تهللت أسارير عمرو عندما صعد إلى الطائرة المتجهة إلى مطار برلين ، وعندما استقر داخل الطائرة أطلق زفرة حارة وهو ينظر من خلال نافذة الطائرة . وهو يودع الماضي الأليم ، ماضي البحث عن عمل بلا فائدة ، ربما هو نوع من الهروب ولكنه لن يستطيع أن يحتمل الحياة فى مصر أكثر من ذلك ، فقر ووحدة .. مهندس مع إيقاف التنفيذ .. وفاة والدته .. لم يعد له فى الحياة سوى شقيق يعمل فى السفارة المصرية ببرلين وهو الذي سعى له فى عمله الجديد ، يعلم أن الوظيفة المنتظرة ليست على قدر من الاحترام ، ولكنه تمسك بها ليهرب من الفقر والوحدة خاصة أن راتبها يعادل ثلاثة أضعاف راتب المهندس الحاذق الخبير فى مهنته . إنها وظيفة مدير أعمال منزل لأسرة ألمانية تعيش فى مدينة شتوتجارت . وصل مطار برلين حيث استقبله أخيه بحفاوة بالغة .. وبعد تبادل التحيات والتهاني .. بدأ الأخ الأكبر فى سرد تفاصيل عن وظيفة عمرو الجديدة .. إنها تعد من أكبر العائلات الألمانية وله معهم صداقة قديمة ، عندما كانوا يعيشون فى العاصمة .. وهم يثقون به ، لذلك فقد وصى أخيه باحترام هذه الثقة لانهم أناس على قدر كبير من الأهمية ورغم أن الأسرة الألمانية كانت لديها تحفظ كبير على أن يعمل عمرو لديهم مدير منزل لإنه عربي مسلم - فقد كانت لديهم ما يشبه فوبيا الاسلام - إلا أنهم وافقوا على مضض بسبب نقص هذه الكوادر الموجودة فى ألمانيا بجانب أنهم سوف يعطونه راتبا أقل مما يمكن أن يحصل عليه أي مدير منزل ألماني الجنسية ولكنهم اشترطوا أن يحتفظوا بجواز السفر كضمان للتأكد من ولائه فى العمل لديهم . تعرف عمرو على الأسرة المكونة من ثلاثة أفراد كأغلب الأسر الألمانية .. الأب ويدعى كارل مولر ، لاعب كرة قدم بنادي شتوتجارت .. وزوجته جولي مولر وتعمل محاسبة بشركة اتصالات ، وطفلهما الوحيد فرانز ، فى السابعة من عمره .. رغم نظرات الحدة والترقب التي كانت تنطلق من عيونهم إلا أنه علم من أخيه أن طباعهم قد تكون صعبة فى البداية ولكنه سيآلف ذلك ويعتاد على التعامل معهم . بدأ عمرو يتعرف على مهام عمله من كارل .. حمد الله أنه تعلم اللغة الألمانية عندما كان فى المرحلة الثانوية حتى يستطيع يلتقط بعض الكلمات التي ينطقون بها وإلا فانه لن يمكنه التعامل معهم بسبب غطرستهم بهذه اللغة ، كان برنامجه اليومي المعتاد .. هو الاهتمام أولا بالطفل فرانز ، يصطحبه مبكرا للمدرسة ثم يعود وحده للاهتمام بشؤون المنزل وبعد ذلك يعود مرة آخرى لتوصيل الطفل الى المنزل .. وقد بالغت الأم فى توصية عمرو بالاهتمام عند عبور الشارع المؤدي إلى طريق المنزل بسبب وجود قاعدة عسكرية أمريكية قريبة ، وبالفعل كان عمرو يلتزم بالتعليمات وينفذ ما وكل به . ظلت مهمة عمرو مع فرانز صعبة فى البداية رغم أن الصبي هادىء ورقيق لكنه كان مترقبا ومتوجسا من خادمه الجديد وبين الحين والآخر يحملق تجاهه فى شك وريبة ، لم يكن صعبا على عمرو الأعمال المنزلية لانه كان يعيش فى مصر وحده لفترة طويلة واستطاع أن يتعلم الكثير من أعمال المنزل ، خصص عمرو نصف ساعة قبل النوم لقراءة القرآن حتى لا ينسى لسانه أطيب الكلم فقد كان أكثر من يحتاجه فى الغربة ..