وهذا ما حصل مع حملات إنقاذ الدول الفقيرة من ديونها حين كان الداعمون الدوليون لها تعاملهم الدول الغنية بالرفض والتجاهل. لكن سؤالاً جديداً ظهر في عام 2005 هو: «هل أوشك الداعمون لإنقاذ الدول النامية من الديون على تحقيق الانتصار؟» في عام 1995 أي قبل عشر سنوات تلقى نشطاء الحركة الذين كانوا يدفعون قادة دول العالم إلى إلغاء الديون الهائلة المستحقة على دول جنوب الكرة الأرضية الفقيرة جواباً هو: «لن تشكل مسألة ديون الدول الفقيرة مشكلة كبيرة». وفي عام 1998 تلقت المجموعات نفسها حين عقد مؤتمرها لإلغاء الديون تحذيراً من الدول الغنية بعدم الاعتماد عليها لأن الدول الفقيرة تطالب بأشياء كبيرة قد لا تتحقق. وفي ذلك الوقت كتب أحد الصحفيين عن هذا الموضوع: «إذا قام المرء بحملة من أجل إلغاء الديون أو استخدام لغة متطرفة في حملته يتوقف المعنيون الذين يريد منهم تحقيق هذا الموقف أي المسؤولين والوزراء في الدول الغنية عن الاستماع له». ورغم هذه المعاملة استمرت حملة هذه الحركة، ولاحظ المراقبون أن موضوع إلغاء الديون من المتوقع أن يصبح قريب المنال وربما في هذا الصيف 2005. وعلى الرغم من أن قادة دول مجموعة السبعة الكبار وهي الدول الغنية والصناعية فشلوا في استكمال اتفاقية مشتركة حول الديون في واشنطن في نيسان/ ابريل الماضي إلا أنهم سيواصلون مداولاتهم عندما يجتمعون في قمتهم السنوية المقررة في (6 - 8) تموز/ يوليو المقبل في مدينة (بيرتشاير) في اسكتلندا. وقد وضع على جدول عملهم خطة مقترحة بإلغاء الديون بنسبة 100% لمقترضين كثر من الدول الفقيرة. وحين تصبح مسألة إلغاء الديون بنسبة 100% شرعية ومقبولة من اتجاهات ودول كثيرة فهذا يمثل حقاً تراجعاً هائلاً في الموقف السابق من الديون. ويذكر أن الكثيرين كانوا قد رأوا خلال السنوات القليلة الماضية أن حركة العولمة انتصرت في الجدل المعنوي والأخلاقي الدائر حول التجارة والنمو لكنها لم تستطع تحويل مواقفها إلى سياسة على الأرض. ومع ذلك يبدو من الواضح أن مسألة الديون تشكل مثالاً أو نموذجاً على قدرة الشبكة الدولية للنشطاء المؤمنين بحملة إلغاء الديون على التأثير على أصحاب القرارات الحكومية وفتح الباب أمام إمكانات حقيقية للنمو الإنساني. وإذا ما قدم جون سنو وزير المالية الأميركي حواجز جديدة أمام تقدم الإلغاء التام للديون وظهر مدافعون عن الصعوبات التي قيل إنها تواجه الدول المتطورة، فإن المكسب المقبل على المدى الطويل سوف يترافق مع سلسلة من التحديات الجديدة. \r\n \r\n \r\n كيف تحولت الديون إلى قضية كبرى \r\n \r\n لم يكن موضوع إلغاء الديون المستحقة على الدول الفقيرة في بداية التسعينات من بين المواضيع الرئيسة على جدول العمل السياسي الدولي. ففي القسم الجنوبي من الكرة الأرضية ظهر نقاش منذ الثمانينات يدعو إلى إدانة وضع الديون المتزايدة التي تجد فيها الدول الفقيرة وخصوصاً في افريقيا شبه الصحراوية نفسها في حالة تسدد من خلالها ديوناً للدول الرأسمالية تفوق مبالغها ما تتلقاه من مساعدات تعهدت الدول الغنية بتقديمها لها. ولم تكن هناك أي نسبة من الدراية والتنبيه للخطورة التي تشكلها الديون المستحقة. وفي عام 1995 قامت مجموعة من نشطاء الحركة الاجتماعية بالتنسيق مع قادة بعض الدول الغنية المتطورة بمحاولة جذب انتباه عالمية لموضوع الديون في قمة (كوبنهاغن) التي عقدت تحت رعاية الأممالمتحدة لمناقشة المشاكل الاجتماعية في العالم. وفي ذلك الوقت حاولت الولاياتالمتحدة عرقلة بحث مثل هذه المناقشة حول الديون وامتنع الرئيس كلينتون وجون ميجر رئيس حكومة بريطانيا عن حضور هذه