وفي الحقيقة فإن «وولفويتز»‚ شخصية مثيرة للكثير من الجدل والخلاف‚ فبصفته نائباً لوزير الدفاع‚ فإن السبب الرئيسي لشهرته -أو لسوء سمعته بالأحرى- كونه مهندساً أول للغزو الأميركي على العراق‚ فما أن وقعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر على كل من نيويوركوواشنطن‚ حتى بدأ «وولفويتز» حملة ترويج منظمة‚ لفكرة شن حرب أميركية على العراق‚ متعللاً في ذلك بأن صدام حسين‚ يمثل خطراً على الأمن القومي الأميركي‚ أكثر جدية مما يمثله أسامة بن لادن! أما فكرة «تغيير نظام بغداد»‚ فهي فكرة ظل يروج لها «وولفويتز»‚ على امتداد الجزء الغالب من عقد التسعينيات كله‚ وقد تحقق له ما أراد بالفعل‚ في التاسع عشر من شهر مارس من العام قبل الماضي 2003 ‚ \r\n \r\n \r\n \r\n ففي ذلك التاريخ‚ غزت الولاياتالمتحدة العراق واحتلته‚ وتحت طائلة ذلك الغزو‚ لقي أكثر من 10 آلاف عراقي حتفهم‚ وأطيح بنظام الحزب الواحد الحاكم في بغداد‚ بينما جرى تفكيك مؤسساته‚ وتسريح جيشه وقواته‚ وبات الآن يواجه خطر التمزق الداخلي‚ وعقب تلك الحرب‚ لم تقم قائمة للعراق‚ بوصفه قطباً عربياً بارزاً للقوة العسكرية‚ كما كان من قبل‚ ومع زوال تلك القوة العسكرية‚ جرى إضعاف العالم العربي بأسره‚ عودة إلى «وولفويتز»‚ فإن الكثيرين من العراقيين‚ والعرب الآخرين‚ يتشوقون لرؤية «وولفويتز» معلقاً على حبل المشنقة‚ بسبب ما فعله بالعراق‚ وبصفته مجرم حرب من الطراز الأول‚ لكن وبدلاً من ذلك‚ فقد كوفئ «وولفويتز»‚ وها هو يتولى الآن رئاسة أكبر مؤسسة مالية دولية معنية بمهام التنمية‚ \r\n \r\n \r\n \r\n وبهذه المناسبة‚ فإن علينا أن نتساءل عن ماهية الأفكار الرئيسية التي شكلت فكر «وولفويتز» وزملائه من المحافظين الجدد وصقور واشنطن؟ أولى هذه الأفكار وفي مقدمتها على الإطلاق‚ الاعتقاد الراسخ لدى أفراد هذا المعسكر‚ بتطابق المصالح الأميركية والإسرائيلية‚ فما يصب في خانة مصلحة إسرائيل‚ لابد بالضرورة أن يصب في خانة مصلحة الولاياتالمتحدة الأميركية أيضاً‚ أما الفكرة الرئيسية الثانية فتتلخص في عناد ومثابرة الدعوة لاستخدام القوة العسكرية الأميركية‚ في عملية إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط‚ بما يخدم مصالح كل من إسرائيل والولاياتالمتحدة معاً‚ لذا فقد مثلت الإطاحة بنظام صدام حسين‚ خطوة البداية نحو التحول الجذري للمنطقة بأسرها‚ وإعادة قولبتها وتشكيلها‚ بحيث تكون مؤيدة وتابعة لكل من الدولتين المذكورتين أعلاه‚ أما نظام صدام حسين‚ فقد كان ينظر إليه من ناحية‚ على أنه مصدر تهديد أمني مستمر لإسرائيل‚ علاوة على ما يمثله من خطر على الهيمنة الأميركية الإقليمية على دول منطقة الخليج العربي الغنية بالموارد النفطية‚ من الناحية الأخرى‚ وكان الاعتقاد السائد لدى دوائر المحافظين الجدد‚ أن إزالة نظامه ستزيل معها كلا المهددين المشار إليهما‚ \r\n \r\n وتتلخص الفكرة الثالثة في أن يتبع «تغيير الأنظمة» بدءاً بالعراق‚ على أن تتلوه كل من سوريا وإيران‚ وربما يطال كلاً من مصر والمملكة العربية السعودية مشروع فرض الديمقراطية واقتصاد السوق الحرة في جميع هذه البلدان‚ ويتبع هذا الاعتقاد ويستكمله الزعم بأن هذا التحول المفروض من الخارج‚ يمثل السبيل الأنجع والأكثر فاعلية‚ لتجفيف منابع «الإرهاب الإسلامي الأصولي»‚ والحد من خطر نموه وانتشاره‚ ثم يستنتج من هذا‚ افتراض آخر‚ مؤداه أن السبيل الأفضل لحماية الأمن القومي الأميركي‚ هو المضي قدماً في إصلاح العالمين العربي الإسلامي‚ مع جواز استخدام القوة في فرض هذا الإصلاح‚ إن دعت الضرورة‚ \r\n \r\n إلى هنا نكون قد بلغنا الفكرة الرابعة وهي التي قلما تناولتها وسائل الإعلام وتتلخص في أن المكاسب الاستراتيجية الأميركية‚ ربما تتحقق على نحو أفضل في العراق‚ فيما لو جرت عملية خصخصة احتياطات النفط العراقية‚ تحت سيطرة ورقابة شركات النفط الأميركية‚ توازي هذه الفكرة‚ رغبة جامحة في إخراج العراق من عضوية منظمة الدول المنتجة والمصدرة للبترول «أوبيك»‚ مما يعني تجريد العالم العربي من سلاح السيطرة على السوق النفطية العالمية‚ علماً بأن هذه السيطرة هي التي تمنح العرب مصدر قوتهم وقدرتهم على معارضة السياسات الأميركية إزاء المنطقة‚ لا سيما سياساتها إزاء النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني‚ \r\n \r\n لكن وكما يعلم الجميع الآن‚ فإن الأمور في العراق‚ لم تمض في الاتجاه الذي قدره لها فريق المحافظين الجدد وصقور واشنطن‚ فتحت تأثير حمى حماسه الزائد لفكرة «تغيير النظام» في العراق‚ أخطأ «وولفويتز» خطأً فادحاً في تقدير المصاعب والعقبات الكثيرة التي تعترض هذه العملية‚ من ذلك ظن «وولفويتز» مثلاً أن الجنود الأميركيين سيتم استقبالهم استقبال الأبطال الفاتحين‚ وأن العراقيين سيتناولونهم بالأحضان والبسمات العريضة ومواكب الهتاف والتصفيق وباقات الورود‚ كما أخطأ «وولفويتز» أيضاً في تقدير عدد الجنود الأميركيين الذين يلزمهم خوض مغامرة عسكرية بكل هذا الحجم والتعقيد والشراسة‚ كما فات على «وولفويتز» أن يرى ويتنبأ باندلاع حرب العصابات الطويلة‚ التي لا يزال العراق غارقاً فيها‚ دون أن تحقق الولاياتالمتحدة فيها نصراً حاسماً بعد‚ \r\n \r\n هذا وتقول الحسابات العملية على أرض الواقع‚ إن تلك الحرب كلفت الولاياتالمتحدة الأميركية‚ مبلغاً ضخماً مقداره 225 مليار دولار حتى الآن‚ بينما بلغت خسائرها البشرية بين الجنود الأميركيين الذين لقوا حتفهم في المواجهات والعمليات الانتحارية التي تستهدفهم هناك‚ ما يزيد على 1500 جندي‚ إضافة إلى إصابة آلاف آخرين بإصابات خطيرة بليغة‚ وبعد هذا كله وفوقه‚ فإن العراق لا يبشر بأن يكون ذلك العميل الأميركي‚ ولا تلك الدولة الصديقة والحليفة لإسرائيل‚ التي طالما دغدغت أحلام وأخيلة المحافظين الجدد في واشنطن! إجمالاً يمكن القول إن أميركا لم تجن الثمرة التي حلمت بها في العراق‚ بقدر ما أهدرت كلاً من مواردها المادية والبشرية‚ ودلقتها في بحر من العدم والسراب‚ ولم تبلغ في العالمين العربي والإسلامي‚ مشاعر الكراهية والعداء للولايات المتحدة‚ هذا الشأو الذي بلغته الآن‚ قياساً إلى أي فترة مضت‚ في تاريخ العلاقات الأميركية العربية الإسلامية‚ \r\n \r\n ولعل المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية‚ هي الكاسب الوحيد من غنيمة تدمير العراق‚ ذلك أن هزيمة العراق واحتلاله عسكرياً‚ قد سلبا سوريا عمقاًَ أمنياً استراتيجياً‚ كثيراً ما عولت عليه‚ ونتيجة لتدمير القوة العسكرية العراقية‚ فقد انقشعت سحابة الخوف من ذلك التهديد الأمني المحتمل من الجبهة الشرقية وهو تهديد كانت تتوقع له تل أبيب أن يأتيها من كل من العراق وسوريا‚ مع احتمال دعم إيراني غير مستبعد فلم يعد يقض مضجعها ذلك التهديد‚ ولم تعد تخشى بعد زواله شيئاً‚ \r\n \r\n ويكمن الخوف كل الخوف الآن‚ إثر تعيين «وولفويتز» رئيساً للبنك الدولي‚ فيما إذا كان سيسخر القوة الاقتصادية الجبارة لهذه المؤسسة الدولية‚ في الترويج والدفع بأجندته السياسية التي كان يسوق لها‚ يوم أن كان الرجل الثاني في وزارة الدفاع الأميركية؟ وعلى ذكر «البنتاغون» فمن المتوقع أن يغادر أروقتها خلال هذا الصيف أيضاً‚ «دوغلاس فيث»‚ الرجل الثالث في الوزارة‚ بحكم منصبه كمساعد وزير ثالث في السياسات الدفاعية‚ علماً بأنه من أشد المحافظين الجدد‚ حماساً وولاءً لإسرائيل‚ كما انحسر في الوقت ذاته‚ نفوذ «ريتشارد بيرل»‚ الرئيس السابق لمجلس السياسات الدفاعية بالوزارة‚ بكل ما عرف عن «بيرل»‚ من حماس وفورة وطوباوية المحافظين الجدد‚ \r\n \r\n وعلى الرغم من أن تأثير المحافظين الجدد لا يزال قوياً في مكتب نائب الرئيس‚ «ديك تشيني»‚ إلا أنهم خسروا هيمنتهم السابقة على وزارة الدفاع التي يقودها «رامسفيلد»‚ بيد أن أفكارهم لا تزال تسيطر على فكر الرئيس بوش‚ لا سيما تلك الفكرة المتعلقة بحملة نشر الديمقراطية على نطاق العالم‚ كترياق يحول دون قدرة المتطرفين الإسلاميين على شن هجمات جديدة على الولاياتالمتحدة الأميركية وأمنها القومي‚ هذا ويمكن القول إجمالاً إن ثمة إعادة توزيع وفرز جديد للسلطة والقوى‚ تجري في واشنطن الآن‚ غير أنه لا يزال مجهولاً حتى الآن‚ ما تمخضت عنه إعادة التوزيع هذه‚ \r\n