أما في العراق، فنحن نأسى ونحزن على عشرات قتلانا من الجنود الذين بلغ عددهم ما يصل إلى نسبة 2 في المئة من مجموع قتلانا في الحرب الكورية. ونحزن بالقدر ذاته على القتلى العراقيين في صفوف المدنيين والعسكريين على حد سواء. ولكن تبقى الحقيقة التي لا مراء فيها، وهي أن عشرات الآلاف منهم، لا يزالون على قيد الحياة، نتيجة لأنه لم يعد هناك صدام حسين، ليعذبهم ويزهق أرواحهم سواء كان ذلك داخل سجونه الرهيبة، أم بإعدامهم وتصفيتهم مباشرة. وليس أدل على وحشيته أكثر مما حكته لنا مقابره الجماعية، التي طمر فيها عشرات الآلاف من مواطنيه. \r\n \r\n ما من أحد يستطيع الادعاء بأن العراق سيبقى موحدا وحرا، عقب انتقال السيادة إلى يد مواطنيه في الثلاثين من شهر يونيو المقبل. غير أن الآفاق والاحتمالات تبدو أفضل وأدعى للتفاؤل بكثير من تلك الصور القاتمة، التي رسمها الانهزاميون العام الماضي، بتأكيداتهم على أنه لا سبيل إلى غرس نبتة الديمقراطية أصلا، في تربة عربية معادية للديمقراطية، بحكم تكوينها وتاريخها وبنيتها. فبفضل التحول الديمقراطي الذي حدث هناك، تدور أجهزة التلفزيونات ومكيفات الهواء بالطاقة الكهربائية المجانية، بينما يواصل النفط تدفقه، في حين استعادت المدارس وغيرها من مؤسسات التعليم الأخرى، وكذلك المؤسسات الاستثمارية أنشطتها وحيويتها. ومع أن معدل البطالة يبلغ اليوم ما يزيد على 30 في المئة، إلا أن المؤكد أنها سوف تنخفض، ما أن يبدأ مبلغ الثمانية عشر مليار دولار الذي خصصه الكونجرس في التدفق ، كجزء من إجمالي المساعدات الأميركية المرصودة لكل من العراق وأفغانستان. وهذه تبلغ حوالي 87 مليار دولار. ما سيخفض معدلات البطالة في العراق، هو أن تدفق المبلغ المذكور أعلاه، سيبدأ اعتبارا من الشهر الجاري، وأن العمالة المحلية العراقية هي التي ستقوم عليها مشروعات إعادة البناء والتعمير. إلى ذلك، فإننا نتولى أمر تدريب وحدات مدنية دفاعية بين العراقيين، تعادل ضعفي ما للسنيين والأكراد من قوات. والهدف من هذه الوحدات، هو أنها ستتولى مهام القتال ضد عناصر \"أنصار الإسلام\" وتنظيم \"القاعدة\"، وبقايا عناصر \"البعث\" التي تقاتل إلى جانبهم. ومع انتقال السلطة السياسية إلى الحكومة العراقية المؤقتة، وفق ما هو مقرر، فإنه يتوقع أن تكون هجمات مدافع الهاون والصواريخ والتفجيرات التي تشهدها مدن العراق وساحاته وشوارعه اليوم، أداة تحيل الغضب الشعبي العام الذي تثيره هذه الهجمات، إلى أداة للوحدة الوطنية وتعزيز الإرادة السياسية العامة ضد مرتكبي الهجمات المذكورة من مختلف أنواع الإرهابيين، وأعداء الحرية والديمقراطية. عندها سوف يوجه الغضب الشعبي هذا، إلى نحور الإرهابيين، وليس إلى قوات التحالف الدولي، التي ينظر إليها الآن على أنها قوات احتلال. \r\n \r\n وعلى أية حال، فإن الانهزامية لا تجدي شيئا أمام السعي لاستئصال شأفة الإرهاب الإسلامي الأصولي. ولابد لنا من أن نؤمن بتجارب وفأل الدمج والمزاوجة، ما بين الديمقراطية وخيرات الازدهار الاقتصادي. وفي عالمنا الحالي، عالم جيل القرن الحادي والعشرين، فقد رأينا بأم أعيننا كيف أن النفس البشرية قد جبلت أصلا على عشق الديمقراطية، والتطلع إلى العيش في كنفها. فمن قطر إلى الكويت، هبت نسمات الإطاحة بصدام حسين، وفعلت فعلها السياسي في هاتين الدولتين. أما في ليبيا، فقد قدم عقيدها تنازلات عسكرية كبيرة فيما يتصل ببرامجه النووية، مخافة أن يلحق الخراب باقتصاد بلاده، بل والإطاحة بنظامه نفسه. وفي إيران، بدأت تنضج الظروف الموضوعية المنذرة بحدوث تغيير سياسي فيها. وفي كل من مصر والمملكة العربية السعودية، بدأ يدب القلق، جراء رياح التغيير والديمقراطية التي ستكتسح المنطقة من تركيا، مرورا بالعراق، فإسرائيل، فاتحة الطريق أمام قوى الاستنارة والعلم والمعرفة، التي تهيئ الظروف كي يفعل الازدهار الاقتصادي التحريري، فعله في الواقع السياسي لمنطقة الشرق الأوسط الكبير بأسرها. \r\n \r\n أما في سوريا، فقد شرع الرئيس بشار الأسد، يستشعر سخونة الأرض تحت قدميه. وليس مستبعدا أن يكون قد عمل على إخفاء أسلحة العراق، وجعل بلاده معبرا لعناصر تنظيم \"القاعدة\" الذين يقاتلون في العراق. ثم إنه لا يزال يواصل احتلاله لجزء من أراضي لبنان، علاوة على دعمه لعناصر حركة \"حماس\" و\"حزب الله\"، وكلاهما ضالعان في شن الهجمات الصاروخية وتنفيذ العمليات الانتحارية داخل إسرائيل. وفي داخل سوريا نفسها، يعيش حوالي المليون ونصف المليون مواطن كردي، لا يجدون من حكام دمشق سوى الازدراء. وفي إحدى مباريات كرة القدم المقامة في مدينة القامشلي أطلقت قوات الأمن السوري الرصاص على مجموعة من المحتجين الأكراد العزل، في رسالة تحذيرية لبقية الأكراد، المهمشين في البلاد. \r\n \r\n خلاصة القول إن إحراز نجاح في عملية التحول الديمقراطي في العراق، هو بداية الطريق، لإحداث إصلاحات ديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط الكبير بأسرها. وما أن يبزغ فجر الحرية في رام الله، حتى يكون ممكنا بروز دولة فلسطينية مستقلة، تعيش جنبا إلى جنب مع إسرائيل. وبالقدر ذاته، فما أن تبدأ الديمقراطية زحفها رويدا رويدا في المنطقة، وتنعم شعوبها بنسماتها وخيراتها ومكاسبها السياسية والاقتصادية، حتى تخبو وتنطفئ رويدا رويدا، نيران الكراهية والعداء والإرهاب. عندها ستغادر شخصية \"الانتحاري أو القنبلة البشرية\" خشبة المسرح السياسي، مرة واحدة وإلى الأبد. \r\n \r\n \r\n ويليام سافير \r\n \r\n كاتب ومحلل سياسي أميركي \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"نيويورك تايمز\"