في عام 1995، سافرتُ إلى القوقاز على متن طائرة نقل روسية تقل موظفين طبيين ذاهبين إلى الجبهة في إقليم الشيشان. كانت تلك أولى حربي موسكو الأخيرتين ضد الشيشانيين، وكانت تسير على نحو سيئ حيث كان الأطباء والممرضات على متن الطائرة قد رأوا مئات الجنود يموتون وكانوا يشربون الفودكا من الزجاجات بإفراط ليعدّوا أنفسهم لمزيد من العنف. وعندما نزلنا من الطائرة إلى الأرض الموحلة، انهار طبيب جراح بين ذراعيّ باكياً وقال: «ماذا عساي أقول لأطفالي؟». هذا المشهد هو الذي يقفز إلى ذهني عندما يتساءل الناس عن الأسباب التي جعلت فلاديمير بوتين يختار إقامة الألعاب الأولمبية في سوتشي التي تقع على تخوم منطقة حرب القوقاز، حيث يخوض الانفصاليون الآن قتالاً من أجل إقامة دولة إسلامية. فقد كانت الفكرة من وراء اختيار سوتشي هي تقديم بوتين منتصراً، وأن يُظهر للعالم وشعبه أنه قد أعاد إلى روسيا مجدها وفخرها. كما كان القصد من ذلك أيضاً هو إظهار أن بوتين لا يخشى شيئاً، وأنه الرجل القوي الذي وضع حداً للمشكلة الشيشانية. ففي ذهن بوتين، كانت حرب الشيشان 1995 التي خيضت في عهد يلتسن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، رمزاً لإذلال البلاد. ولذلك، عندما وصل إلى السلطة شن حرباً ثانية سحقت الانفصاليين الشيشان على نحو لا يكترث لانتهاكات حقوق الإنسان. وفي 2007، عندما اختيرت روسيا لاستضافة الألعاب، كانت المنطقة تنعم بهدوء نسبي، غير أن أي شخص مطلع على شؤونها كان يدرك أن القمع سيولد تهديداً إرهابياً جديداً. وفي هذا الإطار، يقول جيفري مانكوف، نائب مدير برنامج روسيا وأوراسيا بمركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في واشنطن: «من خلال سوتشي يريد بوتين أن يقول (للعالم) إن روسيا عادت، وإن الاستقرار عاد إلى القوقاز»، مضيفاً «ولكن الكثير من تلك الادعاءات تم الطعن فيها». والحال أنه بدلاً من أن تُبرز نجاحاته وإنجازاته، أظهرت سوتشي نقاط ضعف حكم بوتين. وعلى سبيل المثال، فإن اختيار سوتشي، وهي المكان الذي يقضي فيه بوتين إجازته، كان غريباً لأسباب عدة. فنظراً لمناخها شبه المداري، ربما تعد سوتشي هي المكان الوحيد في روسيا الباردة الذي يتطلب من المنظِّمين صناعة الثلج. ثم إن المدينة كانت تفتقر كلياً للبنية التحتية الضرورية لإقامة الألعاب، وقد أنفق الزعيم الروسي في سبيل إنشائها 52 مليار دولار (وهو مبلغ أكبر بكثير مما أنفقته الصين على ألعاب بكين)، وجزء كبير منه ذهب إلى جيوب الأصدقاء والمقربين، على ما يقال. ومع ذلك، فإن بوتين لم يشعر أبداً بالحاجة إلى إعادة النظر في قراره على ما يبدو. ويقول مانكوف: «إن الأمر يتعلق بشخصية بوتين». ذلك أنه أراد أن يستخدم سوتشي ليُظهر أنه يعرف كيف يقاتل الإرهابيين (خلافاً لأولئك الأميركيين الضعفاء) وكيف يعيد إعمار البلاد. ولكي يُظهر للروس مزيداً من قوته، وافق الزعيم الروسي على تشريع مثير للجدل حول «المثليين» خلال الأسابيع القليلة قبل الألعاب، وهو ما تسبب في ضجة دولية. وخلال الأسابيع الأخيرة، لم يتوانَ عن التدخل على نحو سافر في الحياة السياسية لأوكرانيا المجاورة، على أمل حملها على العودة إلى مجال النفوذ الروسي، وهو ما أدى إلى شبه حرب أهلية. ويرى آندرو كوتشينز، مدير برنامج روسيا في مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية أنه: «لم يسبق للألعاب الأولمبية أبداً أن كانت مثيرة للجدل سياسياً ومرتبطة بزعيم البلد المضيف إلى هذا الحد». وبدلاً من التفكير في الرياضات، ينتظر العالم بقلق لرؤية ما إنْ كان الإرهابيون الشيشان سيحاولون إفساد «عرس» بوتين. وفي هذا السياق، يقول كوتشينز: «لقد أضحت سوتشي ضالة الإرهابيين الجهاديين»، مضيفاً «إنها مواجهة مباشرة»، مواجهة قد يَعلق الرياضيون والجمهور في وسطها. ثم إن دعم روسيا لنظام الأسد في سوريا زاد أيضاً من جاذبية سوتشي كهدف للإرهابيين المصممين على «الجهاد». غير أنه بدلاً من التعاون بشكل وثيق مع الأمن الغربي حول تأمين سوتشي، يفضل المسؤولون الروس -وفق أسلوب بوتين المعهود- القيام بذلك بشكل منفرد. وعلاوة على هذا، فإن مشروع بوتين في سوتشي قد أبرز نقاط ضعفه بدلاً من أن يبرز نقاط قوته. فمع تراجع أداء الاقتصاد الروسي واعتماده المتزايد على أسعار النفط، صارت طفرة البناء الكبيرة في سوتشي تذكِّر بطريقة تفكير الكريملن القديمة -المشاريع الضخمة المبالغ فيها التي أسهمت في إسقاط الإمبراطورية السوفييتية. كما أن القصص حول تفشي الفساد تصل إلى الكثير من الروس، على رغم أنه لا يتم الإعلان عنها في وسائل الإعلام التابعة للدولة (يذكر هنا أن المسؤولين الروس يحاولون إغلاق «تي في رين»، وهي آخر قناة تلفزيونية مستقلة حتى في الوقت الذي تبدأ فيه الألعاب). ويقول مانكوف: «لأن هيبة بوتين صارت مربوطة بسوتشي، فهناك الكثير من الاهتمام بما يجري». والأمل هو أن تمر الألعاب الأولمبية بسلام، ولكن الدوافع التي جعلت بوتين يختار سوتشي تبعث برسالة واضحة مفادها أن هذا الرجل غير قادر على قيادة روسيا إلى مستقبل جديد وأفضل، ومع ذلك، فإنه مقتنع بأنه يملك كل الحلول. وفي هذا الإطار، تقول الصحافية الروسية نتاليا جيفوركيان، التي كتبت سيرة للزعيم الروسي: «على غرار حرب الشيشان الثانية، فإن سوتشي تتعلق كلها ببوتين»، مضيفة «إما أن سوتشي هي لحظة نصره أو أنها... لا نعلم. آمل ألا يحدث شيء سيئ خلال الألعاب». وهذا ما نأمله نحن أيضاً. نوع المقال: روسيا