في عام 2008 كانت جورجيا تواجه ضغوطاً شديدة، فالاستفزازات الروسية في منطقتين داخل أراضينا لم تتوقف لتتزامن مع حشد القوات الروسية على الحدود، ولكن مع ذلك أكدت تقريباً جميع الحكومات الغربية التي أثرنا الموضوع معها أن روسيا لن تهاجم جورجيا، وأصرت على ضرورة التزامنا الهدوء وعدم الرد على التحركات الروسية الآخذة في التصاعد، وكان الشخص الوحيد الذي أبدى رأياً حصيفاً صديقي، «أوتو فون هابسبورج»، الذي ينحدر من الأسرة الملكية السابقة للإمبراطورية النمساوية المجرية، فقد توقع أن يهاجم الروس بكل ما أوتوا من قوة عسكرية مهما فعلت جورجيا لتفادي هذا الأمر، فالتاريخ يعيد نفسه كما قال لي! ويبدو أن صديقي ذلك قد قرأ التاريخ واستلهم الماضي، إذ بالفعل وبعد أسابيع قليلة عبر عشرات الآلاف من الجنود الروس الحدود وشرعت الطائرات الروسية في قصفنا على مدار الساعة. ومع أن بوتين فشل في تحقيق هدفه النهائي بالسيطرة على عاصمة جورجيا، إلا أن قواته ما زالت تحتل خمس الأراضي الجورجية. ومناسبة هذا الكلام هي أوجه التشابه العديدة بين المراحل الأولى للاعتداء الروسي على جورجيا وبين ما يجري حالياً في أوكرانيا. فعندما أشاهد الأحداث الأخيرة ورود الفعل العالمية أفكر مباشرة في أن التاريخ يعيد نفسه فعلاً ويكرر حالات مشابهة من الاعتداء عرفتها دول أوروبية أخرى. فخلال ثلاثينيات القرن الماضي احتلت ألمانيا النازية جزءاً من تشيكوسلوفاكيا بذريعة حماية الإثنية الألمانية، واليوم تدعي روسيا أن تحركها في أوكرانيا جاء لحماية الأقلية الروسية، أو بمعنى أصح السكان الذين وُزعت عليهم جوازات سفر روسية على عجل، سواء في القرم أم المناطق الجورجية. ولكن عندما ضمت ألمانيا في 1938 سوديتنلاند التابعة لتشيكوسلوفاكيا كان رد فعل رئيس الوزراء البريطاني، نفيل تشامبرلين، متخاذلاً، معتبراً أن ما يجري هو «خصومة في بلد بعيد وبين شعوب لا نعرف عنها شيئاً»، وهو رد الفعل نفسه الذي نسمعه اليوم بشأن أوكرانيا، حيث تتساءل بعض الأصوات عما إذا كان على الغرب الاهتمام بأوكرانيا التي تعني لروسيا أكثر مما تعنيه لغيرها. كما أن العديدين في الغرب يتحدثون اليوم عن التوصل إلى تسوية مع روسيا، وهو الخيار الذي يذكرنا بمهادنة هتلر قبل ثمانين عاماً. وترتكز هذه الدعوات على المصالح الاستراتيجية المشتركة بين الغرب وروسيا مثل التعاون حول عدم الانتشار النووي، والحرب ضد الإرهاب، لتذكرنا هذه الدعوات أيضاً بحالة التعاون مع هتلر قبيل الحرب العالمية الثانية بدعوى التصدي للخطر الشيوعي. والحال أننا نعرف جميعاً اليوم كيف قادت سياسة المهادنة تلك إلى إطعام دولة تلو أخرى لهتلر لتتدحرج الأحداث نحو الحرب العالمية الثانية. والحقيقة أن جل الكوارث التي تحل بالعالم هي نتيجة منطقية لتداعي النظام الدولي والقواعد المترتبة عليه، وليست أوكرانيا سوى الدليل الأقوى على ذلك. فلنتخيل أن أوكرانيا لم تتنازل عن ترسانتها النووية خلال التسعينيات بضغط من الولاياتالمتحدة وبريطانيا وروسيا التي وقعت جميعاً على اتفاقية تضمن احترام سلامة الأراضي الأوكرانية وسيادتها مقابل تسليم الأسلحة لروسيا، فهل كنا لنصل إلى هذا الوضع؟ ولكن الاتفاقيات التي وقعها الغرب مع روسيا لم تحترم قط ولا تقيدت روسيا بالمعاهدة المبرمة بينها وبين الاتحاد الأوروبي التي تقضي بانسحاب القوات الروسية من جورجيا في 2008. وأكثر من ذلك يبدو أن الدوافع شبيهة بتلك التي حركت ألمانيا النازية، فبوتين يريد تصحيح ما يعتبره إهانة روسيا على يد القوى الغربية بعد الحرب الباردة، الأمر الذي يدفعه إلى إعادة احتلال الأراضي والتحكم في مواردها الطبيعية، فلم يتحدث أحد مثلاً عن استغلال الشركات الروسية للنفط في أبخازيا بعدما انتزعتها روسيا من جورجيا في 2008. ولا أشار أحد إلى استثمار شركات أميركية في حقول النفط الصخري قبالة سواحل القرم، وهو أمر سيهدد إمدادات الطاقة الروسية لأوروبا ويضمن اكتفاءها الذاتي، ما يثير رعب بوتين. ويضاف إلى ذلك أن روسيا تسعى إلى زعزعة استقرار جيرانها لوقف أي تطلع لحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي للتوسع شرقاً. كما يرى بوتين في انتزاع أراضي الغير فرصة لتعزيز حظوظه السياسة في الداخل. فلو أن أوكرانيا تحولت من وضعها الراهن الغارق في الفساد والمحكوم من قبل طبقة أوليغارشية إلى بلد ديمقراطي سيلاحظ معارضو بوتين ذلك وربما يستلهمون نموذجها في الداخل. ولكن لماذا يتعين على الغرب الاهتمام بما يجري في أوكرانيا؟ الجواب هو أننا لسنا فقط بصدد تقسيم أكبر بلد في أوروبا، بل أيضاً تدمير النظام الذي نشأ في أوروبا بعد الحرب الباردة، وهذا النظام الذي أُسس على قواعد واضحة لا تكتفي فقط بحماية البلدان الصغيرة، وإنما تضمن أيضاً الازدهار والاستقرار للبلدان الكبيرة مع ما يقتضيه ذلك من حماية الأقليات وتسوية النزاعات بالوسائل السلمية. ولنا أن نتخيل التداعيات السلبية لو رجعنا بالحدود بين الدول إلى التقسيمات الإثنية! كما أنه في حال إسقاط القواعد التي استقرت بين الدول فإننا سنكون أمام موجة من العنف والنزاعات، غير أن الفرصة ما زلت متاحة لتفادي هذه النتيجة، فالعقوبات التي أعلنتها أميركا يوم الخميس الماضي تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح على أن يصار إلى تطبيقها فوراً وتعزز أوروبا من ردة فعلها. كما يتعين تسريع انضمام أوكرانياوجورجيا ومولدوفا إلى الاتحاد الأوروبي ووضعها على سكة الالتحاق بحلف شمال الأطلسي حتى تفهم روسيا أنه لا يمكنها بلوغ أهدافها بوسائل غير قانونية. وأخيراً نحن لسنا في حاجة إلى قائد متبصر مثل تشرشل لمعرفة ما يجب فعله، ذلك أن الديمقراطيات الحديثة تراكم لديها ما يكفي من التجربة التي تمكن من تفادي الأسوأ مع تضافر المنطق السليم وحد أدنى من الشجاعة. نوع المقال: روسيا سياسة دولية الاتحاد الاوربى-شمال اسيا