غير أن أقاويل بوش تلك يفندها تقرير صدر عن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في يونيو 2005 جاء فيه أن \"العراق أصبح معسكرا أكثر فاعلية من أفغانستان في تدريب المتطرفين الإسلاميين ومدهم بالخبرات الأساسية للقيام بالعمليات العسكرية\". وبالطبع لا يستطيع أحد أن يشكك في صدق نوايا وكالة الاستخبارات المركزية، أو يتهمها بمناهضة أميركا, بمن في ذلك المحافظون الجدد المتصلبون في آرائهم, الذين يستخدمون مثل تلك التهم الجاهزة للرد على من يعارض مواقفهم. والغريب في الأمر أن يتزامن صدور هذا التقرير، الذي يشكك في مجمل السياسية الأميركية المتبعة في العراق وحربها التي قد تجر من الويلات أكثر من المنافع، مع تصريح مناقض لبوش قال فيه: إن سياساتنا في العراق هي بصدد تحقيق النجاح. وفي الأخير سنتمكن من إنهاء مهمتنا وجني الثمار بعدما سيعم السلام ربوع العالم. \r\n وبالرغم من أن هجمات لندن جاءت في توقيت سيئ حيث تزامنت مع استضافة بلير لقادة الدول الثماني الكبرى في بلدة \"جلين إيجلز\" في اسكتلندا، وتلت مباشرة فوز لندن بشرف تنظيم الألعاب الأولمبية لسنة 2012 بعد معركة حامية مع باقي المتنافسين، إلا أنها لن تؤدي بأي حال من الأحوال إلى إضعاف لندن أو النيل من معنوياتها، على الأقل ليس في الوقت الراهن. ومن البديهي أن تكون ردة فعل البريطانيين هي الصمود في وجه الإرهاب وعدم الخضوع للابتزاز السياسي الذي ربما كان الهدف الأساسي الذي يسعى إليه منفذو الهجمات. لكن ما إن تهدأ لغة العواطف وينحسر خطاب المواساة والإحساس بالألم الذي تفرضه مثل هذه المناسبات ويجعلنا نلهج بالتنديد والشجب، حتى يستدعي منا العقل التوقف برهة للتفكير والتأمل. فالسلطات البريطانية ما فتئت تستبعد وجود أية صلة بين اعتداءات لندن والحرب في العراق مكررة دائما أن الإرهاب \"الإسلامي\" كان موجودا حتى من قبل خوض الحرب. غير أنه من الصعب على أي متابع حصيف ألا يقيم العلاقة بين الأمرين. \r\n ونحن نفهم بالطبع استحالة قيام توني بلير، الذي يلومه أصلا البريطانيون على الاصطفاف وراء الأميركيين في الحرب على العراق، بالإقرار أمام الملأ بأن حربه تلك لم تساهم في تعزيز أمن بريطانيا وتجنيبها أخطار الإرهاب، بل على العكس من ذلك أضعفت أمنها وعرضت البلد لخطر كانت في غنى عنه. \r\n وإذا كنا نتفق فعلا مع بلير بأن الإرهاب الإسلامي ليس وليد الحرب على العراق وما ترتب عنها من تدهور خطير في الوضع الأمني ودخول مقاتلين أجانب لمحاربة قوات التحالف، فإنه في المقابل لا يمكننا أن ننكر ما أسهمت به حرب العراق في تأجيج نار الإرهاب \"الإسلامي\" الذي كان موجودا من قبل. فجميع المراقبين يشيرون إلى المفعول العكسي للحرب حيث صبت الزيت على النار وألهبت العلاقة المتدهورة أصلا بين العالمين الإسلامي والغربي. ولعل هذا الإدراك بترابط الإرهاب والحرب في العراق ما دفع بلير للقول بضرورة محاربة \"الجذور العميقة\" للإرهاب، لا سيما