\r\n \r\n وبهذه الزيارة، تكون رايس قد مهدت الأجواء السياسية والدبلوماسية كثيراً، لزيارة الرئيس بوش المرتقبة إلى أوروبا، في وقت متأخر من الشهر الجاري. أما في منطقة الشرق الأوسط، فقد أعطت الفلسطينيين أملاً جديداً، بينما أثارت قلق المتشددين الإسرائيليين، بتأكيدها التصريحات السابقة التي أطلقها الرئيس بوش حول هدفه الرامي إلى إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية مستقلة، تعيش جنباً إلى جنب مع الدولة الإسرائيلية في أمن وسلام. فهل يعني ذلك أن الشرق الأوسط يمضي حقاً نحو السلام؟ وهل انتهى النزاع والخلاف الأطلسي؟ وهل تم رأب الصدع بين الولاياتالمتحدة الأميركية و\"أوروبا العجوز\"، علماً بأنه كان قد اتسع كثيراً بسبب الحرب على العراق؟ في الإجابة على هذه الأسئلة جميعاً، فإنه لا شيء يطغى على الحقيقة، والحقيقة وحدها. \r\n فقد لاحظ المتشككون الأوروبيون أن نبرة الآنسة كوندوليزا رايس كانت مختلفة نوعاً ما، إلا أن فحوى السياسة الخارجية الأميركية نفسها، لم يطرأ عليها سوى تغيير طفيف جداً، في كل ما أدلت به رايس من أقوال وتصريحات. ففيما يتصل بالنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، انحازت رايس إلى جانب الموقف الإسرائيلي في قضيتين رئيسيتين. أولاهما أن تعطى الأولوية لوقف الهجمات الفلسطينية على الإسرائيليين، وثانيتهما أن يعمل الإسرائيليون والفلسطينيون معاً، ويسعوا لحل المشاكل فيما بينهم، بدلاً من الاعتماد على الوساطة الأميركية. وهذا ليس ما يتطلع إلى سماعه الأوروبيون ولا الفلسطينيون. فالمعلوم أن ما يرغبه الفلسطينيون هو التحرك بأسرع ما يمكن، باتجاه التفاوض السياسي مع إسرائيل حول قضايا \"الوضع النهائي\" مثل ترسيم الحدود، ومصير اللاجئين الفلسطينيين، ووضع مدينة القدس. كما يرغب الفلسطينيون في وساطة أميركية ودولية فاعلة لحل النزاع، لا سيما إن كانت في شكل مؤتمر دولي ترعاه الأممالمتحدة، وهو ما ثابرت على مناهضته كل من واشنطن وتل أبيب. \r\n \r\n والحقيقة هي أن المقاتلين الفلسطينيين، لن يكفوا عن مقاومتهم المسلحة للاحتلال الإسرائيلي، إلا عندما يلوح أمام عيونهم، أفق سياسي واضح لحل النزاع. وهو أمر لم تفتح زيارة رايس للمنطقة أية نافذة أمل له. وربما كانت الإشارة الوحيدة التي وردت في حديثها بهذا الخصوص، هي تصريحها المبهم، عن احتمال العودة مجدداً إلى خطة \"خريطة الطريق\". وإن كان للرئيس الفلسطيني الجديد، محمود عباس \"أبو مازن\"، أن يحقق نجاحاً في مهمته، ويكتب له البقاء في منصبه كرئيس للسلطة الفلسطينية، فليس في الموقف الأميركي الراهن، ما يطمئن على تحقق هذا النجاح. ذلك أن الفلسطينيين والأوروبيين معاً، يتطلعون لرؤية استعداد واضح من جانب الولاياتالمتحدة، لاستخدام رأسمالها وعضلاتها السياسية في إرغام إسرائيل على تنفيذ خطة الانسحاب، ليس من قطاع غزة فحسب، وإنما من الجزء الغالب من أراضي الضفة الغربية أيضاً. وما لم يتحقق هذا المطلب، فلن يكون السلام أكثر من مجرد سراب وأضغاث أحلام. \r\n \r\n أما فيما يتصل بالعراق، فالمعارضة الأوروبية للسياسات الأميركية المنتهجة هناك، تظل ثابتة كما هي، في كل شيء تقريباً. فالأوروبيون ينتظرون من واشنطن، إعلان تاريخ محدد لسحب قواتها من العراق. ويعني هذا أنهم لا يرغبون مطلقاً، في رؤية قواعد عسكرية دائمة، أو أي شكل من أشكال الهيمنة الأميركية على منطقة الخليج الغنية بالنفط. ثم إنهم يتمسكون بطعنهم في شرعية مبدأ الضربات الاستباقية، الذي انتهجته واشنطن. وفي الوقت ذاته يقارعون أميركا في اعتقادها القائل بإمكان هزيمة الإرهاب، باستخدام القوة العسكرية وحدها، من