فى أحد المقاهي المتناثرة حول حي بين السرايات ، جلست على مقعد بانتظار صديق قديم .. وعلى الفور أتي إلي صبي المقهى مقبلا فى حماس ولهفة متسائلا ماذا يقدم لي من المشروبات المتنوعة .. أخبرته أن ينتظر قليلا حتى يأتي صديقي ونطلب سويا – وكانت تلك عادتنا فى أي مقهى نذهب إليه – وبينما أنا أشرد ببصري بعيدا نحو المارة ، وقعت عيني على أحد المتشردين الذين يتسولون حول المقهى ، كانت ملابسه بالية متسخة ورائحته عطنة ووجهه مغطى بلحية كثيفة مشعثة ، ظللت مراقبا إياه فى فضول .. حتى حضر صديقي .. أخذ صديقي يقص لي معاناته فى الحصول على فرصة عمل دائمة .. فكان يتنقل بين عمله فى أحد متاجر السوبر ماركت ثم مكتبة وأخيرا عمل لفترة قصيرة فى مصنع للأحذية .. كان يشكو لي قلة فرص العمل رغم أنه حاصل على ليسانس آداب ، مثلي ومثل ألالاف الخريجيين ، ثم سألني صديقي محمد عن أحوالي فى مهنة السمسرة .. هممت أن أجيبه ولكن لاح لي وجه المتشرد يطل نحونا .. وأخذت بدوري أحدق نحوه .. تساءل محمد عن سر الاهتمام بهذا الرجل .. فأجبته أنه يخيل إلي أنني رأيته من قبل ، التفت محمد نحوه بحركة غريزية وأخذ يحملق تجاه الرجل وهتف قائلا : ده زميلنا فاروق جمعة .. قسم الفلسفة وربما شعر الرجل بالخزي ، فانطلق يعدو بعيدا عن المكان .. ثم استطرد محمد بلهجة تخالطها الإشفاق والعطف : مسكين ..بعد وفاة أمه وأبوه .. حاول يرجع البلد علشان يلاقي فرصة عمل .. بس على ما اسمع كان فيه تار عليه .. رددت بتاثر شديد : لا حول ولا قوة ألا بالله ، كان نابغة عصره اوما براسه موافقا ،، مع الأسف كل دا بسبب الفقر والبطالة وعلى الفور تذكرت حالي الذي لم يكن أفضل كثيرا من حاله .. فأنا تربيت مع أسرة فقيرة فى " قلعة الكبش " وعندما تخرجت من الكلية .. اتجهت أنظار أشقائي الخمسة إلي باعتباري الأخ الأكبر ومصدر جديد للمال ، إلى ما يمكنني أن اساهم به فى مصروفات المنزل والدراسة والمعيشة .. لذا كان لزاما علي ان أقبل بأي وظيفة مهما كانت .. لم تكن مؤهلاتي ترشحني لاي وظيفة محترمة سوى " مندوب مبيعات " ولكنني بعد فترة أيقنت أن دخلها لا يتناسب ابدا مع مقدار الجهد المبذول فيها " اللي يقطع النفس " . وقد طرأت علي فكرة غريبة وقتها ..تذكرت عندما كنت صغيرا فى المدرسة الثانوي ، كان بعض الزملاء يوكلون إلي بمهمة التامين .. وكان عندما يريد بعضهم معاكسة فتاة فى المدرسة المجاورة من نافذة الفصل أو شرب بعض السجائر أو مشاهدة بعض الصور الإباحية يوكلون إلي مهمة مراقبة الطريقة للتاكد من خلوه من المدرسين أو الطلبة " المرشدين " وبمجرد أن أجد من هو قادم ابعث بصفير متصل يحمل صيغة الانذار .. ومع الوقت اشتهرت بهذه المهمة بين أقراني نظرا لعدة صفات تؤهلني للقيام بها .. منها قوة الملاحظة ، سرعة البديهة ، حدة النظر ، الصوت الرنان .. وبعد التخرج قررت أن استفيد من هذه الموهبة .. وبالفعل كان بعض البائعين الجائلين يركنون إلي بمهمة تامين الطريق تحسبا لوقوع " كبسة من البلدية والشرطة " وقد عملت فى كثير من شوارع سط المدينة المزدحمة والمكتظة بالمارة ، كان أصحاب البضائع يدفعون لي بالساعة وكان علي المراقبة وبمجرد ان ألمح ظل أحدهم قادم أصيح بكلمات متفق عليها مسبقا وفى لمح البصر تصبح البضائع المفروشة على الطريقة أثرا بعد عين .. ولا يقع فى قبضة الشرطة ألا حديثي العهد بالعمل .. فى الحقيقة كان العمل بهذه الطريقة يدر علي ربحا معقولا لا بأس به بالإضافة إلى إشباع موهبتي الدفينة .. والحق أن الذي اعمل معهم كانوا يكافؤنني بسخاء نظير عملي المضني .. وبعد فترة طويلة جدا من العمل الذي اعتدت عليه .. عرض أحدهم فرصة عظيمة علي وهي أن اعمل معه فى السمسرة .. وكان أحدهم ترك البضائع واتجه لتأجير مكتب صغير للعقارات والاراضي .. والحقيقة اتسعت دائرة العمل أكثر وصرت محترما بما يليق .. وازدهر العمل فى المكتب كثيرا .. وأصبحت مع مرور الوقت مديرا لمكتب صديقي الذي هو بدوره تحول إلى رجل أعمال كبير وناجح .. لقد صدق حدسي فيه .. بيد أنني لم أتخلص من عقدتي القديمة ومهنتي السابقة كناضورجي ..فكلما سرت في طريق ورأيت رجال البلدية يتأهبون للانقضاض على بعض تجار البضائع ، اجد نفسي ف حركة تلقائية أصيح بصوت عال وأطلق صفير متقطعا " كتحذير أو إنذار " وكان من معي سواء زوجتي أو اطفالي يندهشون جدا لهذا السلوك وأعينهم تفيض بالحيرة والتساؤل .