وهم الآن ليسوا في حاجة لاهتمام من مصر مثلا لتقرير أنهم يريدون السلام مع إسرائيل، فيما لا يحتاجون إلى إيران وسورية وحزب الله لترتيب أمورهم داخل الأسرة الفلسطينية، إذ يمكنهم ترتيب وقف إطلاق نار بين أنفسهم، ويمكنهم أن يستخدموا القاهرة كمكان فقط، ولكن ليس كبديل للقرارات الفلسطينية. ومعلوم أن انتخابات المجلس التشريعي ستجرى في شهر يوليو (تموز)، لتليها انتخابات فتح بما سيؤدي لتجديد حيويتها بنشطاء من الحرس الجديد. \r\n ومن هنا فتوجه محمود عباس لأخذ زمام المبادرة بيده، وليس بالتصرف كضحية عاجزة، خطوة صحية نحو بناء الدولة الفلسطينية، فيما كان خلط عرفات بين دور الثوري والمفاوض قد أدى إلى زيادة تردد اللاعبين الآخرين الأكثر قوة، في السماح للفلسطينيين بتقرير أمورهم بأنفسهم، وكانت النتائج إهانة للشعب الفلسطيني. وإلى ذلك فسيساعد عباس السلطة الفلسطينية في تحقيق الاحترام الذي تستحقه، باتخاذ القرارات، وبالمزيد من الشفافية والمحاسبة لعملياتها المالية، والقضاء على تراث الفساد الذي ارتبط بها في عهد عرفات. ومحمود عباس يعرف أن الحكم الجيد سيحصل على الاحترام الدولي ويقرب الشعب الفلسطيني من تأسيس دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، عاصمتها القدسالشرقية. \r\n وبدون التقليل من أهمية هذه الاتجاهات الأخيرة للقرارات الديمقراطية، وفرصة أن تؤدي رئاسة عباس إلى حكم جيد، فإن الحد الأدنى المطلوب من حكم عباس، يرتبط بما إذا كان يمكنه التوصل إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربيةوغزة. وإلى ذلك قال حسين أغا وربورت مالاي في العدد الأخير من «نيويورك ريفيو أوف بوكس»: «في خريف 1999، وفي أعقاب انتخاب إيهود باراك رئيسا لوزراء إسرائيل، قدم عباس للمسؤولين الأميركيين اقتراحا مباشرا للاتفاق النهائي لتشكيل دولة فلسطينية ضمن حدود 4 يونيو (حزيران) 1967، عاصمتها القدسالشرقية، والاعتراف بمبدأ حق «اللاجئين في العودة». وفي إطار تلك الاقتراحات، وتماشيا مع الشرعية الدولية، تم ترك هامش تفاوضي. ولا بد من وجود تبادلات بسيطة وعادلة للأراضي، لوضع بعض المستوطنات الإسرائيلية في الحساب، وقرارات للسماح لليهود بالوصول إلى أراضيهم المقدسة بلا قيود، وسيطبق حق العودة بطريقة لا تهدد مصالح إسرائيل الديموغرافية. ولكن القبول المسبق للمقترحات الأساسية هو الأصل، لأنه بدونه لا توجد شرعية دولية ولا سلام عادل». \r\n وقد تجاهلت إسرائيل عرض المبادئ هذا، وفضلت التفاوض على الهوامش، لضمان ألا يتدفق على حدود ما قبل 1967 ما يطلق عليهم لاجئو 1948، وللحفاظ على المستوطنات، أو على الأقل الدخول في مواجهة مع المستوطنين، وقد فشلت إسرائيل في استيعاب حاجة الفلسطينيين إلى عدل قائم على المبادئ، كما ظهر في اقتراح عباس البسيط والمباشر: «الأرض مقابل السلام»، والاعتراف بمبدأ أن الفلسطينيين عانوا من صدمة النكبة بعد تأسيس إسرائيل عام 1948. \r\n ويبدو الآن أن الجميع يتجهون على مهل إلى صيغة عباس. ففي طابا وبعد ما يزيد على عام بعد عرض عباس، باتت إسرائيل أقرب إلى فكرة أن أي تعديلات في حدود عام 1967 لصالح إسرائيل، يمكن أن تعوض بنقل مماثل من الأرض لفلسطين. \r\n والأكثر أهمية أن شارون يتعامل الآن مع حركة المستوطنين خلافا لباراك. وإذا ما نفذ شارون خطته لإزالة 19 مستوطنة في غزة وأربع مستوطنات إضافية في الضفة الغربية، فإنه سيكون قد كسر ظهر حركة المستوطنين بطرح سابقة بالنسبة لإزالة المستوطنات. وشارون يقوم بهذا ليس لكسب ود الفلسطينيين، أو استئناف خريطة الطريق، وإنما لأنه يدرك الوقائع الديموغرافية الضمنية في الاستمرار على الاستيلاء على أرض مأهولة بصورة ساحقة بالفلسطينيين. \r\n أما الاتجاه الثالث الإيجابي تجاه موقف عباس عام 1999، فهو البراغماتية المتزايدة في الرأي