\r\n ويشير جون لي اندرسون مؤلف الكتاب إلى أنه بحلول منتصف ذلك الشهر استطاع الحصول على تأشيرة دخول جديدة للعراق. وفي طريق عودته إلى بغداد قرر البقاء هناك طوال مدة الحرب، وأثناء مروره بالعاصمة الأردنية التقى واحدا من أغنى المقاولين في الأردن. \r\n \r\n \r\n وكان هذا الرجل قد جمع ثروة من إمداد القوات المتحالفة بالأغذية أثناء حرب الخليج، وذكر له المقاول أنه طبقاً لمصادره فإن الأميركيين يخططون لبدء الهجوم في الأسبوع الثالث من مارس، وعندما سأله جون أندرسون عما إذا كان واثقاً من معلوماته تلك رسم على شفتيه ابتسامة واثقة، وقال له إن الأشخاص الذين تحدث معهم يعلمون ذلك. \r\n \r\n \r\n ويصف المؤلف بغداد عند وصوله معرباً عن دهشته، إذ بدت له المدينة هادئة وتعيش في سلام، وقد فتحت المطاعم والمحلات أبوابها، وبدا أن الناس يذهبون إلى أعمالهم اليومية كالمعتاد، ولا توجد أعداد أكبر من المعتاد من رجال الشرطة في الشوارع، ولا أثر لجنود القوات المسلحة في أي مكان. أما الطقس فقد كان جيداً جداً والشمس مشرقة وتبعث الدفء مع نسمات خفيفة من الهواء، والسماء صافية ولا يحجب زرقتها شيء. \r\n \r\n \r\n وتوجه أندرسون إلى فندق الرشيد وهو الفندق الرئيسي في المدينة ويقيم فيه معظم الصحافيين الأجانب. وكان برفقته سائقه صباح الطائي وهو رجل في الثانية والخمسين من العمر قد خط الشيب شعره باللون الفضي. وكان صباح سائقا لدى الخطوط الجوية العراقية حتى نشبت حرب الخليج وتوقفت طائرات الشركة عن الطيران، فعمل لدى قسم خدمة السيارات في فندق الرشيد، وتولى قيادة السيارة التي استأجرها أندرسون عند زيارته الأولى للعراق، ثم في أيام «استفتاء الولاء» لصدام حسين، وانتظر عودته مرة أخرى بحيث أصبح سائقه الدائم في العراق ونشأت بينهما صداقة وطيدة.. \r\n \r\n \r\n وكان صباح مستعداً دائماً لكي يوصله إلى أي مكان في بغداد إلا إذا رأى أن ذهابهما إلى مكان معين قد يسبب لهما المتاعب مع السلطات، ومع ذلك كان يكره ترك المدينة ويرفض بإصرار قيادة السيارة جنوباً إلى أبعد من بابل، وحكى له أنه قبل أن يلتقي به بعام قاد سيارته مع زائر سويدي إلى آثار أور جنوب العراق، وبينما كانا هناك أطلقت طائرة أميركية صاروخين عليهما، ومنذ ذلك الحين وهو لا يغادر العاصمة، ويكلف سائقا آخر بقيادة سيارة أندرسون إذا أراد الذهاب إلى خارج بغداد. \r\n \r\n \r\n الفساد طريقة حياة \r\n \r\n \r\n ويقول مؤلف الكتاب إن صباح كان بارعاً في استخدام الرشوة لتسهيل الأمور، ذلك لأن الفساد في الدوائر الرسمية كان من حقائق الحياة اليومية في العراق ولا يستطيع أحد إنجاز مصلحة ما دون دفع الرشاوى. \r\n \r\n \r\n ويرسم كتاب أندرسون صورة كئيبة في هذا المجال إذ يقول المؤلف إن صباح علَّمه أساليب التعامل في وزارة الإعلام، حيث يجب على الصحافيين تسجيل أسمائهم ثم تكليف الوزارة ملاحظين لتقديم طلبات إجراء المقابلات وتصاريح السفر والحصول على تمديد للتأشيرات. وباستثناء بعض