فمن جانبها كانت فرنسا ترغب في إعادة تأسيس منطقة نفوذ لها في لبنان على غرار ما كان عليه الوضع في الفترة التالية لاستقلال لبنان. أما الولاياتالمتحدة فقد أيدت القرار لأنها تريد من لبنان أن يكون أكثر استجابة، كما تريد إضعاف سوريا، وانهيار العلاقة الثلاثية القائمة بين كل من لبنان وسوريا وإيران، وأن يصبح لبنان جاراً أكثر أماناً بالنسبة لإسرائيل، كما تريد في النهاية تعزيز وزيادة النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط والمنطقة. \r\n ولكن القرار فشل في تحقيق الهدف منه. فالهدف المباشر للقرار كان هو منع حلفاء سوريا في البرلمان اللبناني، من تمرير قرار بالموافقة على تمديد ولاية الرئيس اللبناني الحالي أميل لحود الموالي لدمشق لمدة ثلاث سنوات أخرى. ولكن القرار لم ينجح في تحقيق هدفه، حيث تم التمديد فعلا للحود لثلاث سنوات إضافية، كما استمر الوجود السوري داخل لبنان. \r\n والآن تتحدث الولاياتالمتحدة عن قيامها برفع سقف المخاطر عن طريق الإقدام على تجميد الممتلكات الشخصية للمسؤولين اللبنانيين والسوريين غير المتعاونين معها، إلى أن يتم خروج آخر جندي أجنبي من لبنان. ويعتقد على نطاق واسع أن التهديدات الأميركية هذه، هي التي عجلت باستقالة رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري الأسبوع الماضي من منصبه، خصوصاً وأن الرجل يمتلك مصالح مالية هائلة في الولاياتالمتحدة الأميركية. \r\n \r\n وهذا الجهد الذي اعتمد على إبراز العضلات، والذي حاولت الولاياتالمتحدة من خلاله إجبار سوريا على الخروج من لبنان، قد يبدو مقبولا في نظر البعض، بل وقد يبدو مجهوداً سامياً بالنسبة للولايات المتحدة، خصوصاً وأنها قد قامت بتغطية مشروعها الشامل في المنطقة بغطاء ديمقراطي. \r\n \r\n بيد أن المشكلة بالنسبة لهذا المجهود هي أنه يمكن أن تترتب عليه عواقب وخيمة، مثل تلك التي نواجهها حالياً في العراق. والسبب في ذلك هو أن العالم العربي عالم معقد، وذو ثقافة قديمة، وبالتالي فإن أي مشروع لإعادة صياغته يمكن أن يمثل محاولة خطرة من ناحية، وغير معروف نهايتها من ناحية أخرى. \r\n \r\n وعلاوة على ذلك، فإن العلاقات التي تربط بين سوريا ولبنان هي في الحقيقة علاقات وثيقة من ناحية التاريخ والجغرافيا والنسيج الديني الاجتماعي، ما يعني أن أية محاولة تقوم بها دولة أجنبية بما فيها الولاياتالمتحدة الأميركية ذاتها لهز استقرار أية دولة من الدولتين يمكن أن يترتب عليها هز استقرار الأخرى كذلك. \r\n \r\n لما يزيد على ثلاثة عقود لعبت سوريا دوراً مؤثراً وقوياً في لبنان. وكانت سوريا قد قامت بإرسال قواتها إلى لبنان في منتصف السبعينيات خلال الحرب الأهلية التي اندلعت هناك. وفي ذلك الوقت قام الرئيس حافظ الأسد الذي لم يكن قد مضى عليه في الحكم أكثر من 4 سنوات، بإرسال قواته على مضض عبر الحدود، لإعادة تحقيق التوازن السياسي الهش الذي كان قائماً بين المسلمين والمسيحيين. واليوم وبعد مرور زمن على ذلك التاريخ ووفاة حافظ الأسد وتولي ابنه بشار، لا يزال هناك آلاف من الجنود السوريين موجودين في لبنان. \r\n \r\n وفي الوقت الذي تحتدم فيه حربنا في العراق، قد يكون مهماً بالنسبة لنا أن نتذكر أنه قبل أن نرى ما يحدث الآن في بغداد، فإن بيروت كانت هي المدينة التي يرتبط اسمها مع الوحشية والإرهاب. فخلال سني الحرب الأهلية اللبنانية، قامت كل طائفة من الطوائف المتصارعة في ذلك البلد، بتكوين مليشياتها الخاصة، التي انخرطت في حرب دامية، كانت الولاءات والمواقف تتغير فيها بشكل دائم، وكان المدنيون هم الضحايا في جميع الأحوال. وخلال تلك المعارك لقي عدد كبير من رجال الدين والمعلمين الغربيين مصرعهم، كما تم اغتيال رئيسين لبنانيين، وتعرضت السفارة الأميركية ومساكن ملحقة بها إلى الهجوم، كما تعرض مقر قيادة \"المارينز\" للنسف