هل هذا أمر ينبغي التأمل فيه؟ هل هذه اللحظة التي ينتظر فيها لبنان كله انسحاب القوات السورية، وتواجه ميليشيا حزب الله، التي هي نفسها نتاج تلك الحرب، أوامر من الأممالمتحدة بنزع سلاحها؟ هل هذه لحظة لنذكر حمام الدم الذي أغرق الكثير من الأبرياء بين 1975 و 1990؟ \r\n \r\n \r\n بالتفكير ملياً في الأمر، أعتقد انها ربما تكون فعلاً لحظة لإحياء الذكريات المؤلمة. فلقد أمضى اللبنانيون ال 15 سنة الماضية في غيبوبة سياسية، رافضين الاعتراف بماضيهم العنيف، خشية ان تنهض الأشباح من قبورها الجماعية وتعود لتؤجج جمرات الطائفية والمعاناة المشتركة. وكان لشعار «مهما فعلت، فإياك ان تذكر الحرب» مكانة خاصة في بلد رفض أبناء شعبه بعناد الاستفادة من دروس مذابحهم. \r\n \r\n \r\n وطيلة عشر سنوات تقريباً ظلت الرقابة اللبنانية تحظر كتابي عن الحرب الأهلية. وحتى الحريري نفسه أخبرني بأنه عاجز عن إعادة الكتاب إلى رفوف المكتبات، والمفارقة ان الذي رفع الحظر عن كتابي السنة الماضية هو مسؤول أمني موالٍ لسوريا تطالب المعارضة الآن باستقالته، كما تتجنب جميع محطات التلفزة اللبنانية التطرق لموضوع الحرب. وظل موضوع الحرب بمثابة السرطان غير المحكي عنه في المجتمع اللبناني، المرض الذي يخشى الجميع أن يعود ليسمم حياتهم. \r\n \r\n \r\n وكانت هناك حاجة واضحة لفهم كيف قضى الصراع على لبنان القديم. وعندما بثت قناة الجزيرة من قطر برنامجاً وثائقياً من 21 جزءاً عن الحرب، كان طريق كورنيش الشاطيء، مقابل بيتي في بيروت يخلو من المشاة والمتنزهين كل ليلة خميس، بل ان المطاعم أغلقت أبوابها. وكان كل امريء يريد مشاهدة عذاباته الخاصة. \r\n \r\n \r\n وأعتقد ان الأمر كان كذلك حتى بالنسبة لي أنا أيضاً. \r\n \r\n \r\n جميع الذين عرفتهم فقدوا أصدقاء اعزاء في تلك السنوات ال 15 المروعة، وأنا فقدت أيضاً بعض اصدقائي الاعزاء. احدهم قتل في انفجار وقع في السفارة الأميركية في أول يوم عمل له عام 1983، وآخر قتل بفأس، وشابة قتلت بقذيفة في شارع تسوق، وشقيق أحد زملائي، وهو شاب كان يساعدني في صيانة خطوط التلكس الخاصة بي خلال الحصار الإسرائيلي لبيروت عام 1982، قتل برصاصة في الرأس عندما مرّ بسيارته بطريق الخطأ بمعركة بالأسلحة النارية. \r\n \r\n \r\n ولذلك ففي 13 ابريل احتشد عشرات الألوف من اللبنانيين بوسط بيروت في يوم ل «الوحدة والذكرى» وأقيمت معارض فنية وحفلات موسيقية ومعارض للصور الفوتوغرافية وسباق جري وماراثون للدراجات الهوائية. وأشرفت بهية الحريري على تنظيم الفعاليات التي كان قد خطط لها شقيقها القتيل. كما تشرف نورا جنبلاط، زوجة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط احد القادة في تلك الأيام المروعة على تنظيم سلسلة من الحفلات الموسيقية. \r\n \r\n \r\n والذكرى التي تم احياؤها هي ذكرى 13 ابريل 1975، اليوم الذي نصب فيه عدد من مسلحي حزب الكتائب كميناً لحافلة مليئة بالفلسطينيين في بيروت. الحافلة لاتزال موجودة وثقوب الرصاص لاتزال شاخصة في بدنها الصديء، لكنها ستترك لتهتريء في ذلك الحقل هناك على أطراف النبطية حيث لاتزال تقبع حتى اليوم. \r\n \r\n \r\n وهذه الساحة نفسها كانت خط المواجهة الأمامي للحرب برمتها. ومن يدرك كم عدد الاشباح التي لاتزال تسكن كل متر منها؟ \r\n \r\n \r\n على مسافة ليست بعيدة الى الشرق من ساحة الشهداء، يقع طريق السباق الذي كان المسلحون المسلمون والمسيحيون عام 1975 يقيمون حواجز عليه ويوقفون حركة المرور بأسرها وينسلون بين صفوف السيارات المتوقفة ليذبحوا عائلات بأكملها في هدوء بسبب انتمائها الديني. \r\n \r\n \r\n وذات يوم عثر على ثمانية مسيحيين مقتولين امام المقر الرئيسي لشركة الكهرباء، فأصدر بشير جميل أوامره بقتل 80 مسلماً ثأراً لهم. واستمرت الميليشيات في مضاعفة هذه الارقام. وعندما تكون في قلب الحرب، ينتابك شعور بأنها لن تنتهي ابداً. ولقد انتابني انا ايضاً هذا الشعور، حتى صرت تدريجياً اعتقد مثل اللبنانيين بأن الحرب حالة طبيعية بصورة ما. \r\n \r\n \r\n وشأن كل الحروب، اكتسبت تلك الحرب قوة دفع نابعة من الحماقة. وقد غزا الاسرائيليون لبنان مرتين، ووصل عدد من جنود المارينز الأميركيين وقتلوا في هجوم انتحاري في قاعدتهم بالمطار. وهذا حدث مع الفرنسيين أيضاً. ووصلت قوات الأممالمتحدة في 1978 بجنود هولنديين والمزيد من الجنود الفرنسيين وجنود ايرلنديين وجنود نرويجيين وفيجيين ونيباليين وغانيين وفنلنديين. \r\n \r\n \r\n وبدا أن كل من دخل لبنان أصبح عرضة للهجمات بالعبوات الناسفة ونيران القناصة. وتم جرّ الفلسطينيين تدريجياً إلى الحرب، وتعرضوا لمذبحة تلو الأخرى على أيدي أعدائهم (وتبين في أحيان كثيرة أن هذا الوصف ينطبق على الجميع تقريباً). \r\n \r\n \r\n وبشكل أو بآخر اختفت حقيقة أن الصراع في جوهره كان بين الموارنة والباقين، وألقى وزر الحرب على الآخرين جميعهم، إلا اللبنانيين. الكل خاطئ، مذنب، إلا اللبنانيين الذين ظلوا لسنوات عديدة يسمّون الحرب ب «الأحداث». ثم صاروا يسمونها ب «حرب الآخر» حرب الغرباء لا حرب اللبنانيين الذين كانوا فعلياً هم من يقوم بالقتل. \r\n \r\n \r\n وقال لي سائق سيارة أجرة ذات يوم قبل سنوات عدة في لبنان: «سيد روبرت، أنت محظوظ جداً، وكان يعني أنني نجوت من الحرب، كما نجا هو. ما زلت أذكر اليوم الأخير. كان السوريون قد أجبروا ميشال عون على الفرار من قصره في بعبدا تحت نيران القصف الكثيفة، وفي تلك الأيام، كان الأميركيون متحمسين لسيطرة سوريا في لبنان، لأنهم أرادوا من جنود دمشق أن يواجهوا جيش صدام المحتل في الكويت، وكنت أمشي خلف الدبابات باتجاه التلال المسيحي. \r\n \r\n \r\n سقط حولنا وابل من القذائف، صرخت رفيقتي بأننا سنموت، فأجبتها صارخاً بأننا يجب ألا نموت، وبأن هذا آخر يوم في الحرب، وبأن الحرب ستنتهي الآن حقاً. وعندما وصلنا إلى بعبدا كانت هناك جثث هامدة وجرحى يئنون وآخرون يبكون. \r\n \r\n \r\n وأذكر كيف انفجرنا نحن أيضاً في البكاء لشعورنا الهائل بالارتياح لنجاتنا من أهوال ذلك اليوم ولعلمنا بأننا سنعيش الغد واليوم الذي يليه والأسبوع التالي والسنة التالية. ولكن الصمت ظلّ سيد الموقف في ظل الخوف المستمر من اشتعال نار الحرب مجدداً. وما كان أحد يرغب بفتح القبور الجماعية خشية أن تتدفق إليها المزيد من الدماء. \r\n \r\n \r\n ومن هذه الأرض المدمرة الكئيبة، بدأ الحريري في إعادة إعمار بيروت. وبيروته الجديدة هي ساحة الاحتفالات الشجاعة بمتاجرها الأنيقة ومطاعمها الفخمة ومقاهيها الجميلة على الرغم من مقتل الحريري والأزمة المستمرة والمفجرين الأشرار الذين يحاولون إشعال فتيل الحرب الأهلية من جديدة. \r\n \r\n \r\n إن مجرد عدم نشوب حرب لبنان مجدداً بمقتل الحريري إشارة على نضوج الناس وحكمتهم، وبخاصة ذلك البحر الهائل من الشباب اللبنانيين الذين تعلموا في الخارج خلال سنوات الصراع والذين لن يحتملوا حرباً أهلية أخرى. ولذلك أعتقد أن اللبنانيين على صواب في مواجهتهم لشياطينهم وأشباحهم. فليحتفل اللبنانيون بذكرى الحرب، وليذهب الأشباح إلى الجحيم. \r\n \r\n \r\n