الحالات كانت مدة صلاحية تأشيرة الصحافيين عشرة أيام فقط، ولذلك كان جانب من وقت كل زيارة يضيع في تدبير الحيل وتقديم الرشاوى والقيام بمجاملات لموظفي الوزارة للحصول على تمديد التأشيرات. \r\n \r\n \r\n وقد تحمل السائق صباح عناء كبيرا لتجنيب المؤلف دفع رشاوى نقدية، واقترح عليه، مثلا، شراء ثلاثة صناديق من البيبسي من أجل رئيس مكتب الصحافة الأجنبية، وصندوقين من السفن أب لنائبه، الذي ذكر السائق أنه أيضا عميل للمخابرات لمراقبة المكان. \r\n \r\n \r\n وقد حرص صباح على ألا يقوم الصحافي بتقديم الصناديق بنفسه فكان يقوم هو بتوصيلها إلى المنازل قبل يوم أو يومين من موعد المغادرة كإشارة رمزية للود والمحبة الأمر الذي يساعد كثيرا في الحصول على تأشيرة للعودة إلى العراق وفي المكتب الصحافي كان يعين لكل مراسل «مرشد» ليكون أيضاً مترجمه الخاص الرسمي. واعتاد الصحافيون إطلاق اسم «الملاحظ» عليه وكان معظم المرشدين من خريجي الجامعة ويتحدثون إحدى اللغات الأجنبية، وعلى الصحافي دفع خمسين دولارا في اليوم للوزارة عن المرشد. \r\n \r\n \r\n ويشير الكاتب إلى أن كل شيء تغير أثناء إجراء الاستفتاء عام 2002 عندما سمح النظام بدخول مئات الصحافيين إلى العراق لتغطية الاستفتاء، واستغل كثير منهم الفرصة لضمان وجودهم لتغطية أحداث الصراع المقبل. وكان أمام المراسلين الراغبين في تغطية الحرب ثلاثة بدائل: الأول هو السفر إلى كردستان العراق عبر إيران والانتظار هناك حتى تنشب الحرب، والبديل الثاني تسجيل المراسل لدى البنتاغون باعتباره مراسلاً ملحقاً بالقوات الأميركية، أما الخيار الثالث والذي لم يكن مؤكدا فهو محاولة البقاء في بغداد. \r\n \r\n \r\n وكانت المشكلة في هذا الخيار تتمثل في صعوبة الحصول على التأشيرات في المقام الأول، ثم إن مدتها عشرة أيام فحسب. ولما لم يكن أحد يعلم متى تبدأ الحرب فقد كان معنى ذلك بحث المراسل الدائب عن حيل لتمديد تأشيرته من دون أن تكون هناك أية ضمانات لإمكان تحقيق ذلك. \r\n \r\n \r\n وأثناء الاستفتاء على تجديد رئاسة صدام حسين بدأت منظمات الأخبار الغربية الكبرى في دفع رشاوى كبيرة لمسؤولين في الوزارة أملاً في توفير التأشيرات ومواقع آمنة في بغداد لمراسليها، كذلك بدأت تلك المنظمات في اختطاف كثير من الملاحظين - المترجمين للعمل معها وتسهيل أمورها ودفعت للواحد منهم مئة دولار أو أكثر عن اليوم الواحد.. وقد تسلم كثير من أفضل الملاحظين ألوف الدولارات مسبقا لتغطية رواتبهم مقدما. \r\n \r\n \r\n وترتب على ذلك أن جون لي أندرسون، عندما حصل على التأشيرة وعاد إلى بغداد في فبراير 2003، وجد أن معظم المترجمين ارتبط بلعبة شخص آخر. كذلك ارتفعت رسوم الوزارة عن كل شيء فأصبح الرسم اليومي عن كل مرشد مئة دولار، ورسوم الحصول على هاتف عبر الأقمار 125 دولارا في اليوم. \r\n \r\n \r\n وزاد فندق الرشيد أيضا أسعاره، وأصبح ضروريا دفع رشوة لمديره لمجرد السماح بالدخول إلى الفندق ابتداء، ثم رشوة أخرى للانتقال