تنسيق الشهادات الفنية 2025.. رابط التقديم لاختبارات معادلة كليات الحقوق وجدول الامتحانات    7 كليات وتخصصات جديدة.. تفاصيل المصروفات والتقديم بجامعة بورسعيد الأهلية 2025-2026    محللون اقتصاديون: توقعات متباينة لمعدل التضخم في يوليو وسط تأثيرات أسعار السجائر والسياسة النقدية    التصديري للملابس: 25% زيادة في صادرات القطاع بالنصف الأول من 2025    للمرة الثانية.. محافظ الدقهلية يفاجئ شركة المياه للتأكد من الاستجابة لشكاوى المواطنين    من بينها توفير الأسمدة الكيماوية.. الفشن الزراعية ببنى سويف تناقش توفير نواقص الزراعة للفلاحين    أسعار اللحوم بمحافظة مطروح اليوم الخميس 31-7- 2025.. الضأن ب 450 جنيه    رئيس هيئة الأوقاف يوجّه مديري المناطق بالحفاظ على ممتلكات الهيئة    إيران تطالب ترامب بتعويضات عن خسائر حرب ال12 يوما قبل استئناف مفاوضات النووي    لأول مرة.. وزير خارجية ألمانيا يتحدث عن إمكانية اعتراف بلاده بدولة فلسطين    ألمانيا تطالب ببدء عملية الاعتراف بالدولة الفلسطينية فورًا    بعد يوم واحد من زيارة الشيباني.. وزير الدفاع السوري يصل موسكو    عمرو ناصر: المنافسة في هجوم الزمالك صعبة    صفقة تبادلية تلوح في الأفق بين الزمالك والمصري    إصابة 8 أشخاص في حادث انقلاب ميكروباص على طريق "دشلوط – الفرافرة"    صور الأقمار الصناعية تشير إلى تكاثر السحب المنخفضة والمتوسطة على مناطق متفرقة    مصدر بالسياحة والآثار ينفى تعرض لنش سياحى للغرق بمدينة الغردقة    تهريب ومخالفات وأحكام.. جهود أمن المنافذ 24 ساعة    إصابة عامل بحروق خطيرة إثر انفجار أسطوانة غاز داخل مطعم بقرية في الفيوم    ننشر حركة تنقلات ضباط المباحث بمراكز مديرية أمن قنا    رئيس منطقة سوهاج الأزهرية يبحث الاستعدادات لانطلاق امتحانات الدور الثانى    صرخة في سوق الرملة.. مشاجرة دامية تنتهي بمقتل فكهاني بالقليوبية    بالصور| أسامة منير وبشرى يشاركان في تشييع جنازة لطفي لبيب    محلل فلسطينى: من يشكك فى الدور المصرى فضحته مشاهد دخول شاحنات المساعدات إلى غزة    غدا.. قصور الثقافة تطلق الموسم الخامس من مهرجان صيف بلدنا برأس البر ودمياط الجديدة    هل انقطاع الطمث يسبب الكبد الدهني؟    رد مثير من إمام عاشور بشأن أزمته مع الأهلي.. شوبير يكشف    تقارير تكشف موقف ريال مدريد من تجديد عقد فينيسيوس جونيور    يديعوت أحرونوت: نتنياهو يوجه الموساد للتفاهم مع خمس دول لاستيعاب أهالي غزة    ماذا يتضمن مشروع القانون في الكونجرس لتمويل تسليح أوكرانيا بأموال أوروبية؟    البابا تواضروس أمام ممثلي 44 دولة: مصر الدولة الوحيدة التي لديها عِلم باسمها    «الطفولة والأمومة» يعقد اجتماع اللجنة التيسيرية للمبادرة الوطنية لتمكين الفتيات «دوَي»    فيديو.. طارق الشناوي ينعى لطفي لبيب: اقرأوا له الفاتحة وادعوا له بالجنة    محمد رياض يكشف أسباب إلغاء ندوة محيي إسماعيل ب المهرجان القومي للمسرح    حرام أم حلال؟.. ما حكم شراء شقة ب التمويل العقاري؟    