وبعد مرور وقت بدأت الأسرة تعتاد على وجود عمرو بينهم ، وبمرور الأيام زادت ثقة العائلة فى الوافد المسلم بأخلاقه العالية واحترامه لذاته ولكل عضو فى البيت ، أكثر ما كان يزيد احترام وتقدير الأسرة لعمرو هو اهتمامه بالنظافة الشخصية وحرصه على الطهارة و الوضوء والصلاة بانتظام رغم برودة الطقس مما جعله مصدر لطمأنينة العائلة .. حتى أن الطفل ذاته بدأ يشعر بحب وميل لخادمه ، راقب كارل عمرو أكثر من مرة فى غرفة الأخير الخاصة ، مسترقا السمع وهو يقرأ القرآن فى خشوع وترتيل حتى أنه شعر بقشعريرة باردة تسري فى أوصاله رغم أنه لم يفهم كلمة واحدة . حاول عمرو ألا يظهر إستيائه تجاه كارل أو جولي وهم يحتسيان الخمر ويثملان فى مظهر مقزز يدعو للشفقة . لاحظت الأم تعلق الطفل بعمرو تدريجيا حتى أن مخاوفها عادت من جديد للظهور بسبب أنه مسلما واتخاذ الطفل له قدوة قد تؤدي الى نتائج وخيمة .. ولكنها لم تحاول نقل تلك الظنون الى زوجها لانها كانت ترى السعادة فى عيون طفلها الوحيد برعاية وعناية عمرو . وبصورة غير متوقعة بدأت مشاعر جولي تتطور تجاه عمرو ، فلم تكن مشاعر ربة منزل لخادم وأنما من أنثى لذكر .. مشاعر وعواطف تنمو لاشعوريا ، بدأت ترى فى عمرو مالا تراه فى زوجها ... وفى الاتجاه الآخر بدأ عمرو يقابل هذه المشاعر والعواطف الجياشة بنوع من البرود والتجاهل الحذر لانه كان يعلم أنه مجرد خادم وأنها ربما تكون مجرد نظرات من التقدير والعرفان بالجميل .. لم يكترث لتلك النظرات الحانية أو المعاملة الرقيقة من جانب المرأة . وذات يوم فوجىء عمرو ب جولي تثمل فى المنزل بمفردها وكان زوجها كارل سافر منذ أسبوع مع فريقه ، اندهش لرؤية جولي تتصرف تصرفات صبيانية حمقاء ثم اضطر الى الدخول الى غرفة نومه حتى لا يتطور الأمور . ولكنها استمرت فى فقدها لرشدها واقتحمت عليه الغرفة فى ترنح ونظرات الرغبة تنطلق من عينيها .. أصبح عمرو فى موقف لا يحسد عليه ، اضطر أن يطردها من الغرفة ونهرها بقسوة حتى تعود إلى عقلها مرة آخرى .. ومنذ ذلك اليوم تحولت نظرات الحب والتقدير الى نظرات من الكراهية والبغضاء والرغبة فى الانتقام .. وبمجرد عودة كارل أستاذنه عمرو فى الانصراف .. ورغم ذهول كارل من طلب عمرو المفاجىء الا انه رضخ مكرها أمام إصراره العجيب والغامض .. ولم تبدي جولي أي مشاعر تذكر حين رأت عمرو يودع الجميع .. لجأ عمرو مرة آخرى إلى علي .. وباتصالاته استطاع علي أن يوظف عمرو فى ملحق تابع لمركز إسلامي ببرلين .. وبدأ ينسى تدريجيا كل ماحدث له فى منزل كارل ، متذكرا دموع الطفل فرانز الذي بكي بحرارة لما علم باستقالة عمرو وأنه لن يراه أبدا .. حاول ان يمحو من ذاكرته نزق جولي ..ومع مرور الوقت استطاع عمرو أن يأقلم حياته مرة آخرى على العمل فى هذا المركز الاسلامي .. أحب المكان وزملاؤه .. وتعرف على فتاة حسناء ذات خلق رفيع ..