إلى جانب الفندق المطل على الناحية الجنوبية، حيث يتوفر فيه الاستقبال عبر الأقمار. وعشية الحرب ارتفع الحد الأدنى لتكلفة الإقامة في بغداد إلى 450 دولارا في اليوم. ولما كانت بطاقات الائتمان غير مقبولة في العراق فقد أصبح من الضروري أن يحضر المراسل معه كميات هائلة من النقود. \r\n \r\n \r\n وكان مئات من المراسلين يتدفقون على بغداد، وبدأ تدافع محموم للحصول على تمديدات التأشيرات، وشاع بينهم أن إحدى شبكات التلفزيون الأميركية الكبرى كانت تدفع خمسة آلاف دولار رشوة لكل تمديد تأشيراتها. \r\n \r\n \r\n ويشير المؤلف إلى أنه كان من المؤكد أن مؤسسات الإعلام الأكبر تدرك وتتوقع شيئا ما لأن جميع كبريات شبكات التلفزيون الأميركية والأوروبية جاءت بأطنان من معداتها وأطقمها، كما أن معظم المجلات والصحف الرئيسية الأميركية والبريطانية واليابانية افتتحت لها مكاتب مؤقتة وأرسلت العديد من مراسليها. وبالنسبة للآخرين كلهم ظلت مسألة كيفية البقاء في بغداد لغزا لا إجابة عنه ومصدر قلق بالغاً. \r\n \r\n \r\n ومما زاد اضطرابهم إجراء بعض التغييرات بين موظفي مكتب الصحافة الأجنبية، وتولى إدارته شخص جديد في منتصف الخمسينات، اسمه محسن، واختفى رجل المخابرات السابق المسمى هلال، وجاء رجل جديد اسمه خادم ووصفته الإشاعات بأنه ضابط كبير في المخابرات، يجيد اللغة الإنجليزية إجادة كاملة، ويرتدي ملابس أنيقة. \r\n \r\n \r\n وقد جلس الرجلان في غرفة واحدة على مكتبين متقابلين، ولم يستطع أحد في وزارة الإعلام معرفة من منهما المدير الحقيقي للمكتب، وعندما وجه أندرسون سؤالا إلى محسن عمن يكون الرئيس ألقى بنظرة سريعة نحو خادم، ورسم ابتسامة غامضة على وجهه وقال في برود: «نحن الاثنان». \r\n \r\n \r\n مع طبيب صدام \r\n \r\n \r\n ومن بين الأسماء التي ترددت كثيرا في كتاب أندرسون يبرز أسم الدكتور علاء بشير وهو جراح اختصاصي في جراحة التجميل، كما أنه رسام ومثّال. وكان أول ما فعله المؤلف عند وصوله إلى بغداد في شهر فبراير، الالتقاء بهذا الطبيب الذي توطدت معرفته به خلال زياراته السابقة للعراق. \r\n \r\n \r\n ويشير أندرسون إلى أن الدكتور بشير كان وثيق الصلة بصدام حسين مما منحه نفوذا كبيرا في العراق. وعند لقائهما رحب به الطبيب بحرارة وبدا عليه السرور لرؤيته، وعندما أعرب أندرسون عن أمله في أن يبقى في العراق لتغطية أخبار الحرب، سأله بشير عن موقفه بالنسبة لتأشيرة الدخول. \r\n \r\n \r\n ولم يكن الموقف جيداً في الحقيقة إذ كانت مدة التأشيرة على وشك الانتهاء بعد أيام قليلة، وعلى الفور اتصل الطبيب بشخص اسمه عدي الطائي في وزارة الإعلام وتحدث إليه باللغة العربية، وحكى لأندرسون بعد ذلك أنهم كانوا بالصدفة يراجعون طلبه في اللحظة التي هاتفهم فيها، فأخبرهم بأن المراسل الصحافي صديق له، وضحك بشير قائلا: \r\n \r\n \r\n «على أية حال سوف يسجلون اسمي على طلبك باعتباري مصدر التوصية» وبالفعل لم يعان الصحافي من أية مشكلات عند