مانشستر يونايتد يفوز على بورنموث برباعية    الصحة: حملة 100 يوم صحة قدّمت 23 مليونا و504 آلاف خدمة طبية مجانية خلال 15 يوما    استحداث عيادات متخصصة للأمراض الجلدية والكبد بمستشفيات جامعة القاهرة    محافظ الدقهلية يواصل جولاته المفاجئة ويتفقد المركز التكنولوجي بحي غرب المنصورة    الشيخ أحمد خليل: من اتُّهم زورا فليبشر فالله يدافع عنه    مواعيد مباريات الخميس 31 يوليو 2025.. برشلونة ودربي لندني والسوبر البرتغالي    طريقة عمل الشاورما بالفراخ، أحلى من الجاهزة    خالد جلال يرثي أخاه: رحل الناصح والراقي والمخلص ذو الهيبة.. والأب الذي لا يعوض    اليوم.. بدء الصمت الانتخابي بماراثون الشيوخ وغرامة 100 ألف جنيه للمخالفين    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    النتيجة ليست نهاية المطاف.. 5 نصائح للطلاب من وزارة الأوقاف    خلال زيارته لواشنطن.. وزير الخارجية يشارك في فعالية رفيعة المستوى بمعهد "أمريكا أولًا للسياسات"    رئيس قطاع المبيعات ب SN Automotive: نخطط لإنشاء 25 نقطة بيع ومراكز خدمة ما بعد البيع    الزمالك يواجه غزل المحلة وديًا اليوم    سعر الخضار والفواكه اليوم الخميس 31 يوليو 2025فى المنوفية    استعدادا لإطلاق «التأمين الشامل».. رئيس الرعاية الصحية يوجه باستكمال أعمال «البنية التحتية» بمطروح    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر ويؤكد: المهم هو التحصن لا معرفة من قام به    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    اليوم.. المصري يلاقي هلال مساكن في ختام مبارياته الودية بمعسكر تونس    المهرجان القومي للمسرح يكرم روح الناقدين أحمد هاشم ويوسف مسلم    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    بعد الزلزال.. الحيتان تجنح ل شواطئ اليابان قبل وصول التسونامي (فيديو)    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشروع الدستور حدث سياسى.. وليس عملًا قانونيًا
نشر في التغيير يوم 18 - 12 - 2013


(1)
سيُدعى الشعب للتصويت على مشروع للدستور مطروح، وذلك فى الأيام القليلة المقبلة، والعجيب فى الأمر أن لجنة الدستور فى جلستها الأخيرة قد عدلت مواد مشروعها التى تسرى على مؤسسات الدولة التى ستُنشأ بعد الموافقة عليه وفور صدوره، عدلتها لا لتغير من مضمونها المحدد إلى مضمون آخر محدد، ولكنها عدلتها لتتركها «على بياض» أى حكم غير محدد، بمعنى أنها أفرغتها من مضمونها ومعناها وتركتها «على بياض». فصار من سيصوت للدستور لا يعرف متى وكيف سيشكل كل من مجلس النواب ورئاسة الجمهورية، أى لا يعرف متى وكيف ستشكل كل من السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، ولا يعرف ما هى الأحكام والأساليب التى ستشكل بها السلطة التشريعية فى أول تكوين لها بعد صدور الدستور، ولا يعرف هل سيتحدد رئيس الجمهورية ويتولى منصبه قبل تشكيل المجلس النيابى أم بعده. ولا يعرف هل سيكون المجلس النيابى بالانتخاب الفردى أم بالقائمة الجماعية أو الحزبية، ولا بأية نسبة سيكون كل منهما ان اجتمعا، ولا يعرف النسبة التى ستخصص للعمال والفلاحين ولا نسبة ما سيتخصص للشباب وللأقباط والمعاقين.
