\r\n الحدود من ناحية الشمال لم تكن فيها مشكلة تذكر فهي في معظمها كانت تتبع الخطوط التي تم الاتفاق عليها بين الانجليز والفرنسيين عندما احتلوا المنطقة، بعد جلاء الاتراك منها في اعقاب الحرب العالمية الاولى ومن ناحية الجنوب كانت المشكلة محدودة ايضاً حيث تعين ان تجرى الحدود الاسرائيلية على الخط الذي رسمه الانجليز كقوة وصاية على فلسطين لكن تحديد الحدود الشرقية مع الاردن كانت معضلة حقيقية ووجعاً في قلوب النواب. \r\n \r\n كانت تلك الحدود خطا زجزاجياً يخترق القرى والمزارع، ولا تتحدد الا بموقف الجنود الاسرائيليين لخطة وقف اطلاق النار ومن هنا نشب النزاع بين النواب الذين كان بعضهم ايضاً ضمن اولئك الجنود المقاتلين. \r\n \r\n لم يهن على اولئك النواب ان يتخلوا عن شبر قاتلوا من اجله. ولم يكن رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون ممن يتخلون عن سلطاتهم للكنيست. وكان الجناح المعارض ذو الاتحاد السياسي اليميني على استعداد لكي يطرح الثقة بحكومة بن غوريون اذا هادن نوعاً ما. وكانت سياسة بن غوريون تقوم على نوع من التهادن، ليرى العالم انه زعيم معتدل من طبعه ان يساوم في الامور السياسية، ولا يتشدد فيها. \r\n \r\n خناقة في الكنيست \r\n \r\n صرخ نواب اليمين ومؤيدوهم في وجه بن غوريون وهو يتحدث: لا.لا.لا هذه سياسة خاطئة بالتأكيد. لا يمكن ان تفرط في شبر من «أرض الميعاد المقدسة». اتجه بن غوريون صوب المتظاهرين وحدثهم: نعم، إن ما تقولونه صحيح. تستطيع عصابات الهاجاناة ان تحتل جميع «أرض اسرائيل». ولكن تذكروا ان ما جرى على ايديهم في دير ياسين ليس سياسة هذه الحكومة. اننا سنحصل على «ارض اسرائيل» ونقيم عليها الدولة المطلوبة بوسائل افضل. \r\n \r\n هتفوا في وجهه من جديد لا.لا.لا: ما ارخص هذا القول ان هناك ملايين من اليهود على استعداد للهجرة إلى اسرائيل فلا يمكن ان نتنازل عن شبر مما في ايدينا الآن. \r\n \r\n اجابهم بن غوريون. لا. هذا لا يمكن ان يحدث ابداً فالبرلمان سيمنع هجرة هؤلاء إلى اسرائيل. \r\n \r\n هكذا فصل بن غوريون في الامر: هل تريدونها دولة قومية ام دولة دينية؟! هل دولة اسرائيل ام الدولة العبرية؟! وبعد التصويت اتضح ان النواب صوتوا باغلبية ساحقة لصالح انشاء «الدولة اليهودية». \r\n \r\n وخلال ايام بن غوريون لم يثر مصطلح «الدولة اليهودية» اشكالات عميقة. ما فهم من المصطلح عموماً هو ان اليهود يستطيعون ان يأتوا من مختلف انحاء العالم ويصبحوا فور وصولهم إلى اسرائيل مواطنين لهم حقوق بها وعليهم واجبات تجاهها. ولذلك ايد معظم دول العالم مبدأ انشاء اسرائيل، وصوتت الاممالمتحدة باغلبية كبيرة لصالح قرار انشائها. والاكثر من ذلك فقد تغاضى العالم عن مطاردة اليهود لعرب فلسطين وتشريدهم واكتفى بارسال بعض الخيام والاطعمة والملابس لهم في الملاجيء. \r\n \r\n كان مبدأ (الدولة اليهودية) عاما فضفاضاً. ولا يعني ذلك ان نواب الكنيست لم يناقشوا اموراً تفصيلية تتفرع منه، فقد ناقشوا اشياء دقيقة مثل هل يعطى المواطنون حق الملكية الفردية ام تحفظ فقط للكييوتزات؟ هل يسمح باستئجار عمل الآخرين ام لا؟ وتجادلوا. اشد الجدل بشأن الدستور ولم يتفقوا على شيء بشأنه فبقوا بلا دستور حتى الآن، وتجادلوا باللغة اليديشية التي كان يتحدثها بنو اسرائيل ايام الاسترقاق عن اهمية اللغة العبرية التي اصبحت اللغة الرسمية لاسرائيل، وتناقشوا في موضوع العملة الاسرائيلية.. الخ ولكنهم لم يتطرقوا إلى تعريف دقيق، جامع، مانع، واضح لمفهوم «الدولة اليهودية». \r\n \r\n هكذا تكلم بوبر \r\n \r\n نهض فلاسفة مدققون قلائل من امثال مارتن بوبر المشهور اليوم في اي مكان في العالم الا اسرائيل وقد تحدث عن «رسالة اليهود» في العالم، وانتهى إلى انها تتلخص في اقامة العدل على الارض. وقال ان نجاح اليهود في اداء رسالتهم تلك يتلخص في حسن معاملتهم لغير اليهود في دولتهم، يريد العرب، ولذلك صد اليهود عن دعوته تلك كل صدود. ذلك لأنهم ما كانوا بصدد العدل، وانما كانوا بصدد معالجة ظلم الاوروبيين لهم بظلم آخر يوقعونه بأهل فلسطين. \r\n \r\n ظل المفهوم قومياً، وطنياً، استيطانياً بهذا المعنى. ولم يقحم موضوع الدين كثيراً، وقد كان مؤسسو اسرائيل ودعاة الصهيونية الاوائل من ابعد الناس عن الدين، والكثير جداً منهم كان ملحداً، بل صريح الالحاد، وما كانوا يطيقون الحديث عن الدين، والقوانين الدينية، ولا ترديد افكار الحاخامات المتطرفين، وما كانوا يريدون لافكارهم الطوباوية القومية ان تختلط بالطروحات الدينية بأدنى قدر. \r\n \r\n ونشب تضاد وصراع ما بين الصهيونية وجمهرة المتدينين اليهود، لاسيما مستوطنيهم الاوائل الذين تدفقوا على القدس منذ مطالع القرن العشرين، وساء الصهاينة وجود اولئك بالقدس وعدوهم حرجاً لطرحهم «التقدمي» الذي بدأت اوروبا اللادينية تصغى اليه، وساءهم اكثر ان تعايش اولئك المتدينين بسلام مع عرب فلسطين، يهزم جوهر الدعاية الصهيونية القائلة باستحالة عيش اليهود مع غيرهم في دولة واحدة بسبب عدم تسامح الغير مع اليهود. \r\n \r\n لم يكن الحاخامات يريدون انشاء دولة لليهود. كانت نهاية آمالهم ان تتاح الفرصة لليهود في فلسطين لكي يتفرغوا لدراسة التوراة والصلاة والدعاء لله تعالى ان يبعث اليهم المخلص المنتظر. اما دولة تقوم على «العمل» و«الجندية» وفكرة الديمقراطية المأخوذة من روسو «الملعون» ومفكري عصر التنوير الملحدين كفولتير فهذا ابعد ما كان يرد على الخاطر الديني اليهودي على الاطلاق. \r\n \r\n وقد تماشى المنظر الصهيوني الاول ثيودور هرتزل بمرونة مع افكار الحاخامات، وسمح لهم بأن يوجدوا داخل اسرائيل الحلم ولكن على ان ينحصر نشاطهم داخل معابدهم لا يتعداها إلى الوجود المدني العام. \r\n \r\n التلفيق الصهيوني ينتصر \r\n \r\n وعندما جاء يوم التأسيس انتصر المنطق الصهيوني على المنطق الديني. وابرز حجة الصهاينة ان هتلر لم يكن يميز بين اليهود على اساس مدى تدينهم، واذا كانوا يعطلون في يوم السبت ام لا، وما اذا كانوا يدرسون التوراة من عدمه، ففي كل الاحوال كانوا يكبون على رؤوسهم في افران الغاز، وحيث مات الكثير من الحاخامات، مات كذلك العديد من الملحدين اليهود. فكلهم عند هتلر بل عند العالم اجمع يهود. وعندما كتب الآباء المؤسسون لاسرائيل ما اسموه اعلان الاستقلال لم تكن هناك اشارة إلى القوانين الموسوية. \r\n \r\n وانما اشارة قوية إلى ان اسرائيل تعرف كيف تدافع عن نفسها، وتعهد بحماية الآثار المقدسة، وتأمين المساواة بين المواطنين بغض النظر عن اديانهم، والالتزام بميثاق الاممالمتحدة، ولم تأت الاشارة إلى الايمان بالله الا في خاتمة الاعلان ولم تأت الا في آخر لحظة لتحقيق نوع من التنازل الشكلي للمتدينين. \r\n \r\n كان بن