تجديد تأشيرته، ولم يحدث أن اضطر إلى دفع أموال تحت الطاولة، كما يقول، ولاحظ أنه كان يبدو الاهتمام على المسؤولين كلما ألقوا نظرة على اسم علاء البشير على الطلبات المقدمة. \r\n \r\n \r\n ويروي جون أندرسون قصة لقائه بهذا الطبيب الذي بدأ في بغداد في أغسطس 2000 عندما حمل اليه رسالة تقديم من ناجي صبري الحديثي، الذي عرفه في فيينا، عندما كان سفيرا للعراق في النمسا ثم أصبح وزيرا للخارجية فيما بعد. وقد أخبره ناجي صبري بأن بشير صديق حميم لصدام وموضع ثقته، وأن أندرسون يستطيع معرفة الكثير منه بأفضل مما يمكن أن يعرف من أي شخص آخر قد يراه في بغداد، وقام المؤلف بلقاء الطبيب في مركز صدام للجراحة التأهيلية. \r\n \r\n \r\n ودار الحديث بينهما عن السياسة والتاريخ، ويصفه مؤلف الكتاب بأنه رجل غير عادي في الحادية والستين من عمره، طويل القامة، حليق الوجه تماما على عكس الرجال العراقيين عامة، الذين يحتفظون بشوارب كثيفة. ويبدو هذا الرجل وكأنه واحد من الرجال الذين صورهم الفنانون السوريون على الأواني المرمرية منذ خمسة آلاف سنة. ويصف أندرسون مكتبه في المستشفى بأنه بسيط وصغير جدا بالنسبة لرجل في مركزه على عكس ما كان مألوفاً من المكاتب الفخمة الفسيحة المكيفة الهواء، التي يستخدمها المسؤولون الآخرون. \r\n \r\n \r\n وقد نشب الخلاف بين المؤلف والطبيب منذ أول لقاء بينهما، ولما طلب منه أندرسون أن يشرح له حقيقة صدام حسين وأي نوع من الرجال هو، لأنه منذ جاء إلى بغداد لم يسمع شيئا غير المديح له، أجاب بشير قائلا: «إنه رئيسنا، ومن حقنا أن نمدحه» ثم قال أيضا إنه يعلم أن أي شيء يخبره به عن صدام لن ينشر بدقة، وعندما اعترض الصحافي وسأله: لماذا يشك في ذلك؟ \r\n \r\n \r\n أوضح له الطبيب أنه يشير إلى الهيمنة الصهيونية على وسائل الإعلام الغربية، وتآمرها للسيطرة على العالم. وقال: «لديّ الدليل على أنك لن تستطيع قول الحقيقة لأن بعض الناس حاولوا ذلك في الماضي فتم سحقهم». واستشهد بشير بحالة فيلسوف فرنسي معاصر لم يتذكر اسمه قائلا له: «هل تعرف الشخص الذي أعنيه؟.. إنه الشخص الذي كتب يقول إن أعداد ضحايا محرقة النازي قد بولغ فيها كثيرا، وأن هذه الأعداد قد تبلغ فقط ألفين أو ثلاثة آلاف، لا تلك الملايين التي روجوا لها، هذا هراء». وتساءل بشير: فماذا فعلوا بهذا الشخص؟ \r\n \r\n \r\n لقد تحركوا ضده في المحاكم، وهاجموا كتبه والمكتبات التي وجدت فيها. واختتم الطبيب حديثه قائلا: «أنا أعتقد أن هتلر حقق بعض الأشياء الجيدة لألمانيا، ولكن من ذلك الذي يستطيع أن يصرح بهذا اليوم؟ لا أحد يستطيع ذلك بسبب الهيمنة الصهيونية على وسائل الإعلام». \r\n \r\n \r\n وأخذ صاحب الكتاب يجادله فقاطعه الدكتور بشير قائلا: «أنت تعرف أن المسيحيين والمسلمين يتشابهون إلى حد كبير، ونحن نتشارك في القيم نفسها، ولكنني أعتقد أن اليهود في أميركا يريدون السماح للمسيحيين بالتفكير بشكل مستقل». وسكت لحظة ثم أردف: «هل تعرف إيخمان الذي أعدمه اليهود في إسرائيل؟ لقد قال إيخمان انه تصرف ضد اليهود لأنهم انطووا على أنفسهم ولم يعتبروا أنهم ألمان.. هذه مشكلة حقيقية». \r\n \r\n \r\n ولكن أندرسون يقول إنه لا يرى ما هي المشكلة، فيروي له بشير حكاية شخصية، ففي العام السابق، أثناء زيارته للندن، أوقف سيارة تاكسي، وكان سائقها من النوع الثرثار، وقدم نفسه لبشير قائلا له: «أنا يهودي.. من أي بلد أنت؟». وتوجه الطبيب إلى الصحافي يسأله: «أرأيت؟.. لم يقل أنا إنجليزي بل قال أنا يهودي.. وهكذا يمكنك أن ترى أن ذلك ما زال يمثل مشكلة كبيرة». \r\n \r\n \r\n وبعد هذا الحديث عن مشكلة الولاء المزدوج الذي تواجهه الدول التي يهاجر منها اليهود إلى إسرائيل، يقول لنا أندرسون إن العلاقة بينه وبين علاء بشير نمت على الرغم من الخلاف في الرأي بينهما، وأصبح حريصا على زيارته والالتقاء به في كل مرة يزور فيها العراق، وعندما عاد إلى بغداد في فبراير 2003 استمرت اللقاءات بينهما ودعاه بشير إلى العشاء في منزله عدة مرات، وأخذه معه إلى منزل صديق له، يدعى سمير خيري توفيق، وقدمه له على أنه مسؤول كبير في وزارة الخارجية العراقية. \r\n \r\n \r\n كانت آمال زوجة البشير، وهي طبيبة أيضا، وابنتهما أمنية البالغة ثلاثا وعشرين سنة آنذاك، تقيمان في عمان بالأردن، حيث أرسلهما البشير منذ شهرين للإقامة هناك حتى تنتهي الحرب، وكان له أربعة أبناء، أولهما ولدان رزق بهما في إنجلترا، حيث كان يعمل جراحا في أوائل سبعينات القرن العشرين بعد حصوله على عضوية كلية الجراحين الملكية في أدنبرة، ويعيش ابناه في شيفيلد ونوتنغهام، أما الابن الثالث فيدرس الموسيقى في كونسرفاتوار مونبلييه بفرنسا. \r\n \r\n \r\n وفي وصفه للبيت يلاحظ أندرسون وجود صورة للعائلة معلقة على الحوائط ولكن كانت من بينها صورة تجمع بين الدكتور علاء بشير وصدام حسين معا في إحدى المناسبات العامة، بينما علقت على معظم الحوائط لوحات مرسومة كبيرة، وتناثرت في غرف المعيشة تماثيل مختلفة، ومعظم الأعمال الفنية المعلقة من صنع بشير الذي كان رساما ومثّالا يتحلى ببراعته كطبيب في مجال الفن أيضاً. \r\n \r\n \r\n وقد سبق أن تلقى تكليفات من صدام لنحت عدة تماثيل عامة ضخمة في بغداد، كان من بينها تمثال شهير رفع عنه الستار عام 2001 في ذكرى الهجوم الذي وقع على مخبأ العامرية خلال الغارات الجوية، حيث قتلت قذيفة أميركية أكثر من أربعمئة شخص معظمهم من النساء والأطفال. وقد حول الملجأ إلى متحف بعد ذلك. ويتسم فن بشير بالسوريالية، وهو يعتبر واحدا من رواد هذا الفن في العراق. \r\n \r\n \r\n ويعود المؤلف إلى الحديث عن هذا الطبيب وصدام حسين فيقول أندرسون إن بشير لم يكن يتحدث إليه كثيراً بشيء صريح عنه، ولكن ذات مرة، عندما كانا وحدهما في بيته، حدثه عن المتملقين المرعوبين المحيطين بصدام حسين وعن ابنيه اللذين وصفهما بالمريضين التافهين وخاصة عدي، كما حدثه عن المودة الغريبة التي يكنها صدام له (أي لبشير) حتى إن أخاه غير الشقيق برزان مدير