منذ ظهوره على الساحة السياسية العالمية في مطلع الألفية الجديدة، لم يخف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين آلامه، وربما حسرته على انهيار الاتحاد السوفييتي السابق الذي ولد بوتين وترعرع فيه، واكتسب تعصبه القومي وولاءه المتفاني لوطنه الأم روسيا من عمله في جهاز الأمن القومي السوفييتي الشهير باسم «كي جي بي». والجميع يتذكر دائماً مقولة بوتين الشهيرة: «إن انهيار الاتحاد السوفييتي كان بكل المقاييس أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين»، هذا الألم الدفين لدى بوتين على انهيار الدولة السوفييتية العظمى تحول في خياله إلى حلم وأمل في استعادة هذه الدولة بأي شكل من الأشكال الملائمة عصرياً للظروف والمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية. ومنذ توليه الحكم في الكرملين في مطلع الألفية الجديدة بدا على بوتين اهتمام ملحوظ بدول الجوار من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، وهذا على العكس تماماً من سياسة سلفه الراحل الرئيس بوريس يلتسين الذي قطع أوصال روسيا بجيرانها وهرول نحو الغرب. وضع بوتين لحلمه السوفييتي اسماً جديداً هو «الاتحاد الأوراسي»، ووضع لبنة حلمه هذا في «لجنة الاتحاد الجمركي» التي تشكلت عام 2011، وهي لجنة مهمتها إدارة الاتحاد الجمركي الذي يضم في عضويته ثلاث دول هي روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان، والتي يسعى بوتين لتحويلها إلى هيئة مهمتها إدارة الاتحاد المزمع إنشاؤه تماثل المفوضية الأوروبية تحت مسمى «اللجنة الاقتصادية الأوروبية الآسيوية». توالت اجتماعات قادة وممثلي دول الاتحاد الجمركي الثلاثي، وكان آخرها الأسبوع الماضي، لقاء رؤساء الدول الثلاث في العاصمة البيلاروسية مينسك، والذي خصص لمناقشة تطوير الاتحاد الجمركي بينهما إلى اتحاد اقتصادي يجمع دول المنطقة الأوراسية. وقد أعدت دول الاتحاد الجمركي اتفاقية لتأسيس الاتحاد الاقتصادي الأوراسي تقع في 600 صفحة، ويجب أن يوقعها رؤساء الدول الثلاث (فلاديمير بوتين وألكسندر لوكاشينكو ونورسلطان نزاربايف) في نهاية شهر مايو الجاري، على أن يبصر هذا الاتحاد النور مطلع العام المقبل. بوتين، الذي استوعب تجربة الاتحاد السوفييتي السابق جيداً، لديه الآن يقين قاطع بأن الاقتصاد هو أفضل وسيلة لتجميع الدول واتحادها، وأن ظروف العصر لم تعد تسمح بالأيديولوجيات والشعارات السياسية والطموحات الاستراتيجية، وأمامه نموذج حي. وهو الاتحاد الأوروبي الذي قام وترعرع على أساس اتحاد اقتصادي لصناعة الحديد والصلب ليجمع بين عدد كبير من الدول المختلفة فيما بينها في كل شيء، ولا يجمعها سوى الإقليم الجغرافي، وبدا هذا واضحاً في حديثه في القمة الثلاثية الأسبوع الماضي، حيث قال: «إن الاتحاد الجمركي الذي أنشأناه دخل إلى حيز العمل وبات يحقق الفوائد لاقتصادات بلداننا. ويمكننا أن نقوم بخطوة جديدة للنهوض بمستوى علاقاتنا، الأمر الذي سيتيح زيادة فاعلية اقتصاداتنا، ويزيد جاذبية سوقنا المشتركة بشعوبها ال170 مليون نسمة». بوتين يعلم جيداً أهمية الاقتصاد كعامل جذب للدول الأخرى التي تعاني من مشكلات في اقتصاداتها وتطمح للتعاون مع روسيا الغنية، ولكن هذا في رأي الكثيرين لا يعني أن نية بوتين اقتصادية بحتة، بل إن هناك ما يخفيه من طموحات ونيات جيوسياسية من وراء هذا الاتحاد. وكان بوتين قد عبر عن مساعيه ونياته في حديثه إلى أعضاء مجلس النواب الروسي قائلاً: إنه يعتبر إنشاء المجال الاقتصادي الموحد الذي يمثل اللبنة الأولى للاتحاد الأوراسي المستقبلي «أهم حدث جيوسياسي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي»، وقال أيضاً إنه يدخل تحقيق التكامل السياسي والاقتصادي بين روسيا وغيرها من الجمهوريات السوفييتية السابقة في قائمة أولوياته، وأنه يعتبر تعميق التكامل في الساحة السوفييتية السابقة مهمة رئيسية لاقتصاد روسيا وسياستها الخارجية»، قائلاً «إن مستقبلنا يتعلق بهذا». ودعا بوتين إلى ضرورة تعزيز الدور الروسي على الساحة الدولية، مشيراً إلى أنه يمكن تكبير دور روسيا من خلال إقامة كيان اتحادي جديد في أوراسيا. هذه التصريحات تعكس ما يدور في عقل بوتين، وهو الأمر الذي زادت أهميته والإلحاح نحوه بعد اشتعال الأزمة في أوكرانيا في فبراير الماضي، خصوصاً وأن أوكرانيا هي المرشح الرابع للاتحاد الجمركي الجاري، بل إن الكثيرين يرون أن الاتحاد الأوراسي المزمع تأسيسه سيفقد الكثير من فاعليته. إذا غابت عنه أوكرانيا، وقبل اشتعال الأزمة بذلت روسيا جهوداً كبيرة لإقناع أوكرانيا بالعدول عن اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والانضمام للاتحاد الجمركي الثلاثي، وأبدت أوكرانيا استعدادها بالفعل للانضمام للاتحاد الجمركي، ولأن الأوروبيين والأميركيين يعلمون طموحات بوتين من وراء هذا الاتحاد الجمركي. فقد استشاطوا غضباً لرفض الرئيس الأوكراني المعزول يانوكوفيتش توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في يناير الماضي، ودبروا ضده الانقلاب الذي أدى لعزله في فبراير الماضي، والذي أشعل الأزمة في أوكرانيا إلى حالة الحرب التي تشهدها الآن. نوع المقال: روسيا سياسة دولية