القمة. وبعد ذلك بسنتين، ومن خلال استمرار العمل على ضرورة إيلاء هذا الموضوع الاهتمام الدولي المناسب، تمكنت حركة إنقاذ الدول الفقيرة من أعباء الديون من تشكيل شبكة دولية عام 1997 جمعت داخلها منظمات دينية وعمالية وعدداً من المنظمات الإنسانية غير الحكومية ووحدت حملتها الدولية من أجل هذا الهدف. وفي أيار/ مايو 1998 تمكنت هذه المجموعات من بذل جهود نجحت من خلالها بالقيام بتظاهرت جمعت فيها 50 ألفاً من المشاركين للاحتجاج أمام مقر انعقاد مؤتمر الدول الثماني الصناعية الكبرى في بيرمينغهام في بريطانيا. وفي عام 1999 تكررت التظاهرة نفسها وبالعدد نفسه أمام قمة الدول الثماني حين انعقدت في (كولون) ألمانيا وربط المتظاهرون أنفسهم بسلسلة طويلة وساروا في شوارع المدينة للإشارة إلى «قيود الديون المستحقة على الدول الفقيرة». وخلال الفترة الممتدة من أواسط التسعينات شهدت المؤسسات الدينية المسيحية وغيرها من المؤسسات الإنسانية غير الدينية نشاطاً متزايداً من أجل تحقيق النجاح في موضوع الديون. وجذب النشاط الذي قامت به الكنيسة الكاثوليكية في عام 1996 انتباهاً كبيراً حين بدأ المطارنة الكاثوليك الأفارقة بإدانة الديون علناً باعتبارها تدفع على حساب نفقات الحاجات الأساسية في ميدان الصحة والتعليم والخدمات اجتماعية التي يتلقاها الفقراء. وسارع المطارنة الكاثوليك في أميركا اللاتينية للانضمام إلى هذه الجهود نفسها. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1998 اعتبر البابا يوحنا بولس الثاني الذي أبدى تعاطفه في السابق مع الحملة ضد الديون أن إنقاذ الدول الفقيرة من الديون المستحقة عليها يشكل «شرطاً مسبقاً من أجل تحقيق التقدم في الدول الفقيرة وتغلبها على الفقر». وطالب البابا الراحل البدء بعمل فوري لحل هذه المشكلة وقال: «إن الفقراء هم الذين يدفعون ثمن التأخير في حل هذه المشكلة وعدم حلها». ومنذ ذلك الوقت أخذت الهيئات الدينية الأخرى من مختلف أنحاء العالم تساهم في هذه الحملة وخصوصاً في الولاياتالمتحدة وكنائسها المتعددة، بل إن أحد الاتحادات اليهودية الأميركية شارك في هذه الحملة أيضاً. \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n ربط الاعفاء من الديون بإعادة تأهيل البنى التحتية \r\n \r\n ومن خلال هذا النشاط الواسع العالمي لم يعد في مقدور أصحاب القرار السياسي ووزرائهم الاستمرار في تجاهل هذه الدعوة من أجل إلغاء الديون. وكان أندرياس سميث أحد كبار الصحفيين في صحيفة (أندبندنت) اللندنية قد عبر عن أصداء آراء النخب العالمية حين دعا إلى تعزيز قوة الجهود التي تبذلها حركة إلغاء الديون وإلى انتقاد الاستراتيجية السياسية التي تتخذها الدول الغنية تجاه هذا الموضوع. ودافع سميث في عدد من المقالات عن المفاوضات الدؤوبة الجارية مع «البنك الدولي» ومنظمة «الصندوق الدولي» لإلغاء الديون. وكانت مجموعة الدول السبع الكبار ترد في كل مرحلة تسلط فيها حركة إلغاء الديون الأضواء على هذا الموضوع بتوسيع اقتراحاتها لحل الموضوع. وفي عام 1996 تقدمت الدول المسيطرة على منظمة «صندوق النقد الدولي» وعلى البنك الدولي بأول خطة حول الدول الفقيرة ذات الديون الهائلة قررت فيها تقديم نوع من النجدة تجاه ديون 42 دولة من الدول الأشد فقراً وعن طريق برنامج من ست سنوات. وكان الإلغاء الفعلي لهذه الديون مربوطاً لسوء الحظ بشروط تفرض على الدول الفقيرة تنفيذ برامج لإعادة تأهيل بنيتها التحتية وضعها صندوق النقد الدولي وهي تؤدي غالباً إلى تخفيض مساهمة الدولة الفقيرة في تقديم الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية. وبسبب