المخابرات السابق ورجل شؤون البنوك الشخصية لصدام، وصديق بشير الحميم، كان يقول له إنها نعمة من الله أن يتحدث بشير إلى أخيه بالطريقة التي يخاطبه بها، فلا أحد يحدثه بهذا الأسلوب، ولا حتى يستطيع أن يفعل، بل حتى عائلته تخاف منه.. \r\n \r\n \r\n ويضيف المؤلف أن بشير قال له أيضا إن معظم الأشخاص الذين يعرفهم، من بينهم جنرالات رفيعي المستوى ووزراء، يريدون إحداث تغيير، وقد يشعرون بالغضب لو قرر بوش الرجوع عن الغزو، وإذا ظل صدام في السلطة فسوف يمثل ذلك انتصارا للدكتاتورية، والقتل، والتعذيب، وحمامات الدم.. وأضاف بشير لصاحب الكتاب: لقد سافرت إلى بلاد كثيرة في العالم، ورأيت بعض الأماكن السيئة، ولكنني لم أجد مكانا أشد قسوة من العراق. إن بعض الأساليب التي عومل بها الناس على مدى السنين يفوق كل وصف. \r\n \r\n \r\n في فندق الرشيد \r\n \r\n \r\n يصف الكتاب بعد ذلك الجو العام الذي ساد بين رجال الإعلام بحلول شهر فبراير، حيث امتلأ فندق الرشيد في بغداد بالصحافيين من جميع أنحاء العالم، وكان ذلك بمثابة تجمع كبير لقبيلة ضخمة متنافرة، وسادت أجواء من العصبية والترقب، وظهر بعض الشخصيات الإعلامية الشهيرة بمن فيهم بيتر أرنيت الذي كان قد فصل من شبكة سي.ان.ان منذ سنوات بعد أن أذاع قصة زائفة، ولكنه قام من كبوته وعاد بمظهر غريب مرتديا قبعة بيسبول وثيابا رياضية ووراءه وخلفه ومصور لإنتاج شرائط فيديو لمجلة «ناشيونال جيوغرافيك إكسبلورر». \r\n \r\n \r\n وجاء إلى العراق أيضا عدد آخر من المشاهير مثل ملك مصوري الحرب العالميين، ويصف مؤلف الكتاب المشهد بأنه كان يبدو نوعا من أجواء السيرك على الاقل. وجذبت الحرب إلى بغداد شخصيات كثيرة ومتنوعة من بينها مجموعة كورية من دعاة حقوق المرأة، ووفد أميركي - أفريقي، ورجال دين من الأميركيين العرب من الولاياتالمتحدة، ومجموعة من ناشطي حزب الخضر في تركيا. \r\n \r\n \r\n مهمة بريماكوف \r\n \r\n \r\n وجاء إلى بغداد يفغيني بريماكوف رئيس الوزراء الروسي السابق ورئيس جهاز «الكي جي بي»، وقد حضر في مهمة اللحظة الأخيرة للسلام، وعندما فشلت المهمة غادر العاصمة العراقية على وجه السرعة. \r\n \r\n \r\n كذلك رأى أندرسون في أروقة فندق الرشيد ملكة جمال ألمانيا الكسندرا فوديانيكوفا ومعها مدير دعايتها. وقد جاءت الجميلة الألمانية ذات التسعة عشر عاما لكي تحقق رغبتها التي أعربت عنها عند تتويجها، وهي أن تناقش مسألة السلام مع صدام حسين، ويقول أندرسون إنها لم تستطع على الإطلاق أن ترى صدام، وفي آخر ليلة لها في بغداد تلقت دعوة للعشاء على مائدة الابن الأكبر عدي. وفي الصباح سافرت من دون أن تنبس بكلمة واحدة للصحافيين. \r\n \r\n \r\n أما أكثر ما لفت الأنظار مجموعة الدروع البشرية التي وصلت إلى بغداد في قافلة تضم إحدى سيارات التاكسي اللندنية واثنتين من الحافلات الحمراء ذات الطابقين. وقد استغرقت رحلة المجموعة ثلاثة أسابيع من لندن إلى العراق عبر أوروبا وتركيا. وقد استقبلت