تلك المتصلة بغياب الديمقراطية والصراع في الشرق الأوسط. ولذلك جاء تصريح بلير عقب تفجيرات لندن واضحا عندما قال: أعتقد أنه بقدر ما يجب التصدي لنتائج الإرهاب، فإنه يجب بالمثل التصدي لجذوره العميقة حتى نتمكن من حماية أنفسنا. لقد بات من الضروري أن نتعرف على جذور هذه الآفة ومحاربتها عن طريق تعزيز الحوار بين الأديان، والمساعدة على إرساء الديمقراطية في الشرق الأوسط، وأخيرا حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. \r\n لقد فهم بلير جيدا أنه بالإضافة إلى ضرورة محاربة الإرهاب عسكريا، يجب التقليص من المصادر المتعددة للإحباط التي تسمح لأشخاص مثل أسامة بن لادن وأعوانه أن يجدوا آذانا صاغية في أوساط الجماهير من الشباب العرب والمسلمين ويجندوا الآلاف منهم ممن يعانون من الفقر والبطالة. غير أنه يجب ألا تُفهم محاولة التصدي للأسباب الحقيقية المؤدية إلى الإرهاب، على أنها سعي منا إلى تبرير ممارساته الشنيعة، وإسباغ الشرعية عليها، أو الخضوع لابتزازه، بل نسعى من وراء تلك المحاولات إلى التسلح بآليات أكثر نجاعة لمحاربة الإرهاب والقضاء عليه. بيد أن كل ما قاله بلير بشأن ضرورة البحث عن الأسباب الحقيقية للإرهاب، لا يجد له أي صدى لدى المحافظين الجدد بأميركا الذين مازالوا يعتقدون أن السبب الوحيد للإرهاب هو كراهية الديمقراطية والقيم الغربية. لذا تتعلق مسألة محاربة الإرهاب في نظرهم بالدخول في مواجهة عسكرية مع الإرهابيين. وبالنسبة إليهم تعتبر مكافحة الإرهاب حربا عالمية رابعة. \r\n غير أن وجه القصور في هذه المقاربة الأمنية الصرفة لمسألة الإرهاب يتمثل في عدم فاعليتها. فعندما يتم التصدي إلى النتائج دون الالتفات إلى الأسباب، تكون الولاياتالمتحدة حينها تغذي ما كان مفروضا عليها أن تقضي عليه. ولعل هذا التضارب في تشخيص مشكلة الإرهاب بين توني بلير والأميركيين ما يجعله في مفترق طرق. فالبرغم من صحة طرحه، إلا أن الموقف الأميركي المتشدد يفرض عليه أن يركنه على الرف لبعض الوقت. وليس غريبا أن يفشل بلير في إقناع الولاياتالمتحدة برأيه، أو دفعها إلى زحزحة مواقفها ما دامت تعتبر دعمه لها أحد مكاسبها الثابتة. \r\n ومع ذلك مازال الأمل قائما لكي يصبح توني بلير القائد الجديد لأوروبا، خصوصا بعدما تم إضعاف الرئيس الفرنسي جاك شيراك إثر نتيجة الاستفتاء على الدستور الأوروبي، وبعد الهزيمة المرتقبة للمستشار الألماني جيرهارد شرودر في انتخابات سبتمبر المقبلة، لكن لن يصبح الأمل واقعا, إلا إذا قام بلير بإحداث قطيعة نهائية مع تبعيته المفرطة لسياسات جورج بوش. ذلك أن هذا الأخير لم يقم فقط بتعريض أمن بريطانيا للخطر، بل حرمها كذلك من حقها في التمتع بنفوذها الكبير داخل أوروبا. وحتى تلك المطالب التي تقدم بها بلير في قمة مجموعة الثماني كالزيادة في الدعم الإنمائي للدول الفقيرة، والتصدي للتدهور البيئي وحل النزاع في الشرق الأوسط، استنكف بوش عن الاستجابة لها دون خجل.