ليس هناك خلاف حول بعض الحقائق الأساسية المعروفة للجميع في الشرق الأوسط وهي: أولا، أن الانتخابات قد أقيمت في العراق، وأن العنف هناك لا يزال مستمرا. ثانياً، أن الانتخابات قد أقيمت في فلسطين. ثالثاً، أن المملكة العربية السعودية قد أجرت انتخابات للمجالس البلدية. رابعا، أنه بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، فإن المظاهرات الشعبية الضخمة التي اندلعت في لبنان ضد الوجود السوري، والتي طالب المتظاهرون خلالها بإقامة انتخابات حرة غير متأثرة بنفوذ دمشق، دفعت بشار الأسد إلى إعلان عزمه سحب قوات بلاده من لبنان. خامساً، أن هناك مظاهرات خرجت في نفس الوقت في مصر، وأن الرئيس المصري حسني مبارك قد أعلن اعتزامه إجراء بعض التعديلات في النظام الانتخابي الرئاسي في بلاده. \r\n هذه الحقائق كلها ليست محل خلاف، ولكن التفسيرات الأميركية بشأنها متباينة تباينا كبيرا سواء فيما يتعلق بمعناها، أو بقراءة ما يحدث الآن في العالم العربي. \r\n ومؤيدو الرئيس بوش مقتنعون بأن التدخل الذي قاده في العراق، والنداءات التي وجهها من أجل الديمقراطية في الدول العربية، سواء في الخطاب الذي دشن به فترة ولايته الثانية في يناير، أو في خطابه عن \"حالة الاتحاد\" في فبراير، هي التي أحدثت ذلك القدر من الحراك في اتجاه جعل حكومات الدول العربية أكثر ديمقراطية. وبوش يسره بالطبع أن يُنسب له فضل إحداث كل تلك التغييرات، لأن دعم الديمقراطية في العالم الخارجي فكرة مقبولة لدى الشعب الأميركي، الذي يلتمس الرئيس بوش الحصول على تأييده لسياساته. فعندما قاد بوش عملية غزو العراق، فإنه برر تلك العملية، بأنها عملية لابد منها للمحافظة على الأمن القومي الأميركي، لأن العراق- كما قال- كان يمتلك أسلحة للدمار الشامل تهدد الولاياتالمتحدة ذاتها. وعندما تبين أن العراق لا يمتلك تلك الأسلحة، فإن بوش اضطر إلى تبرير الغزو، بالقول إنه كان من أجل إدخال الديمقراطية إلى العراق، وإن تعزيز الأمن القومي الأميركي يتطلب من الدول الأخرى أن تقوم بالتحول إلى الديمقراطية. \r\n وكان الزعم الذي قدمه بوش، هو أنه بإطاحته صدام حسين من السلطة، وقيامه بدعم الانتخابات في العراق، فإنه كان يقوم أيضا بالمساعدة على نشر الديمقراطية في مختلف أنحاء المنطقة. وعندما أقيمت الانتخابات في العراق وتبعتها أخرى في فلسطين، وتصاعدت النداءات بإجراء انتخابات ديمقراطية في لبنان بمنأى عن النفوذ السوري، ثم الإعلان الجديد في مصر حول إجراء انتخابات أكثر ديمقراطية، فإن بعض الأميركيين سارعوا إلى الادعاء بأن بوش كان هو السبب في تلك التطورات، وأشاروا إلى أن التدخل الأميركي في أفغانستان، كان هو الذي أدى إلى إجراء انتخابات في تلك الدولة. \r\n ومؤيدو بوش الحزبيون مثل مقدم البرامج الحوارية العدواني \"راش ليمباو\"، وتلفزيون \"فوكس نيوز\"، يتشدقان بأن بوش كان على حق من البداية، أي عندما قام بشن الحرب على العراق، وعندما دعا إلى إقامة الديمقراطية في جميع أرجاء المنطقة. وحول هذه النقطة كتب \"تشارلز كراوثهامر\" يقول:\"نحن الآن في فجر حركة ثورية مجيدة ودقيقة في الشرق الأوسط، وهي حركة كان الباعث لها هو غزو