العام الفلسطيني التي تظهر في الاستطلاعات الحالية، لجهة قبوله، بأغلبية واضحة، بإمكانية تلقي تعويضات، بدلا من العودة المادية الفعلية إلى حدود ما قبل 1967، وبهذا يمكن حل المسألة الشائكة لحق العودة. \r\n أما على المدى القصير، فالعامل الأساسي للبدء بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي في غزة، هو المسألة الأمنية. وتطالب إسرائيل رسميا بتفكيك المنظمات المتطرفة، فيما يعرف عباس أن قواته الأمنية في غزة ليست قوية بما يكفي للسيطرة على حماس والجهاد الإسلامي، وقد تحملت هذه القوات الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، أعباء الهجمات العسكرية الإسرائيلية خلال السنوات الثلاث الأولى من الانتفاضة الحالية. فهل سيتعاون المتطرفون مع استراتيجية عباس في التفاوض مع إسرائيل؟ \r\n حماس تعطي إشارات على أنها ترغب في لعب دور سياسي في النظام الديمقراطي الفلسطيني الناشئ، ولكن ليس بطريقة حزب الله الذي تحول من منظمة ميليشيات إلى حزب سياسي في لبنان. وتدرك حماس أن الناس يشعرون بقلق من الصراع ومن نقاط التفتيش الإسرائيلية القمعية، والغارات العسكرية في غزة والضفة الغربية. \r\n وفي الوقت نفسه فإن آيديولوجية الجهاد، التي تستحوذ حاليا على المنطقة، والتي يغذيها التمرد في العراق، حيث تجعل الفوضى والمفجرون الانتحاريون العراق مكانا لا يمكن التحكم فيه، تلك الاستراتيجية تمنح عونا لأولئك الذين يواصلون المقاومة. وترغب حماس في أن توضح حقيقة أن مقاومتها للاحتلال، هي السبب الرئيسي في قرار إسرائيل الانسحاب من غزة. وحتى داخل حركة فتح، يكسب مقاتلو كتائب شهداء الأقصى (التي تغيرت تسميتها إلى كتائب عرفات) شعبية في مقاومة الاحتلال، أكبر من تلك التي يكسبها من يصبحون صناع سلام. \r\n ومن هنا، فجورج بوش يبدأ مرحلة الإرث السياسي في رئاسته، فهو يريد أن يدخل التاريخ كصانع سلام وكذلك كصانع حرب، كما أنه يدرك أن تحقيق الحرية في الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا، هو أكثر احتمالا إذا ما كان هناك تقدم على الجبهة الفلسطينية الإسرائيلية، \r\n غير أن إدارته لن تميل في الأشهر الستة المقبلة بثقلها إلى حد كبير نحو إسرائيل، لأن شارون يتعهد بالانسحاب من غزة. ومن هنا، فمنع حكومة شارون من الانهيار يأتي كأولوية لضمان حدوث ذلك الانسحاب. وبدون ذلك ستجد الإدارة الأميركية من الصعب إنعاش خريطة الطريق. \r\n وإذا ما واصل عباس السير في الطريق البراغماتي الذي حدده، أي إيقاف هجمات صواريخ القسام على المدن الإسرائيلية، وإصلاح السلطة الفلسطينية، فمن المحتمل أن تبدأ وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس، ابتداء من الصيف الحالي، الضغط على شارون لضمان ألا تكون «غزة أولا» هي «غزة أخيرا»، فمثل هذا الضغط سيفاقم موقف شارون الداخلي، ويعزز تدريجيا من طاقة معسكر السلام الإسرائيلي، التي تقلصت كثيرا بفعل التفجيرات الانتحارية والانتفاضة الثانية. \r\n إن أفضل نصيحة لدول مثل سورية وإيران، إذا ما أرادت أن تنهي احتلال إسرائيل، هي إبعاد المتطرفين عن تخريب جهود عباس، لأن نجاحه سيؤدي في خاتمة المطاف، إلى التأكيد «لإسرائيل ما بعد شارون» المستعدة للعيش جنبا إلى جنب مع دولة فلسطينية، قابلة للحياة ولا تختلف عن تلك التي سبق أن اقترحها عباس قبل ما يزيد على خمس سنوات. ومن هنا، وإذا ما استمر عباس في هذا الاتجاه، فإن إدارة بوش ستوفر الخطوة الضرورية الكفيلة بجعل الدولة واقعا، قبل أن يغادر بوش البيت الأبيض، ولكن، وفي المقابل، \r\n ربما تنتصر تلك الأصوات القوية التي تفضل إخفاق عباس واستمرار الاحتلال الإسرائيلي، ليبقى الزمن وحده هو الكفيل بتقديم الإجابة حول تداعيات ذلك. \r\n *باحث في كلية \r\n سانت أنطوني أوكسفورد \r\n خاص ب«الشرق الأوسط» \r\n