هذه الشروط أصبح موضوع إنقاذ الدول من ديونها تتعرض حلوله لتباطؤ ثقيل وتنعدم الفعالية الجوهرية في إنجازه. وفي عام 1999 بدأت الضغوط تتصاعد فوضعت «منظمة الصندوق الدولي» خطتها الثانية التي جعلت عملية إغاثة الدول تتسارع أكثر بالمقارنة مع الماضي رغم الإصرار على ربط الإغاثة بتطبيق الدول لشروط «الصندوق الدولي». وفي نهاية عام 2000 تمّ تخفيض ديون 22 دولة بموجب خطة الصندوق الدولي وتبين أن نسبة التخفيض لم تتجاوز الثلث وهي نسبة لا تشكل حلاً لأزمة الدول الفقيرة التي تعاني من حجم هذه الديون. وظهر من تقرير مؤتمر «التجارة والنمو» الذي عقد تحت رعاية الأممالمتحدة عام 2004 أن قارة أفريقيا حصلت على 540 مليار دولار من القروض وسددت 550 ملياراً بما فيها فوائد تلك الديون وذلك خلال الفترة الممتدة من عام 1970 وحتى عام 2004. ومع ذلك بقيت أفريقيا مدينة ب 295 مليار دولار، واستنتج التقرير الصادر عن الأممالمتحدة أن استمرار الفائدة الاستغلالية على سداد الديون ومبالغها يشكل انتقالاً لمصادر حياة الدول الفقيرة إلى الدول الثرية الدائنة. والجدير بالذكر هنا، أن أيلول/ سبتمبر 1999 شهد مبادرة مهمة من الرئيس كلينتون حين تجاوب مع الضغوط الكبيرة التي مورست عليه وأعلن أن الولاياتالمتحدة ألغت 100% من الديون المستحقة لها على الدول التي التزمت بخطة «الصندوق الدولي» الأولى. وبعد شهرين قامت المملكة البريطانية بتقديم خطة مماثلة لإلغاء الديون بينها وبين عدد من الدول فتبعها بعد ذلك عدد من الدول الدائنة مثل ألمانيا وفرنسا واليابان وبنفس خطة وشروط صندوق النقد الدولي. وفي النهاية، تبين أن المبلغ الذي تنازلت عنه الولاياتالمتحدة مع الدول التي ترتبط بها بعلاقات ثنائية لا يتجاوز 330 مليوناً من الدولارات، في حين أن مجموع الديون المستحقة على الدول الفقيرة والعائدة إلى المؤسسات الدائنة مثل «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي» تقدر بمئات المليارات. ديون العراق «عبء غير عادل» لم تقم الولاياتالمتحدة بتحول كبير في سياستها تجاه الديون إلا بعد غزوها للعراق، وذلك حين ناشدت حكومة الرئيس بوش الدول الدائنة بإعفاء العراق من الديون المستحقة عليها والتي تقدر ب 120 مليار دولار. وفوجئ النشطاء الذين كانوا يدعون منذ عشرين سنة إلى إلغاء ديون الدول الفقيرة بتصريح بوش وتبنيه لفكرة إلغاء ديون. وفي كانون الأول/ ديسمبر عام 2003 قرر بوش إرسال مبعوثه الخاص جيمس بيكر في مهمة خاصة لإقناع حلفاء واشنطن بإلغاء ديون العراق واعتبر أن ديناً كهذا يعرض للخطر الازدهار السياسي والاقتصادي والصحي الذي تطمح إليه، وقال إن على العالم أن لا يسمح بأن تعرض الالتزامات المالية المستحقة على العراق وضع البلاد تحت أعباء كبيرة. ولأنها احتلت العراق وأصبح من مصلحتها إزالة ديون العراق المستحقة لدول أوروبية ولروسيا، أصبحت الولاياتالمتحدة من الدول التي تدعم مشروع إنقاذ الدول من أعباء ديونها. وبعد أن أصبحت إدارة بوش من دعاة إلغاء الديون تحققت شرعية معنوية لمشروع إلغاء ديون الدول لأن دولاً أخرى حليفة لواشنطن أقرت مثل هذا المشروع رغم عدم تنفيذه كسياسة بين الدول منذ عام 2003. لكن المراقبين تطلعوا إلى إمكانية تنفيذه سياسياً في تشرين الأول/ أكتوبر 2004 حين انعقد مؤتمر وزراء مالية الدول السبع الكبار في واشنطن. ومع ذلك، تسبب عدم اتفاق الدول السبع على تفاصيل خطة إلغاء الديون بعد استكمال الاتفاق وأهداف الخطة ثم عاد نفس وزراء مالية الدول السبع واجتمعوا في شباط/ فبراير 2005 في لندن واقتربوا من صياغة الاتفاق. وحين وقع زلزال