دون التصدي لأسبابه وجذوره الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي ينطلق منها. فوق ذلك، فإنه يصعب إقناع الأوروبيين بالفكرة الأميركية القائلة بإمكان فرض الديمقراطية على العالم العربي من الخارج. \r\n \r\n في كل هذه القضايا، يظل الخلاف الأطلسي كبيراً جداً بين الجانبين. ولا تزال الأحادية الأميركية، تغص مرارتها في حلوق الأوروبيين. ومن جانبه يسعى الاتحاد الأوروبي الذي يضم في عضويته الآن 25 دولة، إلى بلورة سياسة خارجية موحدة لكافة دوله. وها هو يشرع في إبراز عضلاته. ولا شك أن له مصالح استراتيجية وتجارية وسياسية، تختلف عن تلك التي للولايات المتحدة. كما تريد أوروبا أن ترى فيها أميركا نداً وشريكاً لها، وليس مجرد قارة تابعة، تدور في الفلك الأميركي. وضمن ذلك تتطلع أوروبا لأن يكون لها دور فاعل ومستقل، تلعبه في حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث تعمد كل من واشنطن وتل أبيب إلى إقصائها بكافة الوسائل والسبل. كما أن لأوروبا رؤية مغايرة للعالم، قوامها التعددية وليست الأحادية القطبية، التي تكرس هيمنة دولة واحدة فحسب، على العالم بأسره. \r\n \r\n بل يذهب بعض المفكرين الفرنسيين، من أمثال إريك رولو –وهو خبير محنك في شؤون الشرق الأوسط، حيث عمل سفيراً سابقاً لبلاده- إلى القول إن الخلافات بين ساحلي المحيط الأطلسي، أضحت من العمق والبعد، بحيث أصبح متعذراً اليوم، الحديث عن \"الغرب\" كما لو كان يعني كياناً سياسياً واحداً، مثلما كان عليه الحال في الماضي. وعلى حد قول رولو، فإن هناك \"عالمين غربيين\" الآن، يعيشان حالة من الحرب الباردة والتطاحن فيما بينهما. كما يرغب الأوروبيون في رؤية الولاياتالمتحدة، وهي تنشط في حسم الخلافات مع كل من سوريا وإيران، بدلاً من تهديدهما. هذا إلى جانب تطلع الأوروبيين لرؤية أميركا وهي تنضم إلى بروتوكولات معاهدة كيوتو الخاصة بحماية المناخ العالمي، وتدعم المحكمة الجنائية الدولية، إلى جانب الالتزام بالمعاهدة الدولية الداعية لحظر تطوير وإنتاج الأسلحة الكيميائية، والموافقة على وقف تصنيع الألغام المضادة للأفراد، وكذلك الكف عن تصنيع القنابل الذكية النووية الصغيرة، المخصصة لاختراق الكهوف والمخابئ الأرضية العميقة. \r\n \r\n رجوعاً إلى كوندوليزا رايس، يمكن القول إنه وعلى الرغم من إيجابية تأثير حديثها وتصريحاتها في كل من باريس وبروكسل، إلا أنها لم تفعل الكثير، مما من شأنه الحد من جدية وعمق الخلاف على جانبي المحيط الأطلسي، أو لنقل تحديداً التخفيف من كراهية الأوروبيين للرئيس بوش وسياساته. هذا ويخالج الأوروبيين شك عظيم، حول النوايا الحقيقية والنهائية لإدارة بوش إزاء العراق. ومنبع الشك كما هو متوقع، مشاعر وطموحات الهيمنة التي تراود واشنطن، إلى جانب التجاهل الذي تبديه، لكل ما يتصل بقواعد وأعراف الشرعية الدولية. \r\n \r\n وفوق ذلك كله، يخالج الأوروبيين شك عميق في مدى جدية وعزم الولاياتالمتحدة الأميركية، على حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، لا سيما إن كان هذا الحل مشروطاً بالصيغة التاريخية المعروفة، التي تتمسك بمقايضة الأرض بالسلام. ومن وجهة النظر الأوروبية، فإن عزم الولاياتالمتحدة على تسوية هذا النزاع، يعد بمثابة الاختبار والمحك الحقيقي لمدى إمكانية رأب الصدع الأطلسي بينهم والولاياتالمتحدة. وخلافاً لما تراه واشنطن، فإن من رأي الأوروبيين أن أي توسع إسرائيلي في الأراضي والحدود الفلسطينية، لما هو متجاوز لحدود عام 1967، لن يعني سوى أمر واحد لا ثاني له، هو تمديد أمد النزاع بين الجانبين لعقد تال من الزمان، على أقل تقدير.