وهزات بعدها قذفت بنا وجعلتنا نصرخ لا إراديا مع حدوثها، وكان كل من معه من الصحافيين يصرخ ويشهق غير مصدق لما يراه. وقد طال القصف المتكرر واحدا من القصور الرئيسية عبر النهر، ومبنى قبيحا يأخذ شكل المعابد الهرمية القديمة، في بابل وآشور، مكوناً من عشرة طوابق، كذلك حدثت عدة انفجارات هائلة في مبنى مجلس الوزراء العملاق، وارتفعت ألسنة النيران فوق المدينة، وانفجرت عدة قنابل أخرى في أماكن بعيدة. \r\n \r\n \r\n وبدا للصحافيين أن مبنى المخابرات العراقية أصيب أيضا. وأضاءت السماء كرات نار هائلة تبعتها ومضات ضوء بيضاء، وتطايرت الأنقاض في الهواء من المباني التي تعرضت لإصابات مباشرة واندفع صاروخ من طراز «كروز» ليقتلع سقف مبنى مجلس الوزراء الذي كانت النيران قد اندلعت فيه من قبل، وعندئذ تصاعدت شعلة نار برتقالية اللون وهائلة الحجم. \r\n \r\n \r\n واستمر استعراض النيران نحو نصف الساعة في سلسلة متصاعدة من التفجيرات والضجيج تعقبها لحظات صمت حتى تبدأ السلسلة الأخرى، ومع كل انفجار كانت تنطلق أبواق السيارات في الشوارع. وتحول لون السماء الليلي الأزرق إلى أعمدة مليئة بالدخان الأسود والرمادي، ولكن فندق الرشيد بقي سالماً. واستمر الهدوء أربعين دقيقة. \r\n \r\n \r\n ثم في العاشرة وخمس وثلاثين دقيقة اقترب فوق رؤوس الصحافيين صوت معدني يشق السماء حتى أنهم سحبوا أنفسهم واستلقوا على أرض الشرفة التي يقفون فيها، وبعد لحظات رأوه ينفجر في مبنى بعيد، وتبينوا فيما بعد أنه صاروخ «كروز» مر فوقهم بالضبط من خلال الممر الهوائي بين فندقي فلسطين والفنار. \r\n \r\n \r\n وبعد دقيقتين ضربت خمسة صواريخ أخرى القصور المقابلة للفندق، ومرة أخرى بدأ سيل جديد من النيران وكان سيل من الصواريخ والقنابل قد قصف الأجزاء السليمة من المجمع والمباني الرئاسية حول المدينة.واندفع جون أندرسون إلى غرفة في الجانب الآخر من الفندق ليشاهد قصور صدام حسين وهى تشتعل بالنيران، وارتفع الدخان من بعيد. \r\n \r\n \r\n ويصف المؤلف الموقف قائلا: «قوة القصف الهائلة وحجم ودقة تصويب الهجمات كانت مفزعة ومثيرة للذعر وجعلتنا نعاني من حالة ذهنية مؤداها أن أي شيء يمكن أن يحدث». \r\n \r\n \r\n بغداد تحت النار \r\n \r\n \r\n في صباح يوم السبت 22 مارس، وبعد عملية القصف المروعة الليلية يوم الجمعة، شعر المؤلف بأن الجو في بغداد كان ينبئ عن نوع من الشيزوفرنيا..كانت حركة المرور في الشوارع عادية ولكن انتشر جنود كثيرون،وظلت ألسنة الدخان تتصاعد من قصور صدام التي أصابها القصف. \r\n \r\n \r\n ويلاحظ المؤلف أن العراقيين لم يتجمعوا ليشاهدوا الدمار الذي لحق بها ولكنهم كانوا يكتفون بإلقاء نظرات جانبية عابرة، وكأن المفروض ألا يراقب الناس تلك القصور.