فالحرب والعسكرة لم تكن ممكنة لولا أحداث 11 أيلول/سبتمبر كونها رجحت كفة \"اليمين الجديد\" في التوازنات المؤسساتية. لكنه كان من الممكن تصوّر أجوبة أخرى أقل تهديداً لاستقرار النظام الدولي: مثلا تعزيز فعلي للتعاون المتعدد الطرف لاحتواء التهديدات بالتزامن مع سياسة تهدف إلى تخفيف حدة التوتر وإيجاد حلول للنزاعات في المناطق المتفجرة وخصوصاً في الشرق الأوسط. أو أيضاً بذل جهود في سبيل التنمية الإقليمية على غرار مشروع مارشال وهذا من شأنه تشجيع القوى الديموقراطية المحلية ودفع الاقتصاد العالمي والأمريكي إلى الأمام في صورة أفضل مما ستفعله الحرب. \r\n \r\n والمعروف أن هذه الوسائل لم تنتهج بل على العكس فإن إدارة بوش تركت الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يتدهور وأطلقت حملة تعبئة عسكرية واسعة في خيارها للحرب \"الوقائية\" كوسيلة للتحكم الشامل. وفي ما يتعدى الأسباب الظرفية الإفادة من الفرصة الاستراتيجية لإعادة ترتيب الشرق الأوسط والخليج العربي [2] فإن هذا الخيار يعكس طموحاً إمبراطورياً أكثر اتساعاً. وكما يشير السيد اناتول ليفن من مؤسسة كارنجي في واشنطن، \"بعدما روّج له باستمرار منذ انهيار الاتحاد السوفيتي مطلع الثمانينات على أيدي مجموعة من المثقفين المقربين من ديك تشيني وريتشارد بيرل، يهدف المخطط الأمريكي إلى السيطرة الأحادية على العالم عبر التفوق العسكري المطلق\" [3] . \r\n \r\n إن هذا المشروع الذي بات ممكن التحقيق بعد الأحادية التي تحققت عام 1991، يرجع في الواقع إلى السبعينات. ففي تلك الفترة تشكل تحالف المتطرفين الذي يمسك اليوم بزمام السلطة. وكان برنامجه السياسي ينص على توحيد المجتمع من خلال الحرب والتعبئة الدائمة وتأمين التفوق الأمريكي الاستراتيجي الشامل. بعدما أصبح واضح المعالم اليوم في سعيه الدائم إلى تعيين العدو وإقامة دولة مستقلة عن المجتمع، كان هذا المشروع ظاهرا في منتصف السبعينات عندما حاول اليمين الراديكالي تخريب سياسة الانفراج بين الغرب والشرق. وقد اتضحت تفاصيله في الثمانينات عندما قامت المجموعة نفسها بأوسع تعبئة عسكرية عرفتها الولاياتالمتحدة في زمن السلم، وفي مطلع التسعينات عندما طرح المحافظون الجدد عقيدة التفوق [4] . \r\n \r\n كانت مرحلة تخريب الانفراج بين الشرق والغرب بمثابة اللحظة التأسيسية. ففي ردة فعل على تمرد المجتمع ضد دولة الأمن القومي، حصل في منتصف السبعينات تلاق بين اليمين الراديكالي في الحزب الجمهوري بقيادة السيد رونالد ريجان وعناصر من جهاز الأمن القومي تسعى للثأر من هزيمة فيتنام، والمحافظين الديموقراطيين الجدد المنبثقين من الجناح المتشدد المعادي للشيوعية داخل هذا الحزب. كان التحالف مصمما على استعادة سلطة الدولة والتوافق الوطني إبان الحرب الباردة وترميم التفوق الاستراتيجي لبلادهم، فعمد إلى انتهاج ممارسة سياسية وايديولوجبة من أجل دفن الانفراج. \r\n \r\n اعترض هذا التحالف على سياسة نيكسون وكيسنجر \"الواقعية\" التي مثلت في نظرهم تراخياً خطيراً في الإرادة الجماعية الأمريكية. فاقترح تعبئة واسعة النطاق واستراتيجيا هجومية تهدف إلى كسر النظام السوفيتي. فكان المطلوب الانتقال من سياسة الاحتواء والتعايش إلى \"التدابير الفاعلة\". ويشير السيد كيسنجر إلى ذلك عندما يقول: "بينما اكتفى الأطراف الفاعلون الأول في الحرب الباردة بسياسة الاحتواء للحصول على تغييرات (في النظام السوفيتي) وعد الذين خلفوهم بتغييرات كبيرة بفضل الضغوط الأمريكية المباشرة [5] . ويقر بذلك صراحة السيد ريتشارد بيرل وهو أحد العناصر المحافظين النافذين في الإدارة الأمريكية الحالية: "كان يجب تقديم البرهان على ان الانفراج غير فعال وإعادة الاعتبار لأهداف تؤمن الانتصار". [6] وتمكن اليمين الراديكالي من فرض وجوده خلال سنوات قليلة بعد السقوط المشين