استقبالا حافلا من قبل لجنة الصداقة والتضامن مع الشعوب التابعة لحزب البعث العراقي والتي خصصت للمجموعة فندقا صغيرا اسمه فندق الأندلس بجوار فندق فلسطين. \r\n \r\n \r\n وكانت جماعة مختارة ضمت أميركيين وبلجيكيين وأفرادا من جنوب أفريقيا وألمانيا واستراليا. وكان الشخص الذي نظم هذا التجمع في لندن أميركي من كاليفورنيا في الثلاثينات من العمر، يدعى كين أوكيف الذي قال في حديث مع أندرسون إنه يعتقد أن ال «سي آي إيه» هي التي دبرت هجمات الحادي عشر من سبتمبر لتبرير نظرية «الاستباقية» تحت قناع محاربة الإرهاب. \r\n \r\n \r\n وسأله مؤلف الكتاب عن شعوره وهو يغامر بحياته للدفاع عن شخص مثل صدام بينما هناك قضايا أخرى كثيرة في العالم قد يثير بعضها تعاطفه معها، فأجاب أوكيف بأن هذه الحرب يجب وقفها، وأن الأمر قد يكون أفضل إذا لم يكن هناك عامل صدام حسين. وأضاف أنه مشغول أيضا بقضايا أخرى وأنه يفكر في التوجه إلى فلسطين من بغداد، فهناك الأمور لونها أبيض وأسود ولا وجود لعامل صدام. \r\n \r\n \r\n ويبدو من بين سطور الكتاب عند الحديث عن الجماعات المعادية للحرب التي جاءت إلى العاصمة العراقية، أن المؤلف يحاول تجريح بعض أفرادها وإن كان يعترف بخطأ تقديره بالنسبة لسيدة أميركية كانت تقود مجموعة من الناشطين من أجل السلام، يبلغ عدد أعضائها نحو عشرين أميركيا من جماعة تسمى «أصوات البرية» وسبق لها أن أرسلت وفودا كثيرة إلى العراق خلال عدة سنوات للاحتجاج على عقوبات الأممالمتحدة والسياسة الأميركية تجاه العراق. \r\n \r\n \r\n وكانت المجموعة التي يتحدث عنها مؤلف الكتاب بقيادة معلمة سابقة من شيكاغو اسمها كاثي كيلي، وهي داعية سلام متحمسة بدأت نشاطها المناهض للحرب أثناء حرب فيتنام، واشتركت مؤخرا في حملة مناهضة للحرب النووية، وفي الحركة الأميركية من أجل لاجئي الحرب في أميركا الوسطى خلال سنوات حكم رونالد ريجان. ومنذ حرب الخليج الأولى كرست كيلي كثيرا من وقتها للعمل ضد العقوبات على العراق. فاشتهرت بذلك لدى العراقيين واكتسبت شعبية كبيرة لدى رجال حزب البعث العراقي الذين اعتبروها نموذجا «للأميركي الطيب». \r\n \r\n \r\n وربما كان نشاط تلك السيدة الأميركية سببا في أن يكوّن جون لي أندرسون رأياً معادياً لها، كما يقول وتخيلها امرأة ذات نوايا طيبة، ولكنها عمياء معنوياً، واعتبرها واحدة من الأميركيين أصحاب «الاعتقاد المريض» بأن الحكومة الأميركية هي أسوأ الشرور، كما صنفها في البداية على أنها شخص ينوي الدفاع عن أية قضية لمجرد معارضة سياسات الولاياتالمتحدة الأميركية. \r\n \r\n \r\n ويقول أندرسون أنه عندما التقى بها لأول مرة في بغداد في أكتوبر 2002 وجدها واضحة وعميقة التفكير، وقالت له: «لم أكن أظن أننا سوف نرى هذا التوجه من الولاياتالمتحدة نحو ما يبدو أنه إقامة امبراطورية». وأضافت أن ما يقلقها أن كثيرا من الناس في أميركا قد يكونون راغبين في تأييد الحرب من أجل ما يسمى «المحافظة على أسلوب الحياة الأميركية» التي