وأما المستفيدون المباشرون من العولمة السالبة هي فهم الرساميل المصرفية والصناعية، وأسواق السلع، ومافيات الجريمة، والارهاب، الخ... \r\n \r\n وأفلحت العولمة السالبة في نصب المعيار «الاقتصادي» (أي الربحية) معياراً أوحد في ميزان «المعنى» والفهم. فصار «الاقتصادي» مرادفاً لل «موضوعي». فقلص المعيار هذا مدة صلاحية المعارف (أو متوسط حظها من العمر) والاعمال والمساعدات، وفاقم التبديد والنفقات غير المجدية، وتدخل في هذا الباب حيوات البشر المضيعة والخائبة. \r\n \r\n ولعل صفحية العولمة الاولى هي سلطة الدولة – الأمة. فسيادة الدولة – الأمة السياسية تألفت من السيادات أو الولايات الاقتصادية والعسكرية والثقافية، ومن اجتماعها وتضافرها. وأركان المثلث هذا تصدعت وانهارت. فتبخرت السلطة في رأس هرم الدولة – الأمة، ودخلت تحت باب الامتيازات الاجنبية التي لا تتطاول اليها وسائل الدولة – الامة وادواتها المادية والحقوقية، وهي (الوسائل والادوات) صممت في سبيل بلوغ غايات محلية. وعلى هذا، تعاظمت «شعبوية السوق»، وحملت السوق على وسيلة الديموقراطية المتبقية الاخيرة. وحل اختيار الافراد المذررين (ذرات) والمتنافسين محل الرأي والصوت الجماعيين. \r\n \r\n والسؤال هو ما العمل لأجل اعلاء السياسة ورفعها الى مستوى السلطة الفعلية. وسبق لأجدادنا (الاوروبيين) ان انجزوا صنيعاً مثل هذا حين انتشلوا السياسة من مستواها المحلي الى مستوى أعرض وأشمل هو مستوى الدولة – الامة. والحق ان الدول الحديثة لم تصنعها الجماعات البلدية والمحلية ولا دول الولايات، فالدول ظهرت واستتب أمرها على رغم الجماعات والولايات، وعلى انقاضها. ويتوقع ان تباين هيئات الضبط والمراقبة الديموقراطية، على صعيد العالم، الهيئات التي نعرفها وتتوسل بها الدول الحديثة، على قدر مباينة هيئات دولنا تلك التي سبقتها وترعرت في كنف المدينة اليونانية. \r\n \r\n ومحال، والحق يقال، ان يتمتع حلف الحريات الفردية والحريات السياسية (الحرية بازاء الدولة والحرية في الدولة، او الحريات السالبة والموجبة، بحسب ايزياه برلين) بالمناعة، وبالقوة على حماية واشتراك كثرة المواطنين فيه، اذا لم تحصنه حقوق اجتماعية تتولى الدولة ضمانتها، وتكون وسيط هذه الضمانة. وتثبيت الضمانة من طريق الدولة، وليس من طريق اصحاب العمل والشركات الخاصة، يطمئن وحده الاشخاص العاملين الى قوة رابطتهم بالحاضر، ورسوخهم فيه. والذين لا يطمئنون الى القوة والرسوخ هذين يمتنع عليهم استقبال الآتي بالحزم والجسارة الضرورين واللازمين في زمن سمته الغالبة استشراء القلق جراء آتٍ غير مستقر، وهو مبعث اضطراب مزمن ولا يؤمل شفاء منه. والناس الذين يهجسون بمثل هذا الآتي يستحيل عليهم استعمال مواردهم واستثمارها في قرارات حرة ومستقلة. والاقرار لهم بحريات المعتقدات والتعبير واصطفاء الحياة التي يرتأون، لا يضمن لهم، من تلقائه التصرف بالمكاسب هذه كلها. \r\n \r\n وسبق للمجتمعات الغربية منذ اوائل الثلث الثاني من القرن العشرين، تحت لواء ما عرف بالدولة الاجتماعية (بحسب التسمية البريطانية عن يد ت.