يمثل الصعود المفاجئ الذي حققه تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) خلال الأسابيع القليلة الماضية، وإعلانه إقامة «الخلافة الإسلامية» في مناطق سيطرته، الممتدة من شمال غرب العراق إلى شمال شرق سوريا، نقطة تحول استراتيجية في مسيرة المقاتلين الجهاديين، ومعهم أيديولوجيتهم الراديكالية الساعية إلى توسيع نفوذها في الشرق الأوسط. وإذا كان هذا التقدم لا يعدو من الناحية السياسية كونه ظاهرة مؤقتة من غير المرجح أن تستمر طويلا، فإن مجرد إعلان دولة «الخلافة» يؤسس لمواجهة أيديولوجية جديدة في المنطقة. ذلك أن خطر «الخلافة» وتهديدها كان حاضراً بقوة في خطاب جورج بوش الناري وتبريراً أساسياً لحربه الكونية على الإرهاب التي امتدت طيلة عقد من الزمن. لكن إلى أي مدى يتعين علينا الخوف من مفهوم الخلافة؟ هنا لابد من الرجوع إلى التاريخ وتسليط الضوء على بعض التفاصيل. فمنصب الخليفة أو أمير المؤمنين، يعود إلى فترة ما بعد وفاة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، حيث كانت الدولة الإسلامية الفتية في حاجة إلى من يقودها سياسياً وروحياً، ومنذ تلك الفترة ومنصب الخليفة حاضر في حياة المسلمين، لاسيما بوصفه لقباً روحياً يسهم في إضفاء الشرعية على القادة الذين آل إليهم الحكم أو انتزعوه انتزاعاً، حتى وإن كانوا يحكمون وفق منطق علماني برداء ديني. وبالنسبة للغربيين، فهناك مفهوم قريب، وإن كان مختلفاً، يتمثل في البابوية. فقد كان البابا يتمتع بسلطة دنيوية واسعة في أوروبا، وكثيراً ما استغلها أسوأ استغلال. لكن، وبصرف النظر عن فساد الشخص الذي يتولى البابوية وسوء إدارته، فقد ظل ذلك المنصب في إطلاقه يحظى باحترام وتقدير كبيرين باعتباره رمزاً للغرب المسيحي. والأمر نفسه تقريباً ينطبق على «الخليفة» في العالم الإسلامي، الذي ظل على الدوام يحيل إلى نموذج مثالي من الحكم يتطلع له جمهور المسلمين، من غير أن يستطيعوا تجسيده واقعاً على الأرض، باعتباره رمزاً لوحدة الأمة الإسلامية، وأيضاً للحكم الرشيد. هذا التطلع إلى المثال سياسياً وروحياً في إطار ثقافي إسلامي ما زال يغري، حتى الآن، العديد من المسلمين، وإن كانوا يعترفون بأنه نموذج غير واقعي ولا يوجد سوى في عالم المثل البعيد. لذا فعندما أقدم الزعيم التركي، مصطفى كمال أتاتورك في عام 1923 على تأسيس الدولة التركية المعاصرة على أنقاض الخلافة العثمانية التي ألغاها بعدما استمرت لحوالي سبعة قرون، صُدم العالم الإسلامي. فالمنصب ظل، رغم مشاكله، موجوداً لمئات السنين في إسطنبول، وكأن رئيس الوزراء الإيطالي استيقظ ذات صباح فقرر إلغاء البابوية بوصفها مفهوماً عتيقاً ومؤسسة مثيرة للجدل! فكيف ستكون ردة فعل الكاثوليك حول العالم؟ الحقيقة أن البابوية ليست ملكاً لإيطاليا حتى تغليها، ولا كانت الخلافة ملكاً لتركيا حتى تطمسها، لذا يشعر العديد من المسلمين بالحنين لقوة ورمزية المنصب الذي في غيابه ظل الإسلام والأمة من دون سلطة تتحدث باسميهما. لكن أغلب المسلمين لن يقبلوا على الأرجح انبعاث المنصب من جديد في حياتهم المعاصرة، فأين وكيف ومن سيختار وبأي صلاحيات وبأي مكانة دولية يمكن تأسيس الخلافة؟ فهذه الأسئلة تصعب الإجابة عنها، ومع ذلك ما زال المفهوم يستحضر في أذهان المسلمين فترة من الازدهار والقوة عرفها التاريخ الإسلامي. وفيما يحافظ الكاثوليك على البابا كرمز للماضي والوحدة الدينية، خسر المسلمون من جهتهم المؤسسة المركزية التي تستطيع التحدث باسم الإسلام، حتى في إطاره السني، وتذود عن حياض المسلمين في العالم. ورغم الحضور المتواصل للفقهاء ودورهم المؤثر في حياة المسلمين، إلا أن العديد منهم ينظر إلى غياب سلطة موحدة باعتباره مصدراً للضعف ولافتقاد رؤية إسلامية موحدة تقود الأمة. وفي حقبة غزا فيها الغرب عدداً من بلاد الإسلام، وأطاح بقياداتها، واستولى على مواردها الاقتصادية والطاقية، يظل الشعور بالضعف وغياب القيادة في العالم الإسلامي انشغالا حقيقياً وملموساً لدى كثير من المسلين. لذا فعندما تُستخدم عبارة «الخليفة»، فإنها تمس وتراً تاريخياً حساساً، حتى وهم ليسوا مهتمين بإعادة المنصب من جديد. وفي وقت تعرضت فيه أفغانستانوالعراق لاحتلال أميركي، ودمرت أجزاء واسعة منهما بسبب النيران الأميركية، وتبقى سوريا في مرمى النيران الغربية في ظل الحرب الأهلية الجارية بتحريض خارجي.. تجد المشاعر والأفكار الراديكالية لها أرضاً خصبة في العالم الإسلامي. لذا ليس غريباً أن نسمع اليوم دعوات تطالب بتوحيد الأمة الإسلامية وجمع شتاتها. لكن الحقيقة تظل أن الرؤية التي يبني عليها هؤلاء المتشددون نظرتهم للعالم الإسلامي غير مقبولة ومستهجنة من غالبية المسلمين، وإن كان ما شهده العالم الإسلامي على مدى العقد الأخير من دمار وعنف يبرر في جزء منه ردود الفعل المبالغ فيها التي تتخذ من الرجوع إلى الخلافة، وتبني أفكار راديكالية تجسيداً واضحاً لها. وهنا لا يمكن اعتبار ما تدعو إليه «داعش» على أنه يمثل الوجه الحقيقي للخلافة الإسلامية التاريخية، مثلما أن محاكم التفتيش الإسبانية، أو إبادة سكان أميركا اللاتينية على أيدي المستعمرين الإسبان لا تعبر عن البابوية. وإذا كانت دولة «الخلافة» التي أعلنتها «داعش» لن تدوم طويلا، فإنها ترمز في العمق لمدى التيه والانحراف الذي جرف المفهوم بعيداً عن مدلولاته التاريخية. ومع أن أغلب المسلمين سيرفضون نسخة «داعش» من الخلافة التي أقامتها بملامحها القاسية وغير المتسامحة، إلا أن الأوقات العصيبة في حياة الأمم والشعوب تنتج ردود فعل راديكالية، لذا سيستمر بحث المسلمين عن طريقة لتجاوز تركة الاستعمار وحدوده المصطنعة والتطلع لانسجام سياسي واقتصادي وثقافي وديني أكبر، وهو على الأقل ما يفترض أن تمثله الخلافة الحقيقية بالنسبة لعموم المسلمين. نوع المقال: سياسة دولية الولاياتالمتحدة الامريكية