ولما كانت تحدها جمهورية كازاخستان شمالاًَ والصين جنوباً، فليست هناك من وجاهة وقوة الأسباب والدوافع، ما يحمل بقية أنحاء العالم على الانشغال كثيراًَ بما يجري فيها. غير أن الخلع الذي حدث مؤخراً لرئيسها \"عسكر أكاييف\" من قبل مجموعات حاشدة من المحتجين والمتظاهرين –الذين كثيراً ما وصفوا على أنهم \"مقاتلون\" من أجل الديمقراطية\"- لفت إليها أنظار العالم كله واهتمامه، نظراًَ إلى أن ما يحدث من تطورات سياسية في ذلك الجزء القصي من العالم، يعد ضمن التيار الديمقراطي الذي اكتسح مساحات شاسعة مما كان يعرف سابقاً بالاتحاد السوفييتي. \r\n ومع أنه يحق لنا أن ندلي بدلونا فيما يعنيه مفهوم الديمقراطية والأنماط السياسية التي تعقب الديمقراطية، إلا أن هناك طريقة أخرى، جد مغايرة لفهم ما يجري في جمهورية قرغيزستان وغيرها من الدول الأخرى العديدة. ولكن لنبدأ ذلك بقصة شخصية أولاً. ففي عام 1986، أي ما يقارب العشرين عاماً، كنت قد سافرت أنا وزوجتي إلى قرغيزيا في ظروف جد استثنائية وخاصة. وكان بين المسافرين معنا، الكاتب المسرحي الراحل \"آرثر ميلر\"، والممثل \"بيتر أوستينوف\"، والكاتب الروائي \"جيمس بالدولين\"، والشاعر الفرنسي \"كلود سيمون\" الحائز على جائزة نوبل للآداب، إضافة إلى \"فيديريكو مايور\" الذي ذهب إلى هناك لتولي منصب المدير العام لمنظمة \"اليونسكو\" في تلك الجمهورية. وكان هناك عدد قليل أيضاً من المثقفين والفنانين التشكيليين من كل من تركيا وآسيا وأميركا اللاتينية وإفريقيا، من الذين انضموا إلينا فيما أصبح يعرف ب \"منتدى إيسيك-كل\". وكان الذي أشرف على تنظيم ذلك المنبر أو المنتدى، الكاتب المسرحي القرغيزي المشهور، \"جنكيز إيتماتوف.\" \r\n \r\n وفي بداية المؤتمر، تحدثت أنا وزوجتي عن موجات التغيير التاريخي الثلاث الكبرى، ممثلة في الثورة الزراعية، والثورة الصناعية، وأخيراً الموجة الثالثة، القائمة على نظام الاقتصاد المعرفي. كما أوضحنا كيف يؤثر مجيء كل من هذه الموجات الثلاث العاتية، ويمثل تحدياً غير مسبوق للنخب وللمؤسسات الاقتصادية والسياسية والثقافية القائمة، التي صممت أصلاًَ من أجل الموجة السابقة. وخلصنا من ذلك الحديث إلى استنتاج أساسي، مفاده حدوث \"تنازع موجي\" بين المستفيدين من النظام القديم، والثوريين المنحازين والملتزمين بالتغيير والتحول. وبعد أن أدلى كل بدلوه، طلب إلينا مضيفونا الروس، التوقيع على بيان ثقافي، محتواه أن القرن الحادي والعشرين بات على الأبواب، وأن على المفكرين والمثقفين أن يهيئوا الشعوب والمجتمعات لاستقباله. وكنت أنا وزوجتي قد أصررنا على إضافة جملة واحدة لذلك البيان قبل توقيعنا عليه، لا يزال صداها يتردد في أذني. كانت تلك الجملة تقول: \"على أنه يحق للمثقفين والمفكرين، أن يتحاوروا ويختلفوا ويجهروا بأفكارهم وآرائهم علناً ودون أدنى خوف من قهر سياسي يطالهم\". وكانت تلك جملة مثيرة للخلاف والجدل في بلاد أرسل فيها المفكرون والمثقفون بالآلاف، إلى السجون ومعسكرات التعذيب، ليلقوا حتفهم ومصيرهم المأساوي هناك، لا لجرم ارتكبوه سوى خلافهم الفكري مع النظام السوفييتي