تسونامي في آسيا أصدرت الدول الغنية الصناعية بياناً أعلنت فيه موافقتها المبدئية على إلغاء ديون عدد من الدول الفقيرة بنسبة 100% واشترطت أن تنفذ هذه الدول الفقيرة الخطة رقم (2) التي وضعها صندوق النقد الدولي. وفي وقتنا الراهن لم تزل الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية غير متفقين على عدد من المسائل بهذا الشأن ستتطلب المناقشة من جديد في قمة الثمانية الكبار المقرر عقدها في تموز/ يوليو المقبل في سكوتلندا. (يذكر أن عبارة الثمانية الكبار تشير إلى وجود روسيا إلى جانب الدول السبع الصناعية الثرية). وسيجري النقاش المقبل حول تحديد عدد الدول التي سيتم اعتماد إلغاء ديونها والاقتراح البريطاني يدعو إلى اختيار 15 دولة استكملت عملية الإصلاح الاقتصادي بموجب شهادة صندوق النقد الدولي والخطة التي وضعها لهذه الدول. وبالإضافة إلى ذلك، سيجري اختيار خمس أو ست دول لم يطلب منها تنفيذ إصلاحات صندوق النقد الدولي لكنها من الدول الأفقر والتي يقدم لها البنك الدولي مساعدات مالية. وتدعو الولاياتالمتحدة إلى وضع قائمة ب27 دولة ممن التزمت بخطة صندوق النقد الدولي وإلغاء ديونها وعدم إلغاء ديون الدول الفقيرة التي لم ترتبط بهذه الخطة. وفي النهاية، ربما يناقش وزراء مالية الدول الغنية أفكاراً تتعلق بطريقة وحجم التمويل الذي يتطلبه مشروع إلغاء الديون عن الدول الفقيرة. وتقترح بريطانيا أن تعتمد خطة إنقاذ الدول الفقيرة من أعباء الديون على بيع بعض احتياطي الذهب الموجود في صندوق النقد الدولي لتمويل عملية الإنقاذ. وبسبب الآراء المختلفة وبعض المصالح المختلفة بين الدول السبع الكبار، يبدو أن تشاؤماً بدأ يخيم حول نتائج القمة المقبلة للدول السبع الكبار في تموز/ يوليو خصوصاً لأن الولاياتالمتحدة أصرت على فكرة بيع بعض احتياطي الذهب الموجود في صندوق النقد الدولي. لكن حركة إنقاذ الدول الفقيرة من أعباء الديون لن تتوقف عن العمل وسوف تطالب بتنفيذ إلغاء بنسبة 100% لديون الدول بغض النظر عما إذا كانت قد التزمت بخطة الإصلاح الاقتصادي التي فرضها صندوق النقد الدولي. وسوف يقوم المختصون بهذه الحركة بدراسة وتفحص حالة أي دولة فقيرة للتأكد من مدى إعفائها من الديون المستحقة عليها كافة للدول الغنية. وستقوم الحركة أيضاً بمواصلة الدفاع عن حق الدول التي لم تخضع لشروط صندوق النقد الدولي بإلغاء ديونها كاملة مثل سيرلانكا، وبنغلاديش وجامايكا وهايتيي ونيجيريا، والدول التي تتمتع بدخل متوسط تقريباً مثل البرازيل والمكسيك يمكن أن تنال الحق أيضاً بإلغاء ديونها ضمن شروط صندوق النقد الدولي لأنها دول كثيرة السكان وتعاني نسبة كبيرة من المواطنين فيها من الفقر الشديد. ولا ننسى أن الديون الهائلة التي تراكمت على عدد من الدول كان سببها قادة البلاد وأنظمة حكمهم الديكتاتورية والفاسدة وهذا ما استند إليه الرئيس بوش حين طالب دول أوروبا بإلغاء ديون العراق لأنه ألقى بمسؤوليتها على صدام حسين. وستعمل الحركة قبل وبعد قمة تموز/ يوليو المقبلة للدول السبع الكبار على عدم إلزام الدول بخطة صندوق النقد الدولي إذا ما كان تنفيذها سيعطل برامج المساعدات الصحية والتعليمية والخدمات في مجتمعاتها. وفي النهاية، نشير إلى أن الدول السبع الكبار هي: كندا، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان والولاياتالمتحدة، ومنذ عام 1998 وافقت هذه الدول على انضمام روسيا إلى إطارها من دون أن تكف الدول السبع عن عقد اجتماعات لوحدها لأن روسيا بنظرها ليست من الدول الغنية اقتصادياً!؟.. \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n