وعندما حاول أندرسون أن يداعب سائقه صباح ذلك اليوم لاحظ أنه متجهم، ولا يريد الحديث في موضوع غارات الأمس. \r\n \r\n \r\n على الرغم من أنه ليس من المؤيدين لصدام حسين، وعندئذ يدرك الكاتب الصحافي أن حجم وعنف غارات الليلة السابقة ضد قلب سلطة الدولة لابد وأنه كان إهانة مذلة للمواطن العراقي، ولا يستطيع أن يتحملها، مهما كان شعوره إزاء صدام حسين نفسه. \r\n \r\n \r\n وبدا للمراسلين الصحافيين أن وزارة الإعلام تنوى الانتقال إلى فندق فلسطين حيث يقيمون، فقد طلب عدي الطائي نائب وزير الإعلام العراقي ومساعده محسن، حجز غرف في أحد الطوابق العلوية. وجاء عدد قليل من موظفي الوزارة إلى بهو الفندق ووضعوا طاولة للاستعلامات ولوحة للصحافيين ويبدي أندرسون دهشته من أنهم لم ينبسوا بكلمة واحدة عن غارات الليلة الماضية. \r\n \r\n \r\n وانصرفوا وكأن شيئا لم يحدث إلى أن جهزوا في وقت مبكر من المساء حافلة لتقوم بجولة للمراسلين ليشاهدوا بعض ضحايا الغارات، وتوجهت بهم إلى الكلية المستنصرية الطبية التي تلقت أول دفعة من ضحايا الحرب في بغداد.وقال أحد الأطباء لمؤلف الكتاب إن المستشفى تلقى 107 مصابين في الثماني والأربعين ساعة التي تلت بدء الحرب. \r\n \r\n \r\n وقد مات ثلاثة منهم، ويعاني كثير من المرضى من إصابات حادة من شظايا القنابل، وبعضهم يعاني من حروق. وذكر الطبيب أن بين المصابين أطفالا يرثى لحالتهم، ويصفهم أندرسون بأنهم استلقوا على الأسرة مستسلمين، وهم يلاحظون الصحافيين في صمت، بينما جلس أهاليهم بجوارهم وقد بدا عليهم الحزن. \r\n \r\n \r\n وفي أحد العنابر المزدحمة بالمرضى رأى أندرسون طفلة لا يتجاوز عمرها أربع سنوات أو خمساً وهى تتأوه من الألم، وأخبره الطبيب بأنها مصابة بشظية في ظهرها، وعلى السرير المجاور رقدت امرأة بدوية رفعت يديها الملفوفتين بالشاش إلى أعلى، وقد امتلأت ذراعاها بجروح خطيرة. \r\n \r\n \r\n واستلقى طفل على سرير آخر وهو يطلق عويلاً متشنجا كل بضع دقائق بسبب الإصابة الحادة في كاحليه وكعبيه، وقد تمزقت أصابع قدميه، ووقفت أمه في عباءتها السوداء إلى جوار ابنها صامتة وهى تمسك بيده. وتزيد بشاعة الصور التي ينقلها مؤلف الكتاب من قسم المصابين بالحروق. \r\n \r\n \r\n فهذا رجل في الأربعين من عمره مصاب بحروق مفزعة في عجيزته وفخذيه وساقيه وقد جلس في سريره على أربع، أي مرتكزا على يديه وركبتيه. ثم ينتقل أندرسون مع المراسلين الصحافيين إلى بقعة خضراء على نهر دجلة عبر جامعة بغداد حيث أطلقت ثلاثة صواريخ كروز لتصيب مجمعا ترفيهيا. \r\n \r\n \r\n وفي طريق عودة المؤلف إلى فندق فلسطين رأى سحبا سوداء في السماء، وعرف فيما بعد أن الدخان ينبعث من نفط محترق،وهى حيلة عمدت إليها الحكومة العراقية، لتضليل الطيارين الأميركيين والبريطانيين. وشاهد أندرسون من شرفة غرفته تلك الحرائق حول مناطق عديدة في المدينة، وأشعل بعضها على أطراف بغداد. \r\n \r\n \r\n وفي الخامسة وخمس وعشرين دقيقة من ذلك المساء بدأت القنابل تتساقط خارج العاصمة محدثة ضجيجا يشبه الرعد من بعيد. وفي المساء عاد عدى الطائي إلى تحذير المراسلين من استخدام هواتف الأقمار الصناعية أو إجراء أي مقابلات مع شبكة «سي. إن. إن» التي كان قد أمر بطرد فريقها من العراق، وعقد الطائي مؤتمرا صحافيا لكي يؤكد أيضا أن المكان الوحيد الذي يسمح باستخدام تلك الهواتف فيه هو وزارة الإعلام. \r\n \r\n \r\n ويصف أندرسون ذلك المسؤول بأنه «غوبلز» ويقول إن الصحافيين يعرفون أنه جاد في تحذيره، وخاصة بعد أن طرد عددا من الصحافيين الأجانب الذين خالفوا تعليماته، وكان آخرهم مراسل صحيفة «بوسطون غلوب» بعد ضبطه وهو يستخدم هاتفه في فندق الرشيد. ولذلك كان أندرسون وزملاؤه يخفون هواتفهم ثم يستخدمونها سرا للاتصال بصحفهم وعائلاتهم ويعودون إلى إخفائها. \r\n \r\n \r\n وقد ابتكروا وسيلة لنقل رسالة فيما بينهم كما يفعل السجناء في زنازينهم. وكان الصحافيون يحذرون بعضهم البعض بالدق على أرضية الغرف أو عبر هاتف الفندق عندما تأتي فرق التفتيش على الهواتف، ثم يعطون بعضهم إشارات بعد زوال الخطر. \r\n \r\n \r\n وبعد الحادية عشرة مساء بقليل، انطلقت صافرات الإنذار مرة أخرى، وبعد نحو ثلاثين دقيقة سمعت أصوات انفجارات ثقيلة ولم يستطع أندرسون رؤية أماكن سقوط القنابل، وفي الثانية بعد منتصف الليل صحا من نومه على صوت انفجارات قنابل جديدة قريبة من الفندق، مما أثار قلقه. \r\n \r\n \r\n وفي الصباح أبلغت وزارة الإعلام الصحافيين بالاستعداد في ظرف ساعة للذهاب لرؤية ما أسمته «شيئاً خاصاً». وتساءل الصحافيون عما عساه يكون هذا الشيء الخاص، إذ كانت التقارير تشير إلى أن القوات الأميركية الغازية من الجنوب وصلت إلى مدينة النجف على بعد مسيرة ساعتين من بغداد، ولكنها ذكرت أيضا أنها تلقى مقاومة قوية في مكان آخر وخاصة في الناصرية. \r\n \r\n \r\n ويذكر المؤلف أن سائقه نقل إليه ما يردده الناس في الشوارع عن سقوط طائرة وأسر قائدها الطيار الأميركي، وذكر له السائق شائعة أخرى عن أسر خمسة وأربعين من الكوماندوز الأميركيين والبريطانيين بعد إنزالهم بالباراشوت قرب الرمادي غرب بغداد، وأسر خمسة عشر أميركيا في الناصرية. \r\n \r\n \r\n وفي النهاية يقول أندرسون إن ذلك الشيء الخاص أسفر عن مؤتمر صحافي في وزارة الإعلام لنائب الرئيس العراقي طه ياسين رمضان. وباستثناء ظهور صدام حسين على شاشة التليفزيون العراقي لم يكن قد ظهر أي واحد من كبار المسؤولين علنا منذ بدء القصف. ومنذ الغارات المستمرة يومي الخميس والجمعة وليلة «الصدمة والترويع». \r\n \r\n \r\n ثم يوم السبت، أخذ كثير من الناس في بغداد يرددون أن صدام حسين ربما يكون قد أصيب، وذكرت أكثر الشائعات ذيوعاً أن ناجي صبري وطارق عزيز قد لقيا مصرعهما، وكان طه