ه. مارشال وبيفيردج)، ان اختيرت طبقاتها واحزابها، مجتمعة، الجدوى الاكيدة والضرورية العائدة عليها من العناية الثابتة والكاملة التي يقدمها المجتمع الى العاملين المضطرين موقتاً الى الخروج من دائرة العمل، ولولا هذا الاستثمار لما كان في مستطاع الدولة، وهي المولجة برخاء الامة، الاضطلاع بمهمة التجديد الدائم لرأس المال والعمل. ويخالف هذا نازع أيامنا الى قياس رخاء بلد من البلدان بواسطة كمية المال المنتقل من يد الى يد، وسرعة انتقاله، وليس بواسطة حجم العمالة في المنشآت والشركات (والاستخدام الكلي أو الكامل ألغي من البرنامج الوطني والحكومي). ويذهب الاتجاه الغالب على التفكير الاقتصادي والاداري من الحق في الحماية، وفي «الحقوق الاجتماعية» الثابتة الناجمة عنه، الى جعل الحقوق الاجتماعية مكافأة استحقها من اسهموا في ازدهار البلد الاقتصادي لقاء استحقاقهم وسهمهم. \r\n \r\n ولا شك في ان الحقوق الاجتماعية المتفرقة (تعويضات العناية الصحية وطوارئ العمل والتعليم وتعويضات البطالة ونهاية الخدمة) بلغت مبلغاً من المستحيل معه على دولة واحدة أو على رابطة دول، مهما عظمت مواردها وقوتها، الاضطلاع وحدها بأعباء الحقوق الاجتماعية في المستقبل. ويترتب على هذا أنه من المستحيل كذلك ان تضطلع باعباء الحقوق السياسية والمدنية فأزمة الحقوق الاجتماعية الراهنة هي مشكلة عالمية، وحلول المشكلات العالمية ينبغي ان تكون حلولاً عالمية بدورها. \r\n \r\n فمن غير ضمانات جماعية لن يكون ثمة باعث على الانخراط والالتزام السياسيين، وبالاحرى، باعث على المشاركة في انتخابات هي جزء من عمل وحياة ديموقراطيين. ولن يأتي خلاص من دولة سياسية ليست دولة اجتماعية، وترفض ان تكون دولة اجتماعية، ولعل تنقل الديموقارطية من تحمل تبعات الحقوق الاجتماعية، وآثار هذا التنصل المقلقة في صنفي الحقوق، الفردية والسياسية، علامة على ضعف الجماعة أو الأمة في تجسدها وفي «تخيلها» الحديثيين اللذين ارسياها على هيئات تحميها. ويؤدي الغاء الضوابط والقيود، وتوأمته مع الخصخصة، أي مع نقل عدد متعاظم من الوظائف التي كانت سياسية (أي ديموقراطية) الى خارج الحقل السياسي، وبعيداً من مراقبة وتدبير ديموقراطيين، يؤدي الى الفردانية المفرطة، ومؤدى هذه خسارة شبكات الواجبات والالتزامات والتعاون وهدم جسورها بين الناس، وغلبة الذاتية على المطامح الشخصية والسعي الشخصي. والى هذا كله، والخشية التي يعيشها في النفوس والجماعات، لم تعد القوة حكراً على الدول أو وقفاً عليها. فالى الجيوش النظامية الوطنية، من المتطوعين والمحترفين والملزمين بالخدمة، يعج العالم بالجيوش الخاصة وشركات الأمن الخاصة. ومعقل السلطة الحقيقية ليس الحكومات الوطنية، وحيث تقوم هذه الحكومات ومرافقها فقط. فالسلطة الفعلية تقتسمها وتقايضها وترفضها (معاً) قوى ووكالات متفرقة، عامة وخاصة، تشبك الدوائر الوطنية والاقليمية والدولية بعضها ببعض. ويعود السبب في التردد والتعثر المزمنين اللذين يصبغان مسرح العلاقات الدولية بصبغتهما الى عيبين أو فجوتين: الفجوة الاولى قضائية وعدلية اجرائية، ومصدرها التفاوت بين دائرة القوانين الوطنية وصوغ السياسات على صعيد الدول الوطنية وبين الدائرة العالمية لنتائج المسائل الاقتصادية واصدائها. وينجم عن الفجوة هذه عسر تعيين المسؤولين (والمسؤولية) عن جرائم صعبة التشخيص والتعقب. \r\n \r\n والفجوة الثانية ناجمة عن ضعف الباعث على التصدي الى المسائل الدولية الداهمة، والسعي في حلها حلولاً دائمة، في بيئة تعمها الغموض، ولا تنظم القوانين علاقات الدول، او الهيئات والجماعات غير الحكومية، فيها. وهذا كذلك عرض من اعراض ضعف الدولة – الامة في العالم المعاصر. فهذه، وهي من ألمع منجزات التاريخ الحديث، أفلحت في الغاء التعثر والاضطراب، أو في السيطرة عليهما والتقليل منهما، بواسطة السيادة الاقليمية (الحق في التشريع وفي تعيين دائرة القوانين). ونصت على ان لا اقليم من غير معايير ملزمة، ويقتصر الاقليم الواحد على مجموعة من المعايير الملزمة (...).