الظاهر غير انها قسرية جرت عنوة في واقع الحال. واقتبس تشيس من القاضي الفيدرالي جيرهارد جيل قوله في عام 1974 في خضم قضية ترافعت فيها المحاكم لمصلحة ضحايا التعقيم القسري للفقراء: "على مدى السنوات القليلة الماضية قامت الدولة والهيئات والوكالات الفيدرالية بتعقيم ما بين مائة الى مائة وخمسين الف شخص سنويا من متدني الدخل الفقراء". \r\n ويماثل هذا المعدل ذاك الذي وصلت اليه ألمانيا النازية. \r\n وقال جيل: "ثمة عدد غير محدد من الفقراء الذين أكرهوا بصورة غير لائقة على قبول عملية تعقيم تحت التهديد بسحب جميع مزايا الرفاه المدعومة فيدراليا ما لم يستسلموا للتعقيم الذي لا رجعة فيه ولا يمكن تدارك آثاره. ومن الجلي الذي لا يمكن دحضه أن المرضى الذين يتلقون عوناً طبياً عند ولادتهم سيكونون هم الجهة الأكثر استهدافاً في عملية الضغط هذه". \r\n وتكهن تشيس، الذي ظل يكتب الى نهاية حقبة السبعينات بأن ما لا يقل عن 200 امريكي سنويا كانوا ضحايا التعقيم الاجباري الذي لا يمكن عكس مساره. \r\n وفي اواسط حقبة التسعينات ازدهرت على ايدي الليبراليين الفرضية الاساسية ذاتها التي كان بينيت يعتنقها ويروج لها. قالوا يومها ان ثمة دائرة من الفقر والاعتماد على الرعاية والرفاه الاجتماعي تشكل البيئة الخصبة للجريمة. وفي عام 1994 منعت اريزونا ونبراسكا الزيادات في ضمانات الرفاه الاجتماعي وحرمت منها متلقيها ممن لديهم زيادة في المواليد ما داموا يحصلون على الاعانة الحكومية. وفي العام نفسه رصدت ولاية كونيكتيكت ميزانية لدراسة حثيثة لسن تشريع يمنح مزايا دعم اضافية للأمهات اللواتي يحظين بخدمات الانعاش الاجتماعي واللواتي يقبلن الخضوع لعملية زرع لمنع الحمل (والتي كانت تسمى نوربلانت). \r\n ورغم ان دعاة تحسين النسل وفق هذه المفاهيم العرقية تجنبوا استخدام الفاظ عنصرية محددة وفضلوا مفردات مثل "ضعاف العقول" و"المعاتيه البله". (وهي عبارة يحبذها داعية التعقيم المتحمس القاضي اوليفر ويندل هومز الذي يحظى بإعجاب كبير لدى الليبراليين) فإن الطرف المستهدف عموما انما كان السود، زنوج امريكا. كما ان ما لم يستطع التعقيم منعه سعى وتكفل بتحقيقه الحجر الطبي والعزل الصحي والاحتجاز المبرر طبياً. \r\n ولم يكن بيل بينيت يعرف شيئا عن النصف الآخر لهذا الأمر، لقد كان متخلفا عن المنحنى بنحو قرن من الزمان. \r\n \r\n * كاتب صحافي ومحلل سياسي يترأس تحرير موقع "الكاونتر بانش" \r\n