وقيل فى أحكام المشروع (بعد تعديلها فى الساعة الأخيرة لاجتماع اللجنة) إنه ستصدر قوانين بعد الاستفتاء على الدستور تحدد كل ذلك. بمعنى أنه مطلوب من الشعب المصرى أن يصوت على الدستور بنعم أولا دون أن يعرف أى شىء عن وضع المؤسستين الحاكمتين فى تشكيلهما الأول والذى سيتم فور العمل بالدستور، وهى المؤسسات التى ستعمل لخمس سنوات تالية بالنسبة للمجلس النيابى ولأربع سنوات تالية بالنسبة لرئاسة الجمهورية.
والسؤال الذى يطرح الآن: أليس فى هذا الإجراء نوع من الاستخفاف بالإرادة الشعبية، وهو ان تطرح على الناس وان تطلب رأيهم «الملزم» دون ان تكلف نفسك بتحديد ما تفرضه عليهم من أسس ومقومات وأحكام تحدد ما ستكون عليه أولى خطوات تنفيذ هذا الدستور وبناء مؤسساته الأولى.
وأحد الأسئلة التى تطرح أيضا، هو: هل ستكون إرادة التصويت الشعبى إرادة شرعية وصحيحة، بواسطة إبداء رأى بالموافقة على تشكيل مؤسسات لم تتحدد الأحكام النافية للجهالة عما سيكون عليه تكوينها الأول. وبالمنطق القانونى الذى نعرفه، فإن إبداء الرأى بالموافقة على ما ليس محدد المحل بطريقة نافية للجهالة، ان ذلك تكون به الإرادة المبداة إرادة باطلة شرعا وقانونا. ولا يصح قول بالموافقة والرضاء على ما لم تنتف الجهالة عنه. فلا يعتد مثلا بزواج ممن لم تولد بعد، ولا يحل شراء ما لم يتشكل بعد، ولا يعتد بتعيين موظف على وظيفة لم تنشأ بعد.
ومن جهة أخرى فإن هذه الأحكام التى لم يحددها مشروع الدستور، أرجأها وأحالها إلى قوانين تصدر بها. وهى ستصدر طبعا قبل ان تنشأ أجهزة المؤسسات الدستورية الجديدة، بمعنى أن من ستصدرها هى السلطة السياسية القائمة الآن قبل الاستفتاء على الدستور وقبل نفاذ أحكامه، وهى سلطة رئيس الجمهورية المؤقت الذى عينه فى هذا المنصب وزير الدفاع بوصفه القائد العام للقوات المسلحة فى 3 يوليو الماضى. (أنا صادق التقدير والاعزاز لشخص رئيس الجمهورية المؤقت كرجل قضاء جليل ورجل قانون نقدر علمه وزميل عزيز سابق، ولكننى أتكلم هنا عن وظائف ومهام سياسية وعن مراكز قانونية لذوى المناصب الحالية مجردة عن شخصيات أصحابها).
إن من ستُصدر التشريع هى رئاسة الدولة التى أصدرت قيادة الجيش فى 3 يوليو قرارها الفردى بتعيينها، وسلطتها تئول من الناحية السياسية إلى مصدرها، ومن ثم فهى تعكس المشيئة السياسية لنمط الحكم الذى قررته قيادة انقلاب 3 يوليو العسكرى وتدور فى هذا السياق من التوجهات. ومن ثم يكون من يتحكم فى أول تشكيل لمؤسسات الدولة السياسية الناجمة عن هذا الدستور المطروح، وعلى مدى السنوات الخمس الأولى منه هو صاحب الكلمة النافذة التى تحدد بها التشكيل السياسى للدولة فى 3 يوليو، أى سلطة الانقلاب العسكرى. وتذهب الجماهير للتوقيع «على بياض» لتعلن هذه السلطة «الرضاء الشعبى» المسبق على ما عسى أن تقرره وتزكيه فى بناء الدولة، إن هذه النصوص فى حقيقتها تتيح لسلطة 3 يوليو 2013 ان تستمر وفق مشيئتها الذاتية لمدة خمس سنوات تالية لصدور هذا الدستور إن رأى النور.