بالسيارات المفخخة التي كانت في ذلك الوقت تكتيكاً جديداً، جرى فيما بعد التوسع في تطبيقه وإتقانه في لبنان، قبل أن يصبح هو التكتيك المتبع حالياً في جميع أنحاء العراق. \r\n \r\n وانتهت المأساة اللبنانية في خاتمة المطاف باتفاق الطائف الذي تم التوصل إليه بوساطة سورية سعودية، بيد أن عملية إعادة البناء ومداواة الجراح، في ذلك البلد لا زالت أبعد ما تكون عن الانتهاء. \r\n \r\n واليوم نجد أن سوريا التي تمت دعوتها رسمياً بموجب اتفاق الطائف للدخول إلى لبنان، لا زالت تحتفظ بنفوذ كبير، بحكم وجودها هناك على الأرض وبحكم العلاقات التاريخية التي تربطها به. \r\n \r\n والتهمة التي تقول إن السوريين قد استغلوا وجودهم هناك، لتحقيق أهدافهم الخاصة، التي تمثلت بشكل أساسي في تعزيز أوضاعهم في الصراع مع إسرائيل، واسترداد مرتفعات الجولان من السيطرة الإسرائيلية. هي تهمة صحيحة في الأساس، وإن كان عدد القوات السورية الموجود الآن في لبنان هو أقل من نصف أكبر عدد وصلت إليه تلك القوات من قبل وهو 35 ألف جندي. \r\n \r\n ولا أحد يعرف ماذا سيكون عليه رد الطوائف اللبنانية المختلفة من شيعة وسنة ومسيحيين وغيرهم، إذا ما قامت سوريا بالجلاء عن لبنان كلياً وخصوصاً أن العوامل التي هزت استقرار لبنان عام 1975، وأدت إلى اندلاع الحرب الأهلية فيه، لازالت موجودة حتى الآن، بل ويمكن القول إنها قد أصبحت أكثر التهاباً من بعض النواحي مقارنة بما كان عليه الوضع في الماضي، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي: \r\n \r\n 1- أن الانبعاث الإسلامي أصبح يمثل اليوم ظاهرة عالمية. فالتدخلات الإسرائيلية والغربية في لبنان منذ حقبة السبعينيات، والتدخلات السوفيتية والأميركية في أفغانستان في حقبة الثمانينيات، والمواجهات الأميركية مع العراق طيلة حقبة التسعينيات، والحرب التي تخوضها ضدها في الوقت الراهن قد ساهمت جميعاً في تشجيع نمو مكونات ذلك الانبعاث. ولبنان - كما هو الحال الآن في العراق- كان يمثل يوماً من الأيام نقطة جذب للإرهابيين وهو أمر مرشح للتكرار ثانية. \r\n \r\n 2- أن الفلسطينيين في لبنان والذين قلبوا التوازن الذي كان قائماً في لبنان لمصلحة المسلمين، قد وصلوا منذ السبعينيات إلى حالة من اليأس من إمكانية التوصل إلى حل عادل لقضيتهم. كما أن وجود آرييل شارون الذي قاد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، ولعب دوراً في المذابح التي وقعت في المخيمات الفلسطينية، على رأس السلطة في إسرائيل حالياً، يعتبر عامل استفزاز يمكن أن يؤدي إلى انفجار غضب الفلسطينيين. \r\n \r\n 3- على الرغم من أن الزخارف الديمقراطية اللبنانية التي غطت على (النزعة الحربية) الكامنة للزعماء اللبنانيين قبل اندلاع الحرب الأهلية، قد تم إدخال تحسينات عليها، إلا أن القيم المشتركة التي تقوم على الاستعداد للتسويات والحلول الوسط وهي القيم الضرورية لبناء مؤسسات ديمقراطية قادرة على البقاء لا تزال غائبة عن لبنان. علاوة على ذلك نجد أن نقاط الصراع الطائفي والجهوي والديني لا زالت موجودة، كما أن أمراء الحرب لا يزالون موجودين أيضاً. \r\n \r\n بصراحة يمكن القول إن الاحتمال الأكثر ترجيحاً بالنسبة للزعماء اللبنانيين هو القبول بنمط الوصاية السورية، وتفضيله على العودة إلى العهد الفرنسي، أو الدخول في عصر السلام الأميركي. \r\n \r\n وما يحدث في العراق اليوم كفيل بإيقاف أي تفكير متعلق بإجراء عملية تحول كاملة بين عشية وضحاها على أيدي قوى أجنبية غربية. ولهذا يغدو حل المشكلات المزمنة في المنطقة، مثل وضع حد لمعاناة الشعب الفلسطيني المحروم وإنهاء العداوة القائمة بين اليهود والعرب، وتحقيق النمو الاقتصادي يغدو كل ذلك نهجاً أكثر أمناً في التعامل مع هذه المنطقة المضطربة. \r\n \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\"