تحمل الجنسية الألمانية وهي من أصل تركي ، تدعى ليلى وبعد فترة مناسبة من الارتباط والحب ,.. تزوجا . مر عاما على الزواج .. ورغم أن الراتب الذي كان يحصل عليه عمرو أقل من راتب مدير منزل إلا أنه شعر ببركة أكبر من راتبه فى منزل كارل بركته ، كذلك كان احترامه لنفسه أكبر ، وفى يوم كان عمرو يقرأ فى إحدى الجرائد ، ووجد خبرا مصورا عن مصرع ابن لاعب كرة قدم شهير .. وفى التفاصيل قرأ موت الطفل كارل فى حادث سيارة وإصابة جولي بجروح وكسور خطيرة . هرع عمرو الى المستشفى .. استقبله كارل بترحاب يخالطه الحسرة والألم لفقد طفله الوحيد وإصابة زوجته بجروح خطيرة قد تودي بحياتها وهي الآن بين الحياة والموت .. أخذ عمرو يربت على كتفيه ويهون عليه من هذه الفاجعة .. وبينما يتحدث كارل مع عمرو تذكر كارل شيئا هاما يريد محادثة جولي به ..ذهب إلى حجرتها وهم أن يدخل لولا أنه سمع طرفا من حديث جولي إلى الكاهن الذي آتي اليها وهي تحتضر . ويبدو أنه كان تقوم باعترافات أخيرة ، من بينها أنها أحبت عمرو الذي كان يعمل لديهم وأنها حاولت إغوائه .. عند تلك النقطة جن جنون كارل واغتاظ بشدة ، شعر بحنق شديد يخاله شعور بالخزي والعار .. لكن سرعان ما تماسك حين أضافت فى اعترافها أن عمرو قاومها ورفض رغبتها الآثمة .. وبعدها لفظت انفاسها الأخيرة وفارقت روحها الحياة .. شعر كارل بألم وحزن لخيانة زوجته أكثر من فراقها .. شعر أن سنوات العمر ذهبت سدى .. وعندما ذهب إلى عمرو وأخبره بما سمعه .. تعلثم عمرو فى البداية وقال إنها كانت ثملة وإنه رفض .. سأله كارل فى اهتمام عن سبب الرفض رغم أنه لم يكون موجودا بالمنزل وقتها وأنه لم يكن ليعرف أبدا ، عندئذ أوضح عمرو أنه مسلم ، ودينه لا يقبل ذلك ، بل يحضه على عدم خيانة الأمانة وينهاه عن الفحشاء والمنكر ، لفت انتباه كارل هذا الدين ، الذي لم يسمع به من قبل وطلب من عمرو أن يذكر له تفاصيل ومعلومات أكثر .. وجد عمرو أنها فرصة مناسبة وسانحة لأن يقنع كارل بذلك الدين ، عن أركانه ، تعاليمه وشرائعه وعقيدته المعتدلة وحثه على مكارم الأخلاق .. وبعدها نطق كارل الشهادتين .. وحسن إسلامه ، وسمى نفسه عبدالله .. توطدت صداقة عمرو بكارل منذ ذلك الحين .. وكان عمرو عندما يريد أن يداعبه يلقبه بالشيخ كارل .. ولكن كارل كان يحب اسم عبدالله اكثر .. بيد أن إشهار إسلام كارل لاعب كرة القدم الشهير فى ألمانيا قد جلب عليه بعض الأحقاد والضغائن ، وبدأ اضطاده من جانب زملاءه وأصدقائه .. ولكنه كان قد صمم على أن يواصل دون التفات لاي ضغوط ، أنه يعزم ألا يموت إلا مسلما مؤمنا بالله وبرسوله .. وتناقلت وسائل الاعلام المحلية والدولية خبر إشهار إسلامه حتى ذاع صيته ، لدرجة أن نادي الوحدة السعودي حاول التعاقد مع كارل للاحتراف لديهم .. وبالفعل وجدها كارل فرصة مناسبة جدا للذهاب الى مكة وزيارة الاماكن المقدسة واداء مناسك الحج ورؤية المدينةالمنورة .. ودع كارل صديقه عمرو بحرارة وشوق وذهب الى السعودية وظل يراسل عمرو بين الحين والآخر .. بينما ظل عمرو ببرلين مع زوجته واستقر به المقام مع أسرته الهادئة وبحياته الهانئة وكان يتبادل هو وأخيه علي الزيارات أسبوعيا ليتعرف كل منهما على حال الآخر ومشاكله وهمومه وهو يتذكر كل ما حدث منذ أن وصل الى ألمانيا ، ظل حنينه الى مصر يباغته كل فترة وقرر أن يزورها قريبا مع زوجته ويعرفها على معالم بلده الجميلة ومسقط رأسه .. ودعا الله أن يجعلها منارة للإسلام وأن يصلح حالها . تمت