غوريون اول من وقع على ذلك الاعلان، وهو رجل لم يكن يأبه للدين ولا لرجاله ولا قوانينه. وزواجه الاول كان بعقد مدني لا ديني، ثم خالف القوانين اليهودية بتطليقه لزوجة وهي حبلى، لصالح عشيقه ملكة قلبه وهي اسرائيل العلمانية. \r\n \r\n وعندما دخل مرة كنيساً ليلقى كلمة عشية بدء جلسات الكنيست الاول صرح بأن تلك هي اول مرة يدخل فيها كنيساً باسرائيل، ذلك مع انه ظل يعيش بالمنطقة لاكثر من اربعين عاماً. \r\n \r\n هذا الرجل المخاصم للدين ورجاله، او النافر منهم والمقلل من شأنهم على اقل تقدير، صدم انصاره جداً عندما اضطر لتقديم تنازل هائل لصالح المتدينين. كان ذلك قبل اعلان الاستقلال عندما جاءت بعثة الاممالمتحدة تتقصى الحقائق وسبل انشاء دولة لليهود بفلسطين. وقد خشى بن غوريون ورهطه من الصهاينة ان يلتقي اعضاء تلك البعثة بالحاخامات ويسألونهم رأيهم فيجيبوا بانهم لا يريدون انشاء دولة لليهود هناك، ولذلك سعى للقائهم اولاً، وتعهد لهم بأن الدولة ستعد يوم السبت اجازة رسمية وطعام الكوشير طعاماً للجنود، وان وزارة التعليم سترفع يدها عن شئون التعليم الديني وتتركه للحاخامات وحدهم، وتعطيهم كذلك حق الفصل في شئون الزواج والطلاق والانجاب والتبني والموت والدفن.. الخ. \r\n \r\n وهكذا رضي الحاخامات وعندما التقوا ببعثة الاممالمتحدة كفوا عن التعبير عن رأيهم برفض وجود الدولة اليهودية، ولم يطالبوا بها في آن، فارضوا بذلك دينهم وارضوا بن غوريون ومن وراءه من الصهاينة العلمانيين. وزاد طمع بن غوريون، فاحب ان يتمتع باصوات المتدينين في الكنيست، فزاد لهم في الامتيازات. انه لن يقدم طعام الكوشير فقط، ولكنه يمنع غيره منعا باتاً، وانه لن يضمن حرية المدارس الدينية فحسب، وانما سيقدم لها مساعدات مادية. \r\n \r\n ومع تلك التنازلات سال لعاب الحاخامات وطالبوا بالمزيد. ان يوم السبت لا ينبغي ان يكون يوم عطلة رسمية وحسب. وانما يجب على الدولة ان تمنع فيه قيادة السيارات والطائرات والطبخ والنار وبذلك اخذت معاناة بن غوريون وحكومته تزداد بسماحها للحاخامات باستغلال الدولة ولذلك قضى الكنيست في مناقشة قوانين عطلة السبت وقتا لم يقض مثله في مناقشة اي شأن آخر. \r\n \r\n حوار بالحذاء \r\n \r\n تكاثرت العقبات على المجتمع الاسرائيلي جراء تدخلات رجال الدين بقوانينهم العويصة. وكنت اقيم بفندق بتل ابيب التقيت فيه بموظفة اسرائيلية تسمى «عفيفة» غاب عنها زوجها لسنوات عديدة وعد في حكم الاموات، وهي في حكم الارامل. وكانت تريد ان تتزوج شخصاً آخر، ورجال الدين لا يسمحون الا اذا احضرت شقيق زوجها من البرازيل، وكانت بطاقة السفر تكلفها قرابة اجرها لمدة شهر، وبقى بعد ذلك ان تعوض الشقيق عن متاعب السفر وفقده المؤقت لمصدر دخله بالبرازيل. \r\n \r\n قلت لها: ما ضرورة احضار ذلك الشخص؟ قالت: لكي يقذف الحذاء ولم افهم فحوى ما قالت، وتركت القول غامضاً على علاته إلى ان عادت بالشرح وقالت: انني بحكم القانون الديني اليهودي اعتبر ملكاً لشقيق زوجي، وانه يستطيع شرعاً ان يخلفه على الفراش، الا اذا جاء ووقف بحضرة الحاخامات، واعلن على نحو صريح انه لا رغبة له في البتة، ولا يكون الاعلان صريحاً مقنعاً الا اذا خلع حذاءه وقذفنى به في وجهي فذلك ابلغ واوضح اعلان. \r\n \r\n هكذا دفعت «عفيفة» قسطها وهو ضئيل من المبلغ الهائل الذي تعهد بن غوريون بدفعه لرجال