العراق\". والبعض يقول إن تلك الثورة تشبه الثورة التي حدثت في أوروبا الشرقية، بل إن بعض الصحفيين المحترمين الذين كانوا ينتقدون بوش، بدؤوا ينسبون له بعض الفضل في إعطاء الديمقراطية دفعة في الشرق الأوسط. \r\n فعلى سبيل المثال نجد أن \"ديفيد إجناتيوس\" الذي يكتب مقالا افتتاحيا منتظما في صحيفة \"واشنطن بوست\" ذات النفوذ، قد كتب في الآونة الأخيرة مقالا يقول فيه \"إن غزو بوش للعراق كان هو العامل المساعد الذي أدى إلى حدوث التغييرات التي تمت في الشرق الأوسط باتجاه الديمقراطية\". وهناك كاتب بارز آخر في نفس الصحيفة وهو \"ريتشارد كوهين\" كتب هو الآخر يقول:\"إن رياح التغيير قد هبت بالفعل على العالم العربي\". \r\n في نفس الوقت، يقوم البعض بترديد عبارات التحذير التي تركز على أن الوضع ليس بهذه الدرجة من البساطة التي تجعلنا نفترض أن بوش قد قام بمفرده بإطلاق هذه الحركة الواسعة النطاق من أجل الديمقراطية. فديفيد إجناتيوس على سبيل المثال، نبه إلى أن الولاياتالمتحدة \"يمكن أن تساعد من الخارج... أما التغيير الحقيقي في الأنظمة السياسية، فلا يمكن أن يتم إلا عن طريق العرب إذا ما أرادوا\". كما حذر إجناتيوس أيضاً من \" ذلك النوع من الغرور الذي حل بنا في العراق في السنة الأولى، وأوقعنا في المتاعب فيما بعد\". وعلى نفس المنوال حذر \"ريتشارد كوهين\" من أن العالم العربي يختلف عن شرق أوروبا، وأن هذا العالم له ثقافته الخاصة وتقاليده المختلفة، وأن ما يفعله الأميركيون الآن ربما يكون \"احتفالا سابقا لأوانه بالتغيير في العالم العربي\". \r\n إلى ذلك أدلت وزيرة الخارجية الأميركية \"كوندوليزا رايس\" في مقابلة لها بتاريخ الرابع من مارس الجاري بتصريح قالت فيه:\"إن اللبنانيين سيجدون صعوبة بالغة في ممارسة حقهم في الانتخابات القادمة، مع وجود القوات السورية هناك\". وأضاف سكرتير بوش الصحفي إلى ذلك قوله:\"يجب أن يكون اللبنانيون قادرين على التعبير عن أنفسهم بحرية، دون إرهاب ودون تهديد باستخدام العنف\". أما نقاد بوش فإنهم يذهبون إلى أن ذلك المبدأ يجب أن ينطبق على العراق، الذي تحتفظ فيه الولاياتالمتحدة بما يزيد على 120 ألف جندي. وعلى الرغم من أن بوش يقول إن الوضع في العراق لا يمكن مقارنته بالوضع في لبنان، إلا أن منتقديه يقولون إن الحكومة العراقية تتأثر بنفوذ واشنطن، بنفس الدرجة التي تتأثر بها الحكومة اللبنانية بنفوذ دمشق. \r\n وزعماء الحزب الديمقراطي الأميركي، يشعرون بالحيرة في الوقت الراهن بشأن الكيفية التي يمكنهم بها مواجهة سياساته، لأن الأخبار القادمة من العالم العربي تؤكد كلها صحة مزاعمه. بيد أنه يتعين القول في النهاية إن معظم الحوار الأميركي الدائر في هذا الشأن، يقوم على جهل كبير بالتفاصيل الدقيقة، والاتجاهات الحقيقية، الموجودة في المنطقة في الوقت الراهن. فالأميركيون ينزعون إلى تجاهل حقيقة أن التغييرات تأتي ببطء هناك، وأنه في حين أن الديمقراطية كمفهوم لها جاذبية وقابلية في تلك المنطقة، إلا أن هناك إلى جانب ذلك عوامل أخرى كثيرة غير الانتخابات، يجب أخذها في الحسبان منها: المحافظة على الاستقرار، وضرورة احترام الثقافة والتقاليد المحلية.