(2)
إن ما أعرفه وما ذكرته علانية منذ مساء الثالث من يوليو الماضى ونشر فى اليوم التالى مباشرة، ان ما حدث هو انقلاب عسكرى على دستور ديمقراطى هو دستور 2012 (لعلم القارئ فأنا لم أشارك فى إعداد هذا الدستور، فكنت اعتذرت عن عدم الاشتراك فى الجمعية التأسيسية التى أعدته، وذلك سواء فى تشكيلها الأول أو تشكيلها الثانى، وكنت كتبت فى الصحف آراء تتعلق بعدد من أحكامه، وهى منشورة فى الصحف وفى كتاب أصدرته). ولكن دستور 2012 دستور ديمقراطى نشأ بتشكيلات انتخابية حرة ونزيهة.
وفى إطار النظر فى مشروع الدستور المعروض الآن، فأنا أبدأ بأن دستور 2012 لايزال قائما وساريا. وإن تعديل هذا الدستور يكون وفقا للنظام والإجراءات التى قررتها المادتان 217، 218 منه، ويكون التعديل بطلب من رئيس الجمهورية أو من خُمس أعضاء مجلس النواب، ثم يناقش من مجلسى النواب والشورى خلال ثلاثين يوما، ولا يقبل إلا بأغلبية أعضاء كل من المجلسين، ثم يناقش فى كل منهما بنصوصه خلال ستين يوما، ولا يقبل التعديل إلا بأغلبية ثلثى أعضاء كل من المجلسين، ثم يعرض على الاستفتاء الشعبى خلال ثلاثين يوما.
هذا حكم الدستور الذى تولد شعبيا من ثورة 25 يناير وقامت شرعيته بإرادة شعبية حرة ونزيهة، ودخلت به مصر فى إطار نظام دستورى ديمقراطى، تتغير فيه الحكومات بالانتخابات وليس بطريق الانقلاب العسكرى. وان شعار مصر بعده بموجب إنفاذ معنى ثورة 25 يناير الشعار الذى يتعين أن يبقى وان يستمر وتدافع عنه القوى الثورية، هذا الشعار هو «التغيير بالانتخابات وليس بالانقلاب».
ومن ثم فإن كل ما يجرى الآن اتباعه لا تقوم به شرعية دستورية ولا شرعية سياسية، لأن ثورة 25 يناير 2011 آلت إلى نظام دستورى تحقق بدستور 2012 السارى فى التطبيق منذ 25 ديسمبر 2012. لذلك فنحن لا نعرض لتفاصيل الأحكام الواردة بالمشروع المطروح الآن. ولا بأى تعديلات ترد على دستور 2012 بغير الإجراءات المرسومة به. ان مقتضى قيام نظام تشريعى معين، ان تتبع أحكام هذا النظام وإجراءاته، وألا يلتفت إلى ما يخرج عن هذه الأحكام الواردة به.
وإن ما نكتبه الآن لا نعرضه الآن بوصفه مشاركة منا فى النقاش الدائر حول هذا الدستور المزعوم وليس حوارا نشارك فيه لتعديل أحكام وردت به، لأننا لا نشارك فيما هو غير معتد بشرعيته من حيث المبدأ. وقد ساهمنا بالصمت فى كل ما دار حوله عند مناقشته فى لجنة العشرة ولجنة الخمسين. ولكننا الآن نعرض لبعض جوانب الموضوع الهيكلية بحسبانه حدثا سياسيا يدور الآن، وهو حدث يستدعى التعليق عليه لأمرين: أولهما: النظر فى مصداقيته وما يعكسه من استهانة بالإرادة الشعبية، وثانيهما: النظر فى آثاره فى صياغة نظام الحكم القائم ومؤسساته الحاكمة حسبما يراد لها ان تكون بعد 3 يوليو.