ياسين رمضان يرتدي الملابس العسكرية التي يرتديها كبار قادة البعث، وبدا عليه الإرهاق، ولفت نظر المؤلف أن المؤتمر الصحافي لم يعقد في المبني الرئيسي للوزارة كالمعتاد، ولكنه عقد في مبني أصغر مجاور، ووضعت منصة صغيرة في البهو على بعد مسافة قصيرة من باب الخروج. \r\n \r\n \r\n وكان من بين ما قاله إن «الحرب تسير بالنسبة لنا بطريقة رائعة.. وقد بنت الولاياتالمتحدة وبريطانيا استراتيجيتهما على معلومات من الخونة»،وأنكر رمضان إدعاءات أميركا بتقدم قواتها في ميادين القتال، وقال «فليجيئوا إلى بغداد، ولن نتصدى لهم، ولكن إذا حاولوا دخول أية مدينة في الطريق فسوف يواجهون المشكلات نفسها التي يواجهونها في الناصرية والبصرة». \r\n \r\n \r\n ووعد الصحفيين بأنهم سيشاهدون أسراهم على شاشة التليفزيون خلال ساعات»،وذكر أن ما يجرى يذكره بالثورة العربية في عام 1920 عندما لقن العراقيون «أبوناجي» درسا وكان لقب «أبوناجي» يطلق على الجندي البريطاني آنذاك.وبعد دقائق من مغادرة طه ياسين رمضان سادت حالة من الإثارة عندما انتشرت شائعة تقول إن إحدى الطائرات الأميركية أسقطت وإن قائدها هبط بالمظلة نحو نهر دجلة. \r\n \r\n \r\n البحث عن شبح \r\n \r\n \r\n انضم المؤلف إلى جمهور هائل من العراقيين الذين كانوا يهرولون مسرعين نحو ضفة النهر. ثم يحكى أندرسون قصة البحث المضني في النهر وبين أعواد القصب الكثيفة على ضفتيه، ويقول في نهاية الحكاية إنه ابتعد بعد ذلك عن المكان، وهو يشعر بأن المسألة كلها كانت واحدة من أعراض حالة الهستيريا الجماعية، وأن قائد الطائرة الذي يبحث عنه الجميع لم يكن أكثر من شبح. \r\n \r\n \r\n ويحلل جون أندرسون شعور الأعداد الكبيرة من العراقيين التي تجمعت على شاطئ النهر بحثا عن سراب فيقول: «كان هناك شيء مثير للمشاعر وراء إصرار الناس الحماسي على تصديق أن طياراً عدواً يكاد يقع في قبضتهم، غير أن نوبة الهياج الجماعي كانت شيئا مخيفا أيضا. \r\n \r\n \r\n فلقد انتابني الشك في ظهور الطيار حقيقة من بين الأعشاب، ولكن إذا تحقق ذلك الاحتمال الضئيل فقد يمزقه الناس إربا إربا»، وتساءل أندرسون عما إذا كانت لذلك علاقة بالإحساس الجماعي بعجز العراقيين عن السيطرة على مصيرهم الذي بدا في الأيام القليلة الماضية أنه أصبح تماما في أيدي الطيارين الأجانب الذين يحلقون عاليا في السماء بعيدا عن متناول أيديهم. \r\n \r\n \r\n ويلقون بقنابلهم عمدا فوق رؤوسهم».