القائم، أو لانتقادهم له. ولكن من حسن الحظ أن تلك المطالبة لم تثر استياء مضيفينا الروس، بل أسعدتهم إضافة الجملة المذكورة إلى البيان. \r\n \r\n وعلى تلك الوثيقة وقع كافة المشاركين في المنتدى، بمن فيهم \"إيتماتوف\" نفسه، ثم أعقب ذلك ترحيلنا جواً إلى موسكو للقاء الرئيس السوفييتي \"ميخائيل غورباتشيف\"، الذي كان قد مضى عليه في ذلك المنصب عام واحد فحسب. وكان \"غورباتشيف\" قد أعلن عن سياسة ال \"الجلاسنوست\" الداعية لمجتمع أكثر انفتاحاً. غير أن واشنطن –كما هو حال بقية عواصم العالم الأخرى- كانت في شك عظيم، في مدى جدية تلك الخطوة في التحول نحو الديمقراطية الحقيقية. لكن وفي صباح اليوم التالي مباشرة، نشرت صور اجتماعنا مع الرئيس \"ميخائيل غورباتشيف\" ومعها البيان الذي وقعنا عليه جميعاً بجملته الإضافية التي أصررنا عليها، في الصفحات الأولى لكافة الصحف السوفييتية الرئيسية. لقد كانت تلك فرصة \"غورباتشيف\" ليقول لشعبه وللعالم الخارجي كله، إنه إنما كان يعني فعلاً ما يقول. الآن وبعد مضي كل تلك السنوات، فإنه لم يعد في وسع الرئيس الحالي \"فلاديمير بوتين\" أن يرسل معارضيه ومنتقديه إلى معسكرات التعذيب والعمل الشاق في سيبيريا وغيرها، إلا أنه لا يزال قادراً على إغلاق الصحف والمحطات التلفزيونية التي تنتقد نهجه وسياساته. كما لا يزال في مقدور \"بوتين\" شن الحملات على الحقوق الديمقراطية والحريات التي كان قد دشنها \"غورباتشيف\". \r\n \r\n وفيما يتصل بفهم ما يجري الآن في قرغزستان، فإن الصحيح أن له علاقة بما قلناه من قبل عن \"نزاع الموجات\" أكثر من أن تكون له صلة بالديمقراطية. هذا هو على الأقل ما عبرت عنه \"إلينور بركيت\"، التي كتبت لصحيفة \"نيويورك تايمز\" عن تجربة عملها في مجال التدريس هناك، خلال العامين 2001-2002. فقد أوضحت أن قرغزستان الجنوبية –التي تعد مهد الثورة المزعومة الحالية- أبدت تململها وتذمرها من هيمنة الشمال الروسي الصناعي المتعالي، على الجنوب الزراعي الذي يرمونه بالجهل والأمية والتخلف. وما هذا التوضيح سوى تبسيط لفكرة \"نزاع الموجات\" بين موجة زراعية في مرحلة الانتقال إلى المجتمع الحضري، وموجة مجتمع صناعي متقدم. \r\n \r\n ولكن الملاحظ أن عمليات النهب والسلب التي لازمت الانتفاضة الشعبية الأخيرة هذه في قرغزستان، قد استهدفت في الأساس، مقاهي الإنترنت وماكينات الصرف الآلي -وهي جميعها رموز الموجة الثالثة- التي تشير إلى انتشار النظام الاقتصادي المستقبلي، القائم على المعرفة والقاعدة التكنولوجية. وفيما لو اقتصر \"نزاع الموجات\" هذا، على قرغزستان، حيث هذه الدولة الصغيرة من دول آسيا الوسطى، لكان الأمر أكثر إثارة للاهتمام، ولكن دون أن يصل إلى مرحلة الأهمية. غير أن تنوع \"نزاع الموجات\" يحدث في وقت واحد، في أنحاء مختلفة من العالم. لذا فإن عمليات أكثر عمقاً من مجرد التحول الديمقراطي، عادة ما تجري أسفل سطح المطالبة بالحرية والديمقراطية. وهذا هو ما يجب الانتباه له والتقاط ما يشير إليه من تحولات ونزاع بين الموجات. \r\n \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز\"