(3)
يلاحظ مثلا، أن سلطات رئيس الجمهورية فى المشروع الدستورى المطروح، قد صارت أوسع مما كانت فى إطار دستور 2012، فقد أسقط هذا المشروع نص المادة 141 من دستور 2012 وهى تقضى بأن «يتولى رئيس الجمهورية سلطاته بواسطة رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء، عدا ما يتصل منها بالدفاع والأمن القومى والسياسة الخارجية، والسلطات المنصوص عليها فى المواد 129، 145، 146، 147، 148، 149 من الدستور» وهى مواد تتعلق بذات ما ورد مجملا بالنص من شئون، وحتى هذه السلطات فإن من أحكام الدستور التفصيلية الأخرى ما يقيد سلطات رئيس الجمهورية بشأنها وبما لا يمكَّنه من الانفراد بها، وبما يشرك معه فيها مجالس تتكون من كبار رجال الدولة، ولا يتسع المقام لذكر هذه الأمور. وان تقييد العديد من سلطات رئيس الجمهورية يجعلها تمارس منه من خلال الوزارة، ان ذلك لا يفيد إشراك الوزارة معه فى هذه السلطات فقط ولكنه يخضع هذه الأعمال للسلطة الرقابية للمجلس النيابى من خلال مسئولية الوزارة أمام البرلمان وحق سلطة البرلمان فى مساءلة الوزراء.
وكان نص المادة 141 يوازن السلطات الأخرى المتاحة لرئيس الجمهورية بدستور 2012 مثل ما ورد بالمادة 146 عن سلطته فى حل مجلس النواب عند الاختلاف على تعيين رئيس الوزراء مرتين متتاليتين، ومثل المساهمة فى اختيار وزراء السيادة كوزارتى الدفاع والداخلية.
وبدون إثقال على القارئ فى التفاصيل العديدة، فيمكن القول بأن أى رجل قانونى متخصص يمكنه أن يدرك بالمقارنة بين نصوص دستور 2012 والمشروع المطروح الآن، يمكنه ان يدرك حجم الزيادة الحاصلة فى سلطات رئيس الجمهورية، وان ذلك يعنى أنه مثلما قلت مسئولية الوزراء وزادت مسئولية رئيس الجمهورية، فإن ذلك يعنى أن يقل مدى الرقابة الفعالة للمجلس النيابى على أعمال السلطة التنفيذية، لأن الوزراء فقط هم من يخضعون لهذه الرقابة، أكثر كثيرا مما يتصل بأعمال رئيس الجمهورية.
(4)
ويبقى ما هو أخطر من ذلك كله، فى ترتيب مؤسسات الدولة، فإن القوات المسلحة قد اكتسبت فى هذا المشروع المطروح استقلالا يكاد يكون كاملا عن مؤسسات الدولة الأخرى.
فنحن إن قارنا بين دساتيرنا فى التاريخ المعاصر، وبخاصة الدساتير الثلاثة الأخيرة، وهى دستور 1971 ودستور 2012 والمشروع المطروح حاليا. نلحظ أن دستور 1971 كان يشير إلى القوات المسلحة فى إطار المهام الخاصة بوظيفتها، ولكنه وما سبقه كان يضعها جزءا من الدولة بمؤسساتها المتعددة، جزءا لا ينفصل ولا يستقل عن الهياكل الكلية للدولة. ثم جاء دستور 2012 ليضع القوات المسلحة فى موقف متميز من حيث الاستقلالية التنظيمية والمالية والمؤسسية. ثم جاء المشروع الأخير المطروح ليضعها فى وضع استقلال كلى عن أجهزة الدولة ونظمها وتشكيلاتها المؤسسية، بما لا أعرف له سابقة عندنا.