عندما غادر أندرسون المكان كانت هناك عدة حرائق أحالت خضرة الأعشاب الجميلة إلى اللون الأسود، بينما شجع حماس الناس العسكريين على مسح النهر ذهابا وإيابا في قواربهم للبحث عن العدو الذي يختبئ بينهم. \r\n \r\n \r\n وبعد الظهر اختلف الإحساس العام في المدينة مرة أخرى، وساد الأجواء شعور عارم بإدراك أبعاد الموقف، وبدأ ظهور رجال المخابرات في الشوارع الذين وقفوا عند المفارق الأساسية إلى جوار الجنود ورجال الشرطة، وأخذوا يوقفون سائقي السيارات للاطلاع على هوياتهم. \r\n \r\n \r\n وبعد أن عاد جون أندرسون إلى فندق فلسطين وجد عددا كبيرا من الناس يتجمعون حول جهاز التليفزيون في بهو الفندق، وكان يعرض لقطات لقناة الجزيرة للجنود الأميركيين الذين تم أسرهم رجالا ونساء. وقد تزامنت إذاعة هذه المشاهد مع تقارير إخبارية جديدة أكدت بعض ما ذكره طه ياسين رمضان في مؤتمره الصحافي، مثل قوله إن الأميركيين عجزوا عن التقدم بسبب القتال في عدة أماكن في الجنوب وتكبدوا خسائر كبيرة. \r\n \r\n \r\n كذلك تحدثت التقارير عن مصرع بعض المراسلين والمصورين من بينهم تيري لويد مراسل التليفزيون البريطاني الذي قتل في الجنوب «بنيران صديقة». ووسط هذه الأنباء السيئة، حدث أمر غريب، إذ وصل فريق تليفزيوني فرنسي حتى باب فندق فلسطين في سيارة يعلوها التراب جاؤوا بها من الكويت مباشرة إلى بغداد، وكان من الواضح أن أحدا لم يوقفهم. \r\n \r\n \r\n ووقف عدد من العراقيين والأجانب، وهم يحملقون في السيارة التي كانت تحمل لوحات كويتية، ويتساءلون عما يقال عن الدفاعات العراقية عن بغداد. وخجلا من هذه الواقعة ذات الدلالة أمر عدي الطائي على الفور برفع اللوحات عن السيارة أو تغطيتها بقطع من الخشب وتم احتجاز الفرنسيين في إحدى غرف الفندق للتحقيق معهم. \r\n \r\n \r\n وبعد مؤتمر صحافي عقده سلطان هاشم أحمد وزير الدفاع العراقي، وردد فيه ما سبق أن ذكره طه ياسين رمضان، أعلن عدي الطائي أن في إمكان المراسلين استخدام هواتفهم في غرفهم، الأمر الذي بعث الارتياح في نفوس الصحافيين، واعتبروه مؤشراً على استعادة وزارة الإعلام سلطاتها من أيدى جهاز المخابرات. \r\n \r\n \r\n وفي صباح اليوم الخامس للحرب أصبحت السماء بالغة السواد وغطتها سحب كثيفة من الدخان الأسود الذي تصاعد من حرائق النفط وانتشر فوق المدينة كلها وحجب أشعة الشمس. وفي المساء جمعت وزارة الإعلام المراسلين في فندق شيراتون من دون أن يعرفوا السبب في ذلك. \r\n \r\n \r\n ثم ما لبثوا أن فوجئوا بطارق عزيز، وهو يدلف إلى قاعة الاحتفالات، ولم يكن نائب رئيس الوزراء قد ظهر علنا منذ يوم 19 مارس عشية الحرب. وبدأ على الفور في تقويم الأحداث التي أدت إلى الحرب مؤكدا كما فعل من قبل أن هدف الولاياتالمتحدة وبريطانيا منها ليس أسلحة الدمار الشامل العراقية لأنهما تعرفان أن العراق لم يعد لديه شيء منها. \r\n \r\n \r\n ولكن الهدف هو احتياطي النفط الهائل الذي قال إنه الأكبر في العالم ويتجاوز ثلاثمئة مليار برميل. وقال عزيز: «لقد قرروا احتلال العراق واستيطانه،وهم يريدون إعادة تشكيل المنطقة كلها لصالح إسرائيل»، وأضاف طارق عزيز: «إن جماعة صغيرة من اليهود والمسيحيين الصهاينة ولوبي النفط، ومجمع الصناعات