لريتشارد نيكسون ووصول خليفته الضعيف جيرالد فورد إلى سدة الرئاسة. \r\n \r\n من اجل إعادة إنعاش رغبة الانتصار في نفوس الأمريكيين وتحييد أنصار التعايش المسلح (الذين لم يكونوا من \"الحمائم\" في مطلق الأحوال)، راح اليمين يزوّر المعطيات ويضخم الأخطار ويفتري على الأشخاص والمؤسسات المعارضة له ولا سيما وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية. في العام 1974 أطلق السيد البرت هولستتر، الأب الروحي للتيار المحافظ الجديد وحمو السيد بيرل، المرحلة الأولى من الهجوم عندما \"اتهم وكالة الاستخبارات المركزية بانتهاج سياسة التخفيف من خطر نشر الصواريخ السوفيتية". وفي هذا السياق \"أطلق المحافظون هجوما منسقا\" [7] يساعدهم في ذلك وزير الدفاع حينئذ السيد دونالد رامسفيلد من خلال ربيبه السيد ريتشارد تشيني، رئيس أركان إدارة فورد، بالإضافة إلى مجموعة استشارية متخصصة في الاستخبارات الاستراتيجية ومرتبطة بالبيت الأبيض President's Foreign Intelligence Advisory Board (PFIAB). \r\n \r\n أدت هذه الحملة إلى تشكيل \"الفريق ب\" في 26 أيار/مايو 1976 وهو هيئة خارجية من \"الخبراء\" كلفها السيد جورج بوش وكان عُيِّن للتو رئيسا لوكالة الاستخبارات المركزية، تقديم تقويم مضاد للمخاطر السوفيتية. والغريب في هذه المنافسة بين السي أي آي ومنتقديها (من اليمين، إذ لم يتم التوجه إلى أي طرف يساري) ان سلف السيد بوش في الوكالة السيد وليم كولبي كان رفض مبادرة من هذا النوع عام 1975 بحجة ان \"من الصعب التخيل كيف ان مجموعة مستقلة من المحللين (...) يمكن ان تحضر تقويما للقدرات الاستراتيجية السوفيتية أكثر شمولا من المؤسسة المتخصصة في الاستخبارات". \r\n \r\n تحت إدارة الخبير في الشؤون السوفيتية ريتشارد بايبس، والد خبير الدعاية المحافظ دانييل بايبس، أصدر \"فريق ب" وكان من أعضائه البارزين مساعد وزير الدفاع الحالي السيد بول ولفويتز، سلسلة من التقارير الكارثية وكانت بمثابة تركيبات ايديولوجية من دون أساس في الواقع، كما برهنت على ذلك آن هيسنغ كاهن. \r\n \r\n في نقده لمحللي وكالة الاستخبارات المركزية ومن خلالهم لسياسة الانفراج، أكد فريق السيد بايبس "ان التقديرات الاستخباراتية الوطنية مليئة بالأحكام التي لا أساس لها حول النيات السوفيتية. وهذا ما أدى باستمرار إلى التخفيف من حدة التهديد الكامن في التعبئة الاستراتيجية السوفيتية ووهجه". وكان "الفريق ب" يدعي معرفة النيات السوفيتية الحقيقية: "ان النظريات السياسية والعسكرية الروسية تتميز بالهجومية الواضحة (...) مثالهم هو علم الغزو كما يجدونه عند احد القواد الروس من القرن الثامن عشر، الماريشال سوفوروف. " في معنى آخر، ان السوفيت المزودين صواريخ نووية عابرة للقارات وثقافة استراتيجية هجومية مستوحاة من كلاوزفيتز، لم يكونوا فقط قادرين على شن هجوم وقائي ضد الولاياتالمتحدة بل ان لديهم نزعة ثقافية في هذا الاتجاه". \r\n \r\n لقد تم ببساطة اختراع هذه التعميمات السخيفة والمجافية للحقيقة كانت النفقات العسكرية السوفيتية بدأت تتراجع عام 1975 مع نسبة نمو تقدر ب 1،3 في المئة سنويا بين 1975 و1985 [8] من اجل تغيير ميزان القوى داخل المؤسسات الأمريكية. وبحسب السيد هوارد ستورتز المسئول في تلك الفترة عن تحليل الأوضاع السوفيتية في وكالة الاستخبارات المركزية، فإن إدارة جورج \"شكلت كارثة مطلقة للوكالة" [9] ، لكنها مثلت نجاحا مهماً لليمين الراديكالي ولعبت دورا حاسما في التخلي عن الانفراج عام 1976، السنة التي اختفت فيها هذه العبارة من القاموس الرسمي. وخلال الحملة الانتخابية الرئاسية عام 1976، تبنى السيد رونالد ريجان لفظية \"الفريق ب\": \"تحولت هذه الأمة إلى الرقم 2 في عالم يكون من الخطير لا بل من المميت ان تكون ثانيا". \r\n \r\n كما هو معروف، فإن مخترع عبارة \"إمبراطورية الشر\" استمر في سعيه بعد سنوات ليدخل في فريق عمله بعض الرموز من عهد الرئيس فورد ابتداء بالسيدين بيرل ووولفويتز، ليطلق حملة دفاعية واسعة ومن اجل إعادة العمل بالعمليات السرية الواسعة النطاق التي أوقفت بعد هزيمة فيتنام، خصوصاً في أفغانستان وأمريكا الوسطي. \r\n \r\n في آذار/مارس 1983، أعاد رونالد ريجان النظر في الهندسة العامة للأمن النووي التي إقامتها إدارة نيكسون والمؤسسة على معاهدة حظر الصواريخ النووية العائدة للعام 1971. وقد أطلق في المقابل مبادرة الدفاع الاستراتيجي، وهو برنامج أبحاث وتطوير يهدف إلى إنشاء الدرع الأرضية والفضائية المضادة للصواريخ. في الوقت نفسه، أطلق البيت الأبيض عمليات تقصٍّ هجومية حول الاتحاد السوفيتي ومجاله الجوي وقد اعتبرت بمثابة \"استفزازات سياسية كبيرة\" بحسب احد محللي وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والمقصود بها إظهار نقاط ضعف أنظمة الدفاع السوفيتية [10] . \r\n \r\n كرست نهاية الحرب الباردة عام 1991 التفوق الاستراتيجي الأمريكي مما أعطى الولاياتالمتحدة الحق الحصري في اللجؤ إلى القوة لحل النزاعات بين الدول. لكن وبالتزامن مع ذلك فإن انهيار الاتحاد السوفيتي ألغى مبرر حال الطوارئ القومية مع غياب العدو المجرم. وكما كتب باحثان أمريكيان شماليان، \"كان يمكن الاعتقاد ان المحافظين الجدد سيفرحون بموت عدوهم". لكن ذلك لم يحصل. ففي هوسهم من انفراط التعبئة الوطنية، \"واهتمامهم قبل كل شيء بالشرعية السياسية والثقافية للنظام الأمريكي\"، راحوا يحثون عن \"شيطان جديد قادر على توحيد الشعب(...) عدو تجب محاربته ويذكّر هذا الشعب بأن ثقافته ومجتمعه معرضان للخطر [11] . \r\n \r\n جاءت حرب الخليج عام 1991 واستبدال \"الدول المارقة\" بالاتحاد السوفيتي كعدو استراتيجي شامل لتتيح المجال أمام إعادة التعبئة الوطنية كما سمحت بالمحافظة على الأرخبيل العسكري الكوني للولايات المتحدة وتوسيعه. وتبعا للسيد تشيني الذي كان وزيرا للدفاع فإن هذه الحرب \"تمثل الصورة الأولى لنوع النزاعات التي سنشهدها في العهد المقبل (...) إضافة إلى جنوب غرب آسيا لدينا مصالح كبيرة في أوروبا وآسيا ومنطقة المحيط الهادئ وأمريكا اللاتينية والوسطي. علينا ترتيب سياساتنا وقواتنا بحيث تتمكن من ردع أو التغلب بسرعة على مخاطر إقليمية مستقبلية من هذا الطراز" [12] . \r\n \r\n بعد أشهر معدودة، تقدم كل من وولفويتز، مساعد وزير الدفاع الحالي، ولويس ليبي، مستشار السيد تشيني للشئون الأمنية، ب\"دليل السياسة الدفاعية" 1992-1994 وفيه يدعوان \"إلى منع أي دولة معادية من السيطرة على مناطق يمكن مواردها ان ترفع هذه الدولة إلى مصاف القوة العظمى\"، و\"تثبيط عزيمة الدول الصناعية المتقدمة عن المحاولة لتحدي زعامتنا أو لقلب النظام السياسي والاقتصادي القائم\" و\"العمل على عدم بروز أي منافس كبير في المستقبل" [13] . \r\n \r\n من خلال تحويل الحرب بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001 من مكافحة الشبكات الإرهابية المافوق وطنية إلى مواجهة مع \"محور الشر\"، تتابع إدارة بوش الحالية مشروعا سياسيا واستراتيجيا تم تحديده في السبعينات وأعيدت بلورته في مطلع التسعينات من اجل ان يتوافق مع حقبة ما بعد الحرب الباردة. فعقيدة الحرب الوقائية التي أعلن عن تبنيها رسميا في أيلول/سبتمبر 2002 تشكل بالطبع قطيعة مع عقيدة الاحتواء والردع التي كانت الإدارة الأمريكية ثابتة في انتهاجها. لكنها تندرج في سياق مثابرة اليمين الراديكالي والقومي والمحافظ الجديد في الولاياتالمتحدة لبسط نفوذه من طريق الحرب. وكما قال السيد وليم كريستول، المنظّر المحافظ الجديد ومؤسس \"مشروع من اجل قرن أمريكي جديد\"، \"أنها دائما إشارة جيدة عندما يكون الشعب الأمريكي مستعدا لخوض الحرب" [14] . \r\n