فبعد ان تنص المادة 200 على الحكم التقليدى المتكرر من أنها ملك للشعب مهمتها حماية أمنه، ومع حظر إنشاء أى تشكيلات عسكرية لأى فرد أو جماعة أو هيئة. بعد هذا الحكم يرد بالمادة 201 ما يوجب أن يكون وزير الدفاع الذى هو القائد العام للقوات المسلحة معينا من ضباط الجيش، ثم يأتى تشكيل مجلس الدفاع الوطنى من ستة أعضاء مدنيين (منهم رئيس الجمهورية) وثمانية أعضاء عسكريين بحكم وظائفهم. وهو الجهة التى تناقش الميزانية ويجب أخذ رأيها فى مشروعات القوانين الخاصة بالجيش. ونحن هنا لا نعترض على حكم محدد، ولكن نحاول ان نبين الصورة العامة لهذه الهيئة فى علاقتها بهيئات الدولة ومؤسساتها. فإن مدى الاستقلالية يتراءى من جماع الاستقلالية التنظيمية فى التعيين فى الوظائف القيادية ومن استقلالها المالى ومن الاستقلال القضائى، ومن ذلك كله مجتمعا.
ويرد نصا المادتين 402، 204، أولهما ينشئ لجانا قضائية خاصة بضباط وجنود القوات المسلحة تختص دون غيرها بالفصل فى كل المنازعات الإدارية الخاصة بهم، وهو نص دستورى مستحدث، وثانيهما يورد حكم القضاء العسكرى كجهة قضائية مستقلة للفصل فى كل الجرائم المتصلة بالقوات المسلحة وضباطها وأفرادها، وأفراد المخابرات العامة أثناء أداء الخدمة وبسببها. ثم أخضع المدنيين للقضاء العسكرى فى جرائم الاعتداء المباشر على المنشآت والمعسكرات ومناطق الحدود والمعدات والمركبات والأسلحة والذخائر والوثائق السرية والأموال العامة والمصانع الحربية والتجنيد، والجرائم التى تمثل اعتداء مباشرا على ضباطها وأفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم، أى يخضع المدنيون للقضاء العسكرى فى كل تعامل لهم مع العسكريين.
ثم يرد فى الأحكام الانتقالية نص المادة 234 «يكون تعيين وزير الدفاع بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتسرى أحكام هذه المادة لمدتين رئاسيتين كاملتين اعتبارا من تاريخ العمل بالدستور». أى أن يكون تعيين القائد العام الوزير تعيينا ذاتيا لمدتين لرئيس الجمهورية كل منهما أربع سنوات.
وبهذا تتكامل الاستقلالية الانفصالية للهيئة بالتعيين الذاتى للقيادة ذات السيطرة وبالاستقلال المالى وبالانفصال القضائى. والقوات المسلحة من الناحية الدستورية ليست سلطة سياسية قائمة بذاتها مثل السلطة التشريعية أو السلطة القضائية. بل انها تشكل عمود الارتكاز فى الدولة وهى الجوهر الأساسى للسلطة التنفيذية، لما تحتكره دون غيرها من وسائل العنف المشروع. هى تستقل بنص مشروع الدستور عن أجهزة الدولة التنفيذية ورئاسة الجمهورية بوصفها رئاسة للدولة. وذلك لمدة ثمانى سنوات على الأقل وهو مجموع المدتين الرئاسيتين الكاملتين اللتين أوردتهما المادة 234 من المشروع الدستورى. ونقول «على الأقل» لأنه إذا انتهت إحدى المدتين الرئاسيتين الأوليين فى أقل من أربع سنوات بسبب طارئ كوفاة أو استقالة فلن تكون مدة كاملة ولن تحسب ضمن المدتين اللتين أوردتهما المادة المذكورة بقولها «مدتين رئاسيتين كاملتين».