العسكرية، سطت على حكومة الولاياتالمتحدة، وهم يروجون للحرب في العراق من أجل أهدافهم الأنانية». \r\n \r\n \r\n وأثناء المؤتمر الصحافي انطلقت صافرات الإنذار محذرة من غارة جديدة على بغداد، ولكن عزيز تجاهلها واستمر في حديثه ليسرد حكاية الفلاح العراقي الذي استطاع في اليوم السابق إسقاط طائرة هليكوبتر من طراز «أباتشي» مستخدما بندقية قديمة. وقال طارق عزيز إن هذا الرجل استخدم بندقيته التشيكية من طراز «برنو» للترحيب بالأميركيين لا بالموسيقي ولا بالزهور. \r\n \r\n \r\n منعطف في الحرب \r\n \r\n \r\n وفي اليوم السادس للهجمات وهو يوم الثلاثاء 25 مارس هبت عاصفة ترابية أخرى على بغداد، واختلط الغبار الأصفر بدخان حرائق النفط التي ظلت مشتعلة عدة أيام، وتجللت السماء باللون الأسود والقرمزي، وبدا كما لو كانت المدينة تتعرض لشتاء نووي، ويرى جون أندرسون أن الحرب أخذت منحى جديدا في الأيام القليلة التي مضت. \r\n \r\n \r\n فقد كانت القاذفات تأتي في الليل فقط حتى يوم الأحد، أي اليوم الرابع للقصف، ولكن صهر أندرسون في إنجلترا بدأ في إرسال رسائل اليكترونية يومية إليه يخبره فيها بأوقات انطلاق القاذفات الأميركية «بي 52» كل صباح من قاعدتها في فيرفيلد. \r\n \r\n \r\n ويقول أندرسون إنه استطاع بهذه المعلومة أن يحسب بالتقريب موعد وصول القاذفات في المساء فوق مدينة بغداد، ولكن تلك الحسابات اختلت بعد أن بدأت القاذفات في قصف المدينة طوال ساعات اليوم ليلا ونهارا.وفي تحليل لمشاعر البسطاء من العراقيين مثل سائقه صباح. \r\n \r\n \r\n يقول جون أندرسون إن هذا السائق بدأ يستمتع برواية تفسيره الخاص للقصص الشائعة عن الانتصارات العراقية المفترضة في ميدان القتال، وذلك بعد أن شاهد صباح كلا من طه ياسين رمضان ومحمد سعيد الصحاف على شاشة التليفزيون، فمرة يحكي له نبأ تدمير دبابة أميركية هنا، وإسقاط طائرة «إف 15» هناك وهكذا. \r\n \r\n \r\n وقال السائق: «ربما لن يجيء بوش إلى بغداد على الإطلاق» فسأله أندرسون عن سبب اعتقاده هذا فأجاب قائلا: «لأن العراقيين أشداء» وأخذ يشد على صدره، وهو يضحك، ولكن كان صوته يفيض بالفخر. \r\n \r\n \r\n ويرى المؤلف أن تصرفه هذا هو رد فعل مفهوم، ذلك لأنك إن كنت عراقيا تعيش في بغداد في ذلك الوقت فإنك تتعرض لتجربة مهينة، فإذا واجهت مثل صباح الخيار بين الحياة الآمنة والعيشة الروتينية التي تأنسها في ظل صدام على الرغم من كراهيتك الشديدة له والحياة الجديدة المجهولة الآتية مع الأميركيين وقنابلهم المرعبة، فإنك مثل صباح سوف تختار بالغريزة الشيطان الذي تعرفه. \r\n \r\n \r\n وفي وقت متأخر من يوم الاثنين، آخر أيام شهر مارس، ذهب جون أندرسون ليرى الطبيب أسامة صالح وهو جراح عظام يرأس الخدمات الطبية في مستشفى الكندي ببغداد، وكان قد رآه منذ يومين عندما كان يزور الجرحى