الدين. وهاكم قصة اخرى تكاليفها اكبر لانها مست قطاعاً واسعاً من المواطنين يرتادون ذلك الفندق لتناول الطعام ايام السبت من كل اسبوع. وحسب التعهد الذي اعطي لرجال الدين اليهود فإن الطعام يجب ان يعد في يوم الجمعة، وان يكون «كوشير» بالطبع، وان يوظف بعض غير يهود لتسخينه يوم السبت، ثم يأتي السياح ورجال الاعمال وبعض رجال الدين الذين يخشون ان يرتكبوا الخطيئة في بيوتهم للاكل الهنيء. \r\n \r\n وعند الباب تسألهم مضيفة المطعم: لحم ام حليب؟ ذلك لان القوانين الدينية اليهودية تحرم خلط اللحوم والالبان معا، وبالتالي لا يمكن ان تأكل البسطرمة بالجبن ابداً، ولكن يمكن ان تأكل واحداً منهما على انفراد. المهم ستوجهك المضيفة إلى الجهة التي اخترتها حيث تأكل من أصناف اللحوم أو منتجات الألبان لا من كليهما، فبهذا لا تنتهك حرمة القانون. \r\n \r\n والذي حدث فيما أبلغني الراوي ان سائحاً من المتنطّعين الدينيين من كليفلاند رفع عقيرته بالشكوى قائلاً إن البخار المتصاعد من صحن اللحوم في الجانب الآخر من القاعة انتهى الى مكانه في قاعة تناول منتجات الألبان واختلط بها اختلاطاً منكراً لا يقره الدين. واضطربت إدارة المطعم والفندق، ولما أفاقت من موجة الذعر، اهتدت الى خطة ماكرة فاستشارت حاخاماً لا فقه له في الدين عين لمراقبة طعام الفنادق علّه أن يفتي بعدم مخالفة ذلك الفندق لقوانين الدين. \r\n \r\n ولكن الحاخام أقر بعجزه عن استيعاب النازلة الطارئة واستخراج حكم ديني بصددها، وقرر الاستعانة بحاخامات أفقه منه، ولكن في يوم السبت يحرم استخدام الهاتف، فماذا يفعل؟ لابد من الانتظار إلى يوم الغد. \r\n \r\n وفي يوم الأحد اتصل الحاخام الأصغر بالحاخام الأكبر في تل أبيب، واحاطه علماً بالموضوع، وطلب الفتوى. وبدلاً من ان يختصر للحاخام الاكبر الموضوع بدأ يكبره ويطرح اسئلة نظرية بإزائه، فسأل: يا ترى هل البخار يعدّ طعاماً؟ واستدعى مجلساً أعلى من رجال الدين ليتلقى منهم الجواب السديد. \r\n \r\n اجتمع رجال الدين وقالوا ان الأمر يستوجب بحثاً أعمق في النصوص، فبحثوا إلى أن اعترضهم سؤال جوهري: يا ترى ما هو الطعام نفسه؟ وما هو تعريف الطعام؟ وقضوا وقتهم في البحث والمناقشات الجدية في هذا الموضوع إلى أن اهتدوا الى النص العجيب التالي: «إن ما لا يأكله الكلب لا يعد طعاماً». وفقهوا من هذا النص كما أرادوا أن نقيضه غير صحيح بالضرورة. فكل ما يأكله الكلب لا يعد طعاماً ضربة لازب. فعلى سبيل المثال، إذا أكل الكلب لحم الخنزير فإن ذلك لا يعد طعاماً وبذلك يظل لحم الخنزير محرماً على اليهود. \r\n \r\n الحكمة المهمة المستخرجة من النص أن كل ما يرفض الكلب أكله لا يعد طعاماً، وعلى ضوء ذلك رجعوا لدراسة نازلة البخار، وطلبوا أن يتم اجراء تجربة عملية في مطعم الفندق، وأتوا بقضهم وقضيضهم إلى هناك، وأوقدوا النار في غير يوم السبت، طبعاً تحت صحن اللحم، وغطوا عليه بخيمة صغيرة تحول دون تشتت البخار، وذلك حتى يتمكن رجال الدين من تكثيفه واختباره. وقد ربطوا قناة صغيرة بسقف الخيمة حتى ينساب فيها البخار ومدوا القناة الى قناة أخرى طويلة تتصل بالأرض ومغطاة بأقمشة رطبة. وهكذا تم اخيراً تكثيف البخار وجمعه في صحن ملقى على الأرض. \r\n \r\n وصاح حاخام تل أبيب الأكبر، وكان يشرف على التجربة برمتها: الآن احضروا الكلب! وفتح باب المطعم وأتى الكلب يتهادى، وأخذ يتشمم أرجل الكراسي والموائد وكل ما لصقت عليه رائحة شواء. وعندما اقترب من الصحن الذي كثف عليه البخار أعرض عنه واشمأز منه، واستأنف تشمم الاشياء الأخرى بالقاعة. وعندها أعلن الحاخام الأكبر حكم الدين في هذه المسألة التي طال فيها الأخذ والرد، وهو أن البخار ليس بطعام في شريعة اليهود! وتنفس موظفو الفندق والمطعم الصعداء مبتهجين لتآزر الدين والعلم في تبرئتهم مما رماهم به ذلك المتنطّع من كليفلاند بولاية أوهايو. \r\n \r\n إلى أن يموت الكلب \r\n \r\n مثل هذه المسائل تتكرر بلا حد ويصبر الناس على وقوعها والخروج منها أو انتظار الخروج منها إلى أمد غير منظور ويرددون في ذلك عبارة ما أكثر ما طرقت أذني: «إلى أن يموت الكلب أو صاحبه». ولما سألت عن أصلها وحقيقتها أجابتني الروائية الإسرائيلية باتيا غور بأنها حكاية جاء بها يهود بولندا الذين كانوا مستبعدين عند الاقطاعيين هناك. وذات يوم طلب الاقطاعي من الفلاح اليهودي أن يقوم بتعليم كلبه اللغة اليديشية وإلا دق عنقه. وذهل الفلاح لهذا الطلب الغريب، ولكنه استخدم دهاءه الغريزي. \r\n \r\n وقال: امهلني إلى غد وسأجيبك إلى ما طلبت! وذهب إلى أفراد أسرته واستشارهم في الأمر فأفرطوا في بكاء مرير، إذ أدركوا ان عائلهم لا محالة مقتول، إذ لا سبيل إلى تعليم الكلب أن يتكلم اليديشية أو أي لغة أخرى. مزقت زوجة الرجل المنكوب رداءها ولبست ثياب الحداد وانضمت مقدماً إلى طابور الأرامل. \r\n \r\n ذهب الفلاح اليهودي في اليوم التالي، وتعهد لسيده بأن يعلم كلبه اليديشية باتقان خلال خمسة أعوام، ووافق السيد وانصرف الفلاح إلى أهله وأخبرهم بما جرى، فما قل حزنهم إلا قليلاً، قائلين: كيف تقدم تعهداً مثل ذلك لا تقدر أن تفي به؟ فأجابهم من فوره: في خمس سنين سيحدث شيء ما، فإما أن يموت السيد أو كلبه. وغدت هذه المقولة مثلاً وتعلقت بنفسية يهود إسرائيل وجعلوها شعاراً لحل المشكلات المستعصية لاسيما مشكلات تسلط الحاخامات على شئون المجتمع المدني. إنهم ينتظرون أن تحل المسائل عند الإرجاء المتكرر عن طريق ما. \r\n \r\n ولكن ما حدث هو أن رجال الدين اليهود انتهزوا الفرصة وكثفوا تدخلاتهم حتى أصبحت بمثابة الأمر الواقع بالتدريج، وهكذا أخذت إسرائيل تقترب يوماً بعد يوم من نموذج الدولة الثيوقراطية، حتى ان نتائج استطلاع الرأي العام تدل باطراد على أن رجال الدين قد أصبحوا خطراً كبيراً على إسرائيل وخطراً أكبر على العرب. \r\n \r\n هذا الواقع المتراكم بسبب الإرجاء له تأثيره المؤذي على النسيج الاجتماعي السياسي الإسرائيلي لأنه بدأ يوسع شقة الخلاف بين القوى الدينية والعلمانية. وبسببه قتل رئيس الوزراء الأسبق رابين الذي اصطاده متطرف ديني بعدما صدرت ضده فتوى بأنه عدو للرب. \r\n \r\n وأما عن الخطر الداهم على العرب، فإن هؤلاء المتطرفين اليهود ما فتئوا يستنطقون صحائف العهد القديم وهي تقول: «تحدث الرب لموسى في سهول مآب عند الأردن وقرب الخليل: خبر بني اسرائيل وقل لهم عندما تعبرون نهر الأردن إلى أرض كنعان قوموا بطرد كل السكان من أراضيهم وحطموا بيوتهم وكل ما يمت إليهم بصلة وقوموا بسكن ذلك المكان الذي أعطيتكم له بعدهم». وقد اعتبروا ان هذا يخولهم إرهاب الناس وطردهم وتخريب ممتلكاتهم وانتهابها منهم باسم تصور يريدون أن يفرضوه على إسرائيل ويجعلوا منه اطاراً للعمل السياسي العام. \r\n \r\n