ذكر الرئيس بوش أنها غير قابلة للتفاوض، ويبدو أن قدرات الناس على التفكير المنطقي قد تلاشت، وأن الخوف من هجوم مماثل لما حدث في 11 سبتمبر كان العامل المساعد». \r\n \r\n \r\n ويروي جون لي أندرسون في حديثه عن هذه السيدة أنها تعتقد أن ربط بوش بين العراق والحرب على الإرهاب كان مجرد حجة وأن الدوافع الحقيقية لحرب العراق هي المصالح التجارية لشركات النفط الأميركية ومؤسسة الدفاع. وقالت الناشطة الأميركية للمؤلف: «حذار أن تظن أن أميركا تريد تغيير النظام بقدر ما تريد أن يأتي إليها شخص على ظهر حصان أبيض، ولا أعرف من هو» وأعربت عن اعتقادها أن الإدارة الأميركية تريد فقط إسقاط صدام حسين وزمرته وترك الباقين في السلطة لأن الولاياتالمتحدة مهتمة بنفط العراق فحسب. \r\n \r\n \r\n ويواجهها أندرسون بقوله إن أنشطتها جعلت منها أداة مفيدة لصدام، ولكنها أخذت تدافع عن نفسها مؤكدة أنها لا تؤيد نظامه الحالي آنذاك، وأنها كانت تقول دائما إن خوفا واضحا يسود بين العراقيين وأن حقوق الإنسان لا تحترم. وأقرت بأنها قد تكون مفيدة في بعض الحالات، ولكنهم - أي المسؤولين - على الأقل يسمعون الحقيقة من بعض الناس، وهي عندما تأتي إلى العراق توجه إلى أشخاص مثل طارق عزيز أسئلة مثل: «ماذا عن المعتقلين السياسيين؟!» و«لماذا تعلمون أطفالكم في المدارس أن يكرهوا إسرائيل؟!». \r\n \r\n \r\n وفي اعتقادنا أن القارئ العربي سوف يفاجأ بذكر الكيان الصهيوني، فنحن العرب نعرف أن الصهاينة في الغرب عامة لا يفوتون فرصة لدس اسم «إسرائيل» في مقالات صحافييها أو كتب كتابها، أو أفلامها السينمائية والتلفزيونية، ونعود إلى كاثي كيلي فسنجدها تختتم حديثها مع الكاتب الصحافي أندرسون بقولها: «باعتباري من دعاة السلام.. ما الذي يضطرني لأن أقول إن الحرب يجب استخدامها هنا بكل نتائجها المأساوية؟». \r\n \r\n \r\n ويلتقط مؤلف الكتاب واحداً من بين الحشد الكبير من الرجال والنساء الذين أقبلوا إلى بغداد لتغطية الحرب المقبلة. والرجل الذي يتحدث عنه المؤلف يبعث فعلا على الاهتمام ويدعى باتريك ديلون، وهو أميركي من نيويورك سيتي من أصل أيرلندي وفي أوائل الخمسينات من العمر، ويرتدي دائما ملابس سوداء. وقد جاء إلى بغداد على حسابه الخاص لأنه يناهض الحرب، ولكنه أيضا ليس من الدروع البشرية ولا هو صحافي، بل هو يحاول تصوير فيلم وثائقي بكاميرته الخاصة «الهاندكام» الصغيرة اختار له عنوانا مبدئيا هو: «الطائرات الممطرة». \r\n \r\n \r\n ويذكر أندرسون أن باتريك لم يكن يحظى بأي دعم لفيلمه من أية جهة، وأوضح له أن المفهوم النموذجي للفيلم هو فيلم جون لوك غودار السينمائي الثاني واسمه «الجندي الصغير» الذي أخرجه عام 1960 خلال السنوات الأخيرة للحرب الجزائرية للاستقلال عن فرنسا، وقام بدور الراوي في فيلم غودار «هارب من الجيش الفرنسي» يعمل في خدمة منظمة إرهابية من الجناح اليميني، وجاء إلى مدينة جنيف لاغتيال معلق مشهور يدافع عن الجانب العربي. \r\n \r\n \r\n