في مستشفاه، ولما لم يكن يجيد الإنجليزية. \r\n \r\n \r\n فإن المؤلف كان يتحدث معه بالأسبانية التي يجيدها لأن الدكتور أسامة درس الطب في كوبا في الثمانينيات وتتلمذ على يد الجراح الكوبي الشهير الدكتور رودريغو ألفاريز كامبراس، وهو أحد الثوار الكوبيين المقربين من فيدل كاسترو. وعندما قابله أندرسون في هافانا منذ سنتين قال له الجراح الشهير إنه عالج صدام حسين منذ سنوات من مرض مزمن لم يفصح عنه، كذلك كان مسؤولا عن إعادة تأهيل ابنه عدي بعد محاولة اغتياله عام 1995، واستطاع أن يعالج الشلل الذي أصابه وجعله يمشى على قدميه مرة أخرى. \r\n \r\n \r\n جثث في فندق «فلسطين» \r\n \r\n \r\n في اليوم التالي أصابت قذيفة فندق فلسطين وتجمع معظم الصحافيين على مدخله، حيث كان الناس يحملون المصابين، وعرف أندرسون أن غرفة وكالة رويترز في الطابق الخامس عشر،وأخرى في الطابق الرابع عشر، قد أصيبتا، وأن ثلاثة مراسلين أصيبوا بجروح ونقلوا إلى المستشفى. \r\n \r\n \r\n وكان معظم المراسلين يعتقدون أن الغرفتين تعرضتا لهجوم عراقي. ثم جاءت الأنباء لتفيد بأن مكتبي الجزيرة وتلفزيون أبوظبي تعرضا أيضاً للقصف، وأن أحد مراسلي الجزيرة على الأقل قد توفي. وذهب أندرسون ليدور خلف الفندق ليعاين الدمار الذي لحق به، وخيل إليه في بداية الأمر أن الفندق ضُرب من المنطقة الخلفية من قلب بغداد. \r\n \r\n \r\n مما يعني أن النيران التي أطلقت هي نيران عراقية. غير أنه يعود بعد ذلك، فيذكر أنه كان مخطئا في تقديره، إذ أصبح معروفا بعد فترة أن دبابة أميركية على جسر الجمهورية هي التي أطلقت قذيفتها بحجة أنها تعرضت لنيران القناصة من فندق فلسطين، وزعم الجنود أنهم لم يكونوا يعلمون أن الصحافيين يقيمون فيه. \r\n \r\n \r\n ولم يصدق أحد في الفندق تلك المزاعم. وذهب أندرسون مع عدد من المراسلين إلى مستشفى الكندي، وهناك في مشرحة المستشفى كان المسؤول عنها يتحدث مع رجلين عرف أندرسون أنهما من مراسلي قناة الجزيرة، وقد جاءا للتعرف على جثمان زميلهما طارق أيوب الذي لقي مصرعه صباح ذلك اليوم، كان جثمانه هناك مع نحو عشرين جثة أخرى. \r\n \r\n \r\n وقال واحد من زميليه إن قناة الجزيرة أمدت القيادة المركزية الأميركية قبل الحرب بمعلومات دقيقة عن موقع مكاتبها في بغداد، وأنها تلقت تأكيدات من البنتاغون بأنها لن تتعرض للقصف، وقال مراسل الجزيرة إن القناة اتخذت هذا الإجراء الاحتياطي لأن الأميركيين سبق لهم قصف مكتب الجزيرة في كابول أثناء الحرب في أفغانستان، وبدأ يتحدث عن زميله طارق أيوب، ولكنه انفجر في البكاء، وابتعد عنا. \r\n \r\n \r\n ويقول جون أندرسون إن طارق كان قد وصل إلى بغداد منذ يومين وأنه أسدى جميلا لكل من جون أندرسون وزميليه المراسلين جون بيرنز وبول ماكجيوف عندما كان ثلاثتهم في حاجة شديدة إلى بعض المال. \r\n \r\n