لا أعلم كيف تستطيع عمتي إحصاء تلك المجموعة الكبيرة من القطط ، التي تربيها فى منزلها ، كانت تعشقهم بشكل واضح وتطلق على كل منهم اسما من اسماء النباتات والفواكه ، مجموعة متنوعة ومختلفة من الألوان والأحجام والأوزان ، كنت أرى السعادة ترتسم على وجهها عندما كانت تداعبهم وتلاطفهم ، فلم يكن لها سواي وأبي والقطط ، وبما أنني اسكن مع أبي ، فكانت تعيش عمتي فى المنزل وحدها بلا أنيس أو جليس ، فهى لم تتزوج ، ولكن الله عوضها عن ذلك فى صحتها ، تتمتع بجسد سليم وذاكرة جيدة ، لم أرها فى يوم تذهب إلى طبيب أو مستشفى ، تبالغ فى إعداد كل شيء .. تهتم بالتفاصيل الصغيرة .. لا تحب أن تترك شيئا للظروف .. تغضب إذا رأتني أنقل بعض الأدوات من مكانها .. أذكر ذات مرة عندما كنت مدعوا لديها على الغذاء ، فرغبت فى مساعدتها فى نقل الأطباق المتسخة إلى المطبخ ، ووضعهم فى الحوض ، فرمقتني بنظرة حادة وصرخت قائلة ، سيبهم .. واستريح انت . عرضت عليها أكثر من مرة أن أحضر لها خادمة تقيم معها بالمنزل حتى تساعدها فى الأعمال المنزلية وتكون لها أنيسا ، لكنها رفضت متعللة ان صحتها جيدة وهي تقوم بكل شيء ، وهي تجد اللذة لانها تجد فى ذلك وسيلة لقتل الفراغ والوقت ، كما أنها تقول على الخادمات ، أنهن ينقلن الأسرار من بيت إلى بيت ولا يحصل المرء منهن سوء الحسد .. ظللت طوال حياتي اعتبر عمتي بمثابة الأم لي ، فبعد وفاة والدتي منذ سنوات بعيدة ، أشرفت على تربيتي بشكل أساسي لان طبيعة عمل أبي تلزمه كثرة الأسفار والترحال ، لذا تولت عمتي مهمة تربيتي وتربية شقيقاي كريم وفاطمة ، كنت انا أصغرهم سنا ، تزوجت فاطمة وكانت قليلا ما تأتي إلينا ، اما كريم فقد هاجر إلى استراليا ، ولم يبق إلا أنا وأبي فى المنزل .. لذا فكانت عمتي تملأ علي الدنيا بهجة وسرور ، أتذكر فترات لم تفارقني قط عندما كنت مريضا ، كانت تختار لي ملابسي وتذاكر لي وتهتم بشؤوني . تحتفظ عمتي بغرفة مملوءة باللوحات الفنية التي رسمتها فى صغرها ، واعلم انها كانت تقيم معرضا فنيا كل عام تعرض فيه هذه اللوحات الرائعة الجذابة ، كانت فنانة بحق ترسم بريشة دقيقة لتصور كل شيء فى الطبيعة ، الأشجار والنباتات ، والسماء ، السحب ، الجبال ، المرتفعات ، السهول والوديان ، البحار والأنهار .. ولكن كانت من بين هذه اللوحات لوحة لوجه بدون ألوان ، وجه لشخص يبدو عليه الشرود واليأس ، وكأن ملامحه تائهة وسط الضباب الكثيف .. سألت عمتي عن تلك الصورة .. لكنني دوما لم أتلق أي إجابة ، مجرد تنهيدة حارة وإغماض للعينين فى حسرة ومرارة دون أن تنطق بكلمة .. عندما تدعونني إلى الغداء ، اعرف ماذا طهت عمتي خلال ما يأكله القطط ، فهي كانت تقوم بتجهيز السمك والدجاج المقلي كثيرا . كانت عمتي تقضي وقتها بين القطط وقراءة القرآن ومشاهدة التلفاز فى الأوقات التي لا أذهب إليها ، واليوم الذي لا أستطيع الذهاب إليها ، كانت تطمئن علي بالاتصال الهاتفي ، وتطمئن على حال والدي بعد خروجه على المعاش ، وأصبح مريضا لا يقوى على السير كثيرا ، ويجلس فى المنزل فترات طويلة . فى ذات يوم .. كنت أجلس مع عمتي ، أداعب القطط وهي تقرأ الجريدة ، وفجأة امتقع وجهها بشدة ، ولاحت لي عيناها تهمان بالبكاء لولا وجودي ، سألتها فى اهتمام وفضول : هل انت بخير يا عمتي ؟ أومأت برأسها إيجابا وناولتني الجريدة التي كانت تقرأ فيها مشيرة إلى صورة أحد الأشخاص فى صفحة الوفيات ، نظرت جيدا ، وتفحصت ملامح وجهه ، ادركت انه يشبه نفس ملامح الصورة التي كانت رسمتها عمتي فى إحدى لوحاتها ، ورغم كبر السن والتجاعيد والصلع فى الرأس ، إلا أنني تأكدت أنه نفس الشخص ، أشرت إليها فى حيرة ، من يكون هذا الشخص ، وفى هذه المرة قالت لي أنه كان زميلها فى الجامعة ، كانت تحبه ، واتفقا على الزواج لولا معارضة جدي لانه فقير ، حاولت معه لاقتناعه بالعدول عن موقفه ، لكنه كان قاسي جدا ، وفى نفس الوقت يخشى على مستقبل عمتي معه ، لدرجة انه نجح بنفوذه ك لواء شرطة فى نقله من عمله إلى محافظة بعيدة ليتأكد أنه لن يتزوج عمتي ، وبمرور الوقت وجد جدي أن عمتي ترفض العريس تلو الآخر ، وعندما الح عليها جدي فى قبول أحد الشباب للزواج ، وافقت على مضض وبعد فترة قصيرة تم فسخ الخطوبة ، تأكد جدي ان لا سبيل سوى البحث عن الشخص الذي احبته ، ولكن بعد فوات الآوان .. فقد ترك الرجل البلد بأكلمها وسافر خارج مصر ، وبعد فترة وردت إليها انباء من بعض الأصدقاء أنه تزوج من فتاة أجنبيه للحصول على الجنسية ، ندم جدي وظلت عمتي تعيش فى الماضي من وقتها . حتى فاتها قطار الزواج ، كانت كلمتها تشبه الجروح الغائرة وهي تنزف ، قبلتها فى جبهتها وربت بيدي على منكبيها ، ثم بدأت اغير مجرى الحديث . كنت أشاهد عمتي وهي تداعب القطط فى اهتمام شديد ، تضع لهم الطعام والماء ، واللبن – إن وجد - ثم تربت على ظهورهم فى حنان وعطف . ذات مرة كنت ذاهب إليها ، طرقت الباب كثيرا ولم يجب أحد ، اتصلت هاتفيا فلم يجبني أحد ، لذا قررت استخدام مفتاح الشقة الاحتياطي التي قد اعطته له فى حالات الضرورة ، فتحت الباب ودخلت ، سكون مطبق ، القطط تطلق مواء متصل بشكل مدهش ، اصابني الجزع والخوف ,. أخذت انادي على عمتي فى كل مكان وكل حجرة ، إلى أن وجدتها فى غرف المعيشة تجلس مستندة براسها على الحائط وفى يديها القرآن .. أصابعها باردة ، عينيها جاحظتان . بعد وفاة عمتي لم أنس القطط ، كنت دوما افعل مثلما تفعل ، أضع الطعام والماء ، اربت على ظهورهم فى عطف وحنان . تمت تمت