وهذا النص يؤكد أن ما جرى فى 3 يوليو 2013 هو انقلاب عسكرى، لأن وزير الدفاع المشار إليه فى النص ورئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، هو ذاته وزير الدفاع ورئيس هذا المجلس الأعلى الذى عين رئيس الجمهورية المؤقت فى 3 يوليو ومنحه سلطة إصدار بيان دستورى يحل محل دستور 2012 الذى أوقفه، واستبقى لنفسه منصب وزير الدفاع فى الوزارة التى عينها رئيس الجمهورية المؤقت.
ولنا أن ننظر فى المستقبل القريب فى الشهور القليلة القادمة بعد الاستفتاء بنعم على «مشروع الدستور»، فإن كل من سيتولى فيه منصبا رئاسيا أو قياديا أو وزاريا فى سلطته التنفيذية هو الآن فى علم الغيب بالنسبة لنا لا نعرفه، وكل من سيتكون منهم المجلس النيابى من أعضاء يشكلون السلطة التشريعية هو فى علم الغيب لنا الآن لا نعرفه. وكل ذلك مجهول ومتغير ومحتمل، وذلك فيما عدا وزير الدفاع القائد العام للقوات المسلحة، فهو بنص الدستور يشكل القطب الثابت غير المتغير الذى تدور حوله الأحداث. وبهذا الوصف تعلو قامته السياسية على عناصر أجهزة الدولة جميعا ورجالها كلهم. أو بمعنى آخر تتساوى قامته مع أكبر كبير منهم، لأنه لم يعنيه رئيس الدولة القادمة وهو رأس السلطة التنفيذية، ولم يعنيه مجلس نيابى وهو المكون للسلطة التشريعية، والسلطة القضائية طبعا لا تعين أحدا.
وأكثر من ذلك فهو يشغل وظيفة ذات استقلالية إدارية وتنظيمية ومالية. ومن ثم يكون أكثر ثباتا من رئيس الدولة الذى يشغل منصبه بعد ذلك بالانتخاب من الشعب لمدة أربع سنوات فقط. ونحن نعرف أن عنصرا من عناصر الجبروت فى استخدام السلطة، لا يتأتى فقط مما تتيحه من اتخاذ قرارات نافذة، ولكنها تتأتى من المدة المتاحة لشاغلها فى البقاء فيها، وكلما كانت مدة أطول كان استخدام شاغلها للسلطة ذاتها أكثر قدرة وأثرا وأقل تعرضا للمعارضة ممن تسرى بشأنهم قراراته. والوزير عضو فى الوزارة تنتهى خدمته فى الوزارة بانتهاء عمل الوزارة بالاستقالة أو السقوط، وذلك صحيح فيما عدا من حصنت بقاءه المادة 234 سالفة الذكر لمدة ثمانى سنوات على الأقل.
(5)
الدلالة الأكبر فى أهميتها العظمى تبدو عندما نرجع إلى معارفنا فى علم السياسة عن الدولة، فإن الدولة أهم خصائصها أنها هى المؤسسة المجتمعية التى «تحتكر وسائل العنف المشروع»، وهذا الوصف هو ما يبوئها مكان الحاكمية فى المجتمع على الجماعة الوطنية. وهذا الوصف يتضمن عنصرين، عنصر العنف المادى والذى تحتكر حيازته واستعماله وتكسب به نفاذ أمرها وقرارها على المواطنين فلا يستطيعون له فى جملتهم معصية، والعنصر الآخر اللصيق به هو عنصر الاتصاف بالمشروعية أى بالتقبل والرضاء من جمهور من يمارس عليهم هذا العنف.
ولكن المشكلة أنه إذا اجتمعت وسائل العنف المادى والقدرة عليه مع مشروعية ممارسته، إذا اجتمع هذان فى يد واحدة، فيكون قد توافرت القدرة على الاستبداد، وإنفاذ الصالح الذاتى الخاص للمسيطرين على هذين العنصرين دون مقاومة أو احتمال مقاومة جماعية، لذلك كان من حسن تنظيم الدول منعا من الاستبداد والطغيان الناجم عن احتكار العنف والمشروعية معا، كان من حسن التنظيم أن تبنى مؤسسات الدولة على أساس من تقسيم العمل داخل مؤسساتها، فتنشأ بداخلها أجهزة تحوز وسائل العنف بتنظيم منضبط يسيطر على أدوات القهر والأسلحة والقدرة على جباية المال جبرا لإدارة هذه الأعمال، ولكن هذه الأجهزة تكون بعيدة ومجردة تماما عن تملك الشرعية، شرعية إصدار القرارات التنظيمية للمجتمع وللدولة وللعلاقات بين أفراد الجماعة، وشرعية إصدار الأوامر باستخدام أدوات الدولة لتحقيق هذه التنظيمات وكفالة انتظام هذه العلاقات.
وكذلك ان تنشأ أجهزة أخرى هى من يملك سلطة إصدار القرارات المشروعة باستخدام العنف ووسائله، وتكون هذه الأجهزة التى تملك «كلمة المشروعية» مجردة من أية حيازة لأية أسلحة أو وسائل عنف مادى وبعيدة عن جباية المال.
والنوع الأول الذى يحوز وسائل العنف هو ما اصطلح على تسميته بالسلطة التنفيذية، والنوع الثانى الذى لا يملك هذه الوسائل ولا يحوزها ولكنه يملك القول بالمشروعية ويملك الأمر باستخدام وسائل العنف هو ما نسميه السلطة التشريعية التى يوكل إليها إصدار القوانين ورسم السياسات ومساءلة رئاسة السلطة التنفيذية عما تفعل، وكذلك السلطة القضائية التى تختص بالحكم بصحة ومشروعية أى تصرف أو فعل تأتى به السلطة التنفيذية فترد الحق إلى نصابه، الحق الذى عينته ورسمته السلطة التشريعية.
والسلطة التشريعية لا يملك ذووها من الأدوات إلا مجلسا يجتمع فيه رجالها يتحدثون ويتناقشون ويصدرون قرارات، والقضاء لا يملك ذووه من الوسائل المادية إلا أقلاما وأوراقا يسطرون فيها أحكامهم التى ينطقون بها، وإن استقلال كل من هاتين السلطتين لا يؤدى وحده إلى الاستبداد لأن أيا منهما لا يملك وسائل إنفاذ ما يقول. بل هو استقلال واجب حتى لا تسيطر عليها السلطة المالكة لوسائل العنف.
وهذا التقسيم بالضبط هو ما يجعلنا نأمن جانب الدولة وأشخاص القائمين عليها، وهو ما نسميه فى لغة فقه القانون «السلطة المقيدة» وكل النظم إنما تستهدف ضمان أن تبقى السلطة مقيدة، فإذا انفك قيدها دق نفير الخطر. وذلك حرصا على ألا يجتمع وصف العنف والشرعية فى يد شخص واحد أو جهاز واحد أو هيئة واحدة.
فإذا كان الجيش هو عمود الارتكاز الأساسى فى حيازة وسائل العنف المادى، قد صيغ وضعه فى مشروع الدستور بما يجعله مستقلا عن الأجهزة الأخرى، من النواحى التنظيمية وتشكيل القيادة ومن ناحية المورد المالى والاستقلال القضائى، فقد تحقق وجه من الانفصال صار به العنف معزولا عن الهيئات التى ترسم إطار الشرعية وضوابطها وتراقب أعمالها، وصارت به الشرعية عزلاء من الحماية والهيبة التى تكفلها لها وسائل التنفيذ عندما تستخدم لإعلاء كلمة الحق. بمعنى أن الدولة تكون قد أصيبت بالانفصام التنظيمى، أو تندمج الوظيفتان معا فيثور احتمال الطغيان، وقد جربناه عقودا من السنوات.
رعى الله مصر وألهمها الرشاد
رابط المقال:
http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=18122013&id=38